الثلاثاء، 11 ديسمبر 2012

الحوار والمجالسة بقلم فواز الشريف


لعلها المرة الأولى التي أبعث فيها بمثل هذا الضرب من الرسائل فجل كتاباتي السابقة ورغم شحها لا تعدو عن كونها من قبيل حديثٍ النفسُ تفضي به إلى بعضها كلما سنحت لها فرصة من وقت ما برحت أغتنمه فأمسك بالدواة والقلم وأخط على أديم الورق بضع كلمات علها تصف ما يساور النفس من خلجات و ما يجول بالخاطر من أفكار ما لبثت كلما ازدحمت في رأسي و اكتظت بها مخيلتي ووجدت فسحة الوقت تلك أن أهرع إلى الكتابة فأبوح إلى قرطاسي ببعض همومي , ولكن في هذه المرة سأخرج عن نطاق السائد والمألوف وما تعارف عليه الناس في تعاطى الرسائل , فلا مقدمات مقلدة و لا عبارات جوفاء زج بها كاتبوها في طي صحائفهم من باب المجاملة الصارخة و التملق الفاضح ليتزلفوا به لدى أصحاب السلطان والجاه , أو لأداء واجب تمليه حتمية السؤال عن الحال حال الإطمئنان على ذوى القربة و استجلاء أخبارهم , وإن كنا لم نعد نرى هذا الشكل من الرسائل إذ يبدو أن ز مانها قد ولى وانقضى في ظل تطور وسائل الاتصال الأخرى ويقف على ناصيتها الهاتف بما أسداه من خدمات جليلة في هذا المضمار من تقريب للبعيد وسؤال عن حال القريب والصديق فحاز بذلك قصب السبق وظفرَ على ما خلاه من وسائل أخرى .

ولكن رسالتي هذه والتي أضعها بين يديك تحمل في طياتها طابع الثرثرة الممتعة و التي درج الأخلاء على تداولها فيما بينهم في مندياتهم و مجالس سمرهم الخاصة خلا أني أحاول أن أقدمها في قالب أدبي أسعى من خلاله إلى أن أسمو بها و أرتقى , على أن رسالتي إليك يا أخي الكريم و ما قد يعقبها من رسائل أُخَر لا تحمل موضوعا بحد ذاته فالمواضيع شتى وطرائقها متشعبة ولكن لو جيز لي أن أنتقى ما أبتدر به مقالتي دون أن أثقل على مسامعك بأمور , حقيقة ما فتئت تؤرقني و تقض مضجعي كلما عرضت لي , و ما أكثر ذلك , ولم تفارقني ساعة من ليل أو من نهار ولكن سلوتي و عزائي أوراق أنثرها أمامي أسطر على صفحاتها ما شاء الله لي من عبارات علها تصور بعضا مما ألم بي من حوادث واعتراني من خطوب ولم تضّنُ علي يوما بالحنو و لم تشح بمحياها الناصع فكنت أجد فيها الملاذ والصدر الحنون والأذن المصغية , أو أخوة أعزاء , و ما أندرهم , أبثهم ببعض مما يجيش في صدري ويعتمل في نفسي المرهقة و التي أرهقتها صروف الدهر وتقلب الأيام وعشوائية المجتمع , فكانت هاتان الوسيلتان متنفسا لي و مغتسلا أغسل به بعضا مما علق بي من هموم و متاعب .

ومن منطلق الثرثرة اللطيفة والتي اتخذتها منطلقا لما أزمع عليه أراني أجنح وبتلقائية محضة إلى الخوض في أمور ربما يعدها البعض من الصغائر فلا يعيروها أدنى اهتمام ولا ينزلوها منزلها الذي تستحقه رغم دقتها وحساسيتها و ما تتركه من أثر و ما تصوره من انطباع سيّما في مجالس القوم و إجتماعاتهم و أعني الخاصة على وجه التحديد وهو ما أستطيع أن أصيغه وأعبر عنه بآداب الحديث و قواعد المجالسة و أصوال المنادمة , وأنا هنا وبحكم ما أخَطْته لنفسي من منهج ,آتيت على ذكره آنفا عن طبيعة هذه المقالة لن أضيف جديد أو أسهب في قديم ولكن وبحكم الطبيعية البشرية وحدها نرى أنفسنا أحيانا و بلا مقدمات نعيد حديثا ونكرر عبارات إما بدافع ثرثري محض أو من قبيل تجزئة الوقت أو لكون هذه الأمور مما يعرض لنا دوما فتجد تلك العبارات السبيل إلى أفواهنا فيعاد تكرارها مرات ومرات .

المجالسة و ما أدراك ما المجالسة ... ؟! و ما يدور فيها من حوارات , وعلى ضوء الخبرة والإطلاع و الاحتكاك الطويل بالناس , يمكن أن أشبهها بالعملية التفاعلية والتي تتحكم بها عوامل شتى منها طبيعة ومكان المجالسة و الحالة النفسية و الثقافية للمتحاورين , حساسية الموضوع و أهميته إلى جانب عامل الخبرة والذوق فجل هذه العوامل تلعب دورا بارزا و هاما في شكل وكيفية الحوار إلى جانب المحصلة النهائية التي يخرج بها المتحاورون , فلو استعرضنا وبشكل سريع و كرؤوس أقلام كل عامل على حدة لأدركنا أهمية هذه العوامل مجتمعة أو مفردة في تقرير مصير جلسةٍ ما و ما ستؤول إليه حالة أربابها حال انقضائها .

فطبيعة المجلس و مكانه هو المنطلق و المسرح الذي تدور عليه أحداث وتفاصيل الحوار لذا يتحتم ملاءمة المكان والزمان لمقتضى حاجة هذا الحوار فلا تدار أحاديث سياسية على موائد عامة و لا تعرض أمور علمية تخصصية على السوقة و الدهماء و محدودي التعليم و لا يخاض في عالم الرياضة مثلا عند من لا يمتون لها بصلة و لا يبت في أمور اجتماعية خاصة في جلسات رسمية أو أن نقحم الأتراح لنكدر بها صفو الأفراح , وإن ما رأيته و مازلت أراه و للأسف الشديد ذاك الخلط البعيد الذي يجتاح مجالسنا و منتديتنا فيوضع العام مكان الخاص والجد في موضع الهزل و نتكلم عندما يكون الإنصات واجب و نجيب حين لا نُسأل ونلهو عند الجد و نجد في الهزل و يخلط الغث بالسمين في ريع واحد حتى يختلط الحابل بالنابل و تبعا لذلك أضحت مجالس العامة والخاصة مجرد ثرثرة بلا طائل تدار دوما على موائد أحاديثهم و لا تخلو قط من كبائر و صغائر ذنوب تجترها ألسنتهم ناهيك عن هدر للوقت كان حري بذويه إغتنامه فيما يعود على مربعهم بالنفع حتى و إن كانت مجرد تسلية فلتكن بريئة ظريفة وليجعلوها خالصة من شوائب الأثام و أوجاع الرأس هذا إلى جانب سوء أدب نلمسه تبرز صوره في مقاطعة جائرة للحديث أو رفع العقيرة ب أصوات منكرة أو فغر أفواه تفوح منها روائح منتنة أبى أصحابها إلا أن يطيبوا بها مجالسِيهِم أبان استرسال خطيب تصدّر المجلس أو الإنصراف بما هو أفرط وأقل شأناً , وبين هذا وذاك من سوء الأدب و الخلط الذي عرضنا له و كأن لسان حال المرء يقول حشفا وسوء كيل .

ثم لا نُغفل الحالة النفسية للمتحاورين فهذا العامل جد خطير فعلى غراره و من منطلقه يمكن تحديد كنه وطبيعة الحوار , فهناك بون شاسع وشقة بعيدة بين منتدى مفعم بالمحبة و الإحترام يخيم على رواده الود والصفاء الخالي من قذى و صديد النفوس العليلة وبين آخر تسيطر على أجوائه غيوم سوداء كئيبة من التشاحن والشد العصبي و قد ألقت الكراهية بوجهها البغيض على أفرادها فلا تخلو محاوراتهم من نبر الطعن والتجريح و الغمز و اللمز متشحا بوشاح المزاح و الدعابة و متسربلا بسربال الصداقة الزائفة يخفون خلف ضحكاتهم و ابتساماتهم و التي لا تخلو من السخرية والتهكم و التندر بالغير , نفوس عليلة عزا برائها قد اضطرمت بين جوانحها نيران الحسد والغيرة و الكراهية المقيتة مدفوعة بعنجهية و عنصرية سوداء لا تستند إلى شرع أو قانون ترعرعت و نمت في بيئة خيم الجهل و ضرب بأطنابه عليها , وكنت أنا ممن في يوم من الأيام قد أقحم مرغما في معتركها و اصطلى بنيرانها و اكتوى بسفودها وهي ضرب من التجارب القاسية تجرعت مرارتها و دفعت ضرائب رسومها لسوء انتقاء أوقعت نفسي في لجته , وقد يكون العامل النفسي السيء سببا في احتدام النقاش و ارتفاع وتيرته مما يؤثر سلبا على الجو العام للج لسة فيتوتر الوضع ويسوء الحال و قد يستحيل في نهاية المطاف إلى مهاترات كلامية وتراشق بقبيح العبارات وتلفظ بأبذأ المفردات لا تلبث أن تصل إلى حد الاشتباك بالأيدي و ما سواها إن تمادى الحمقى في غيهم , ولقد شاهدت بأم عيني فيما مضى ضربا تعيسا من على شاكلة هذه الجلسات المحمومة و هي بلا ريب تعكس صورة لمدى الإنحطاط الأدبي والأخلاقي و الدرك المتدني والرصيد المفلس الذي هوا إليه هؤلاء الفئام فلو كان بهم هباء من عقل لما آلت الأمور إلى هذا الحد فاختلاف وجهات النظر بين أولي النُهى لا يفسد للود قضية , وما زاد على نقاصة العقل تلك جهل مدقع و حماقة خرقاء , ولعمري إن أصحاب العقول الراجحة و الأذواق السليمة ومن يتسمون بخلق قويم لَينأّوْنَ بأنفسهم عن السقوط في تلك الهاوية , ولجرم أن العامل النفسي السيء كان بمثابة الشرارة التي أضرمت النار وولدت الإنفجار .

ثم هناك عوامل التربية والخبرة والذوق , وهي عوامل في الحقيقة أصيلة وليست عارضة فهي ملازمة لطبيعة المتحاورين ملازمة الظل للنهار و الجذر للنبات وعلى وجه الخصوص العامل الأخير في حين أن العاملين التاليين يزدادان بإطّراد كلما تقدمت الأيام والسنون بأهلها وكلما زادت شآبيب المشيب على هامات أصحابها , و لاستعراض تلكم العوامل كل على حدة حتما سيستنفذ من أهل الباع والتخصص الشيء الكثير ولكن حسبنا هاهنا رؤوس أقلام وإشارات نشوح بها من بعد .

التربية ذاك العامل الذي آل على نفسه إلا أن يكون المحدد والموجه الأول لسلوكيات الإنسان برمتها وليس فقط قاصرا على جانب منها , فأغلب تصرفات الإنسان قاطبة يكون لعامل التربية إصبعاً فيه وحسبك أن تعلم أن عقيدة المرء لابد أن تتأثر به فقد ورد في الأثر قوله صلى الله عليه و آله وسلم : ما من مولد إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه …... أو كما قال , فما بالك بسويعات تقضى بين زملاء عمل أو رفقاء سمر أو ندماء صفاء .

أما عامل الذوق أو فن التعامل أو ما اصطلح على تسميتها بالاتيكيت فهو ولا ريب مرتبط بعامل التربية والثقافة أيّما ارتباط وقد تعمدتُ ذِكر الثقافة هنا عنوة فهي رافد من روافد التربية لسيما تربية الإنسان لذاته هو , فالثقافة بكونها صورة من صور التربية تصقل وتضفى الحسن والجديد على الشخصية البشرية شريطة أن تكون ثقافة ذات نبعٍ صافٍ و تخدم مآرب وأهداف سليمة فالثقافة من هذا السبيل وبهذا المنحى ترفع من مستوى الذوق العام وتشذّب أطرافه ولذا يتسنى لنا أن نقول أن التربية تخرج الذوق إلى حيز النور وأن الثقافة تصقله .

عندما أشرع في الحديث عن الثقافة في أي معترك أخوضه أجدني دوما وبلا شعور ذاك النصير الذي حمل لواء الدفاع عنها ضد فئامٍ من الناس انتشروا في المجتمع مبثوثين هنا وهناك , ناصبوها العداء و سعوا جاهدين في كل شاردة و واردة إلى التقليل من شأنها جهلا منهم وحسدا في أنفسهم و عطبا في عقولهم القاصرة و ما مرت ساعة من يوم كانت تجمعني مع هؤلاء الرعاع إلا وقعدت لهم بالمرصاد أقرع بلساني السليط روؤسهم الجوفاء وأنافح ضد غايتهم الخرقاء عن الثقافة وأهلها باذلاً في سبيل هذه الغاية الغالي والنفيس و إن كان المقابل في نظر الآخرين خسارة فادحة لمن أطلقوا على أنفسهم مسمى الأصدقاء و ما هم من الصداقة بقريب , وسر نضالي المستميت عن الثقافة وأهلها لا يخفى على عقل أريب وإن لم يؤتّى كبير حظ من علم أو معرفة فما يلمس ويرى بالعين المجردة لوضع المثقفين وحالهم من تميز وتفوق على الأقران في شتى المجالات مع علو كعب و رفعة في المنزلة ما كانوا ليحظوا به لولا ما أضفت الثقافة على شخصيتهم من رونق وبهاء فهذبت سلوكهم وصقلت أخلاقهم وأكسبتهم مرونة في التعامل ناهيك عن أفق واسع وخيال خصب فما بالك إن جمعت بهم المجالس وتقلدوا زمام الحديث بها … حتما سيكون لمجالسهم عب ق مميز ولحديثهم نكهة خاصة و أثار طيبٍ يخطونها في الذاكرة , كل أولئك نجم عن ما تشربوا وتشبعوا به من ثقافة وحسن إطلاع , فإلى جانب حديث لبق و حسن إصغاء وأدب و جم معلومات يبثونها تثري مجالسيهم وتعود بالنفع العميم على محاوريهم و المنصتين لهم … فمرحى بالثقافة وأهلها وتعسا للجهالة وحزبها .

وبعيد هذا العرض السريع لزمرة تلكم العوامل , والذى أخشى ما أخشاه أني قد أثقلت على مسامعكم بإطنابي فيه , يخرج كلنا بما مفاده تداخل تلك العوامل تداخلاً يُنَاءُ بها عن الفصل لتألّف مجتمعة منظومة واحدة مترابطة تعمل سويا على إنجاح أو إخفاق العملية التحاورية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق