الثلاثاء، 18 ديسمبر 2012

تعريف متكامل للفتوى


فَتْوى


التّعريف

1 - الفتوى لغةً : اسم مصدر بمعنى الإفتاء ، والجمع : الفتاوى والفتاوي ، يقال : أفتيته فتوى وفتيا إذا أجبته عن مسألته ، والفتيا تبيين المشكل من الأحكام ، وتفاتوا إلى فلان : تحاكموا إليه وارتفعوا إليه في الفتيا ، والتّفاتي : التّخاصم ، ويقال : أفتيت فلاناً رؤيا رآها ، إذا عبّرتها له ومنه قوله تعالى حاكياً : « يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ » . والاستفتاء لغةً : طلب الجواب عن الأمر المشكل ، ومنه قوله تعالى : « وَََلا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا » .
وقد يكون بمعنى مجرّد سؤال ، ومنه قوله تعالى : « فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا » ، قال المفسّرون : أي اسألهم .
والفتوى في الاصطلاح : تبيين الحكم الشّرعيّ عن دليل لمن سأل عنه وهذا يشمل السّؤال في الوقائع وغيرها .
والمفتي لغةً : اسم فاعل أفتى ، فمن أفتى مرّةً فهو مفت ، ولكنّه يحمل في العرف الشّرعيّ بمعنًى أخصّ من ذلك ، قال الصّيرفيّ : هذا الاسم موضوع لمن قام للنّاس بأمر دينهم ، وعلم جمل عموم القرآن وخصوصه ، وناسخه ومنسوخه ، وكذلك السّنن والاستنباط ، ولم يوضع لمن علم مسألةً وأدرك حقيقتها ، فمن بلغ هذه المرتبة سمّوه بهذا الاسم ، ومن استحقّه أفتى فيما استفتي فيه .
وقال الزّركشيّ : المفتي من كان عالماً بجميع الأحكام الشّرعيّة بالقوّة القريبة من الفعل ، وهذا إن قلنا بعدم تجزّؤ الاجتهاد .

الألفاظ ذات الصّلة

«أ - القضاء»
2 - القضاء : هو فصل القاضي بين الخصوم ، ويقال له أيضاً : الحكم ، والحاكم : القاضي .
والقضاء شبيه بالفتوى إلاّ أنّ بينهما فروقاً :
منها : أنّ الفتوى إخبار عن الحكم الشّرعيّ ، والقضاء إنشاء للحكم بين المتخاصمين . ومنها : أنّ الفتوى لا إلزام فيها للمستفتي أو غيره ، بل له أن يأخذ بها إن رآها صواباً وله أن يتركها ويأخذ بفتوى مفت آخر ، أمّا الحكم القضائيّ فهو ملزم ، وينبني عليه أنّ أحد الخصمين إذا دعا الآخر إلى فتاوى الفقهاء لم نجبره ، وإن دعاه إلى قاض وجب عليه الإجابة ، وأجبر على ذلك ، لأنّ القاضي منصوب لقطع الخصومات وإنهائها .
ومنها : ما نقله صاحب الدّرّ المختار عن أيمان البزّازيّة : أنّ المفتي يفتي بالدّيانة ، أي على باطن الأمر ، ويديّن المستفتي ، والقاضي يقضي على الظّاهر ، قال ابن عابدين : مثاله إذا قال رجل للمفتي : قلت لزوجتي : أنت طالق قاصداً الإخبار كاذباً فإنّ المفتي يفتيه بعدم الوقوع ، أمّا القاضي فإنّه يحكم عليه بالوقوع .
ومنها : ما قال ابن القيّم : إنّ حكم القاضي جزئيّ خاصّ لا يتعدّى إلى غير المحكوم عليه وله ، وفتوى المفتي شريعة عامّة تتعلّق بالمستفتي وغيره ، فالقاضي يقضي قضاءً معيّناً على شخص معيّن ، والمفتي يفتي حكماً عامّاً كلّيّاً : أنّ من فعل كذا ترتّب عليه كذا ، ومن قال كذا لزمه كذا .
ومنها : أنّ القضاء لا يكون إلاّ بلفظ منطوق ، وتكون الفتيا بالكتابة والفعل والإشارة .
«ب - الاجتهاد»
3 - الاجتهاد : بذل الفقيه وسعه في تحصيل الحكم الشّرعيّ الظّنّيّ .
والفرق بينه وبين الإفتاء : أنّ الإفتاء : يكون فيما علم قطعاً أو ظنّاً ، أمّا الاجتهاد فلا يكون في القطعيّ ، وأنّ الاجتهاد يتمّ بمجرّد تحصيل الفقيه الحكم في نفسه ، ولا يتمّ الإفتاء إلاّ بتبليغ الحكم للسّائل .
والّذين قالوا : إنّ المفتي هو المجتهد ، أرادوا بيان أنّ غير المجتهد لا يكون مفتياً حقيقةً ، وأنّ المفتي لا يكون إلاّ مجتهداً ، ولم يريدوا التّسوية بين الاجتهاد والإفتاء في المفهوم .

الحكم التّكليفيّ

4 - الفتوى فرض على الكفاية ، إذ لا بدّ للمسلمين ممّن يبيّن لهم أحكام دينهم فيما يقع لهم ، ولا يحسن ذلك كلّ أحد ، فوجب أن يقوم به من لديه القدرة .
ولم تكن فرض عين لأنّها تقتضي تحصيل علوم جمّة ، فلو كلّفها كلّ واحد لأفضى إلى تعطيل أعمال النّاس ومصالحهم ، لانصرافهم إلى تحصيل علوم بخصوصها ، وانصرافهم عن غيرها من العلوم النّافعة ، وممّا يدلّ على فرضيّتها قول اللّه تبارك وتعالى : « وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ » .
وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من سئل عن علم ثمّ كتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار » .
قال المحلّيّ : ومن فروض الكفاية القيام بإقامة الحجج العلميّة ، وحلّ المشكلات في الدّين ، ودفع الشّبه ، والقيام بعلوم الشّرع كالتّفسير والحديث والفروع الفقهيّة بحيث يصلح للقضاء والإفتاء للحاجة إليهما .
ويجب أن يكون في البلاد مفتون ليعرفهم النّاس ، فيتوجّهوا إليهم بسؤالهم يستفتيهم النّاس ، وقدّر الشّافعيّة أن يكون في كلّ مسافة قصر واحد .
«تعيّن الفتوى»
5 - من سئل عن الحكم الشّرعيّ من المتأهّلين للفتوى يتعيّن عليه الجواب ، بشروط : الأوّل : أن لا يوجد في النّاحية غيره ممّن يتمكّن من الإجابة ، فإن وجد عالم آخر يمكنه الإفتاء لم يتعيّن على الأوّل ، بل له أن يحيل على الثّاني ، قال عبد الرّحمن بن أبي ليلى : أدركت عشرين ومائةً من الأنصار من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يسأل أحدهم عن المسألة ، فيردّها هذا إلى هذا ، وهذا إلى هذا ، حتّى ترجع إلى الأوّل : وقيل : إذا لم يحضر الاستفتاء غيره تعيّن عليه الجواب .
الثّاني : أن يكون المسئول عالماً بالحكم بالفعل ، أو بالقوّة القريبة من الفعل ، وإلاّ لم يلزم تكليفه بالجواب ، لما عليه من المشقّة في تحصيله .
الثّالث : أن لا يمنع من وجوب الجواب مانع ، كأن تكون المسألة عن أمر غير واقع ، أو عن أمر لا منفعة فيه للسّائل ، أو غير ذلك .
«منزلة الفتوى»
6 - تتبيّن منزلة الفتوى في الشّريعة من عدّة أوجه ، منها :
أ - أنّ اللّه تعالى أفتى عباده ، وقال : « وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ » ، وقال : « يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ » .
ب - أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يتولّى هذا المنصب في حياته ، وكان ذلك من مقتضى رسالته ، وقد كلّفه اللّه تعالى بذلك حيث قال : « وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ » .
فالمفتي خليفة النّبيّ صلى الله عليه وسلم في أداء وظيفة البيان ، وقد تولّى هذه الخلافة بعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه الكرام ، ثمّ أهل العلم بعدهم .
ج - أنّ موضوع الفتوى هو بيان أحكام اللّه تعالى ، وتطبيقها على أفعال النّاس ، فهي قول على اللّه تعالى ، أنّه يقول للمستفتي : حقّ عليك أن تفعل ، أو حرام عليك أن تفعل ، ولذا شبّه القرافيّ المفتي بالتّرجمان عن مراد اللّه تعالى ، وجعله ابن القيّم بمنزلة الوزير الموقّع عن الملك قال : إذا كان منصب التّوقيع عن الملوك بالمحلّ الّذي لا ينكر فضله ، ولا يجهل قدره ، وهو من أعلى المراتب السّنيّات ، فكيف بمنصب التّوقّع عن ربّ الأرض والسّموات ، نقل النّوويّ : المفتي موقّع عن اللّه تعالى ، ونقل عن ابن المنكدر أنّه قال : العالم بين اللّه وبين خلقه ، فلينظر كيف يدخل بينهم .
«تهيّب الإفتاء والجرأة عليه»
7 - ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قوله : « أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النّار » ، وقد تقدّم النّقل عن ابن أبي ليلى ترادّ الصّحابة للجواب عن المسائل .
وقد نقل النّوويّ في حديثه عنهم روايةً فيها زيادة : ما منهم من يحدّث بحديث إلاّ ودّ أنّ أخاه كفاه إيّاه ، ولا يستفتى عن شيء إلاّ ودّ أنّ أخاه كفاه الفتيا ونقل عن سفيان وسحنون : أجسر النّاس على الفتيا أقلّهم علماً ، فالّذي ينبغي للعالم أن يكون متهيّباً للإفتاء ، لا يتجرّأ عليه إلاّ حيث يكون الحكم جليّاً في الكتاب أو السّنّة ، أو يكون مجمعاً عليه ، أمّا فيما عدا ذلك ممّا تعارضت فيه الأقوال والوجوه وخفي حكمه ، فعليه أن يتثبّت ويتريّث حتّى يتّضح له وجه الجواب ، فإن لم يتّضح له توقّف .
وفيما نقل عن الإمام مالك أنّه ربّما كان يسأل عن خمسين مسألةً فلا يجيب في واحدة منها ، وكان يقول : من أجاب فينبغي قبل الجواب أن يعرض نفسه على الجنّة والنّار ، وكيف خلاصه ، ثمّ يجيب ، وعن الأثرم قال : سمعت أحمد بن حنبل يكثر أن يقول : لا أدري .
«الفتوى بغير علم»
8 - الإفتاء بغير علم حرام ، لأنّه يتضمّن الكذب على اللّه تعالى ورسوله ، ويتضمّن إضلال النّاس ، وهو من الكبائر ، لقوله تعالى : « قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ » ، فقرنه بالفواحش والبغي والشّرك ، ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتّى إذا لم يبق عالماً اتّخذ النّاس رءوساً جهّالاً ، فسئلوا ، فأفتوا بغير علم ، فضلّوا وأضلّوا » .
من أجل ذلك كثر النّقل عن السّلف إذا سئل أحدهم عمّا لا يعلم أن يقول للسّائل : لا أدري . نقل ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما والقاسم بن محمّد والشّعبيّ ومالك وغيرهم ، وينبغي للمفتي أن يستعمل ذلك في موضعه ويعوّد نفسه عليه ، ثمّ إن فعل المستفتي بناءً على الفتوى أمراً محرّماً أو أدّى العبادة المفروضة على وجه فاسد ، حمل المفتي بغير علم إثمه ، إن لم يكن المستفتي قصّر في البحث عمّن هو أهل للفتيا ، وإلاّ فالإثم عليهما ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه » .
«أنواع ما يفتى فيه»
9 - يدخل الإفتاء الأحكام الاعتقاديّة : من الإيمان باللّه واليوم الآخر وسائر أركان الإيمان . ويدخل الأحكام العمليّة جميعها : من العبادات والمعاملات والعقوبات والأنكحة ، ويدخل الإفتاء الأحكام التّكليفيّة كلّها ، وهي الواجبات والمحرّمات والمندوبات والمكروهات والمباحات ، ويدخل الإفتاء في الأحكام الوضعيّة كالإفتاء بصحّة العبادة أو التّصرّف أو بطلانهما .
«حقيقة عمل المفتي»
10 - لمّا كان الإفتاء هو الإخبار بالحكم الشّرعيّ عن دليله ، فإنّ ذلك يستلزم أموراً : الأوّل : تحصيل الحكم الشّرعيّ المجرّد في ذهن المفتي ، فإن كان ممّا لا مشقّة في تحصيله لم يكن تحصيله اجتهاداً ، كما لو سأله سائل عن أركان الإسلام ما هي ؟ أو عن حكم الإيمان بالقرآن ؟ وإن كان الدّليل خفيّاً ، كما لو كان آيةً من القرآن غير واضحة الدّلالة على المراد ، أو حديثاً نبويّاً وارداً بطريق الآحاد ، أو غير واضح الدّلالة على المراد ، أو كان الحكم ممّا تعارضت فيه الأدلّة أو لم يدخل تحت شيء من النّصوص أصلاً ، احتاج أخذ الحكم إلى اجتهاد في صحّة الدّليل أو ثبوته أو استنباط الحكم منه أو القياس عليه .
الثّاني : معرفة الواقعة المسئول عنها ، بأن يذكرها المستفتي في سؤاله ، وعلى المفتي أن يحيط بها إحاطةً تامّةً فيما يتعلّق به الجواب ، بأن يستفصل السّائل عنها ، ويسأل غيره إن لزم ، وينظر في القرائن .
الثّالث : أن يعلم انطباق الحكم على الواقعة المسئول عنها ، بأن يتحقّق من وجود مناط الحكم الشّرعيّ الّذي تحصّل في الذّهن في الواقعة المسئول عنها لينطبق عليها الحكم ، وذلك أنّ الشّريعة لم تنصّ على حكم كلّ جزئيّة بخصوصها ، وإنّما أتت بأمور كلّيّة وعبارات مطلقة ، تتناول أعداداً لا تنحصر من الوقائع ، ولكلّ واقعة معيّنة خصوصيّة ليست في غيرها .
وليست الأوصاف الّتي في الوقائع معتبرةً في الحكم كلّها ، ولا هي طرديّة كلّها ، بل منها ما يعلم اعتباره ، ومنها ما يعلم عدم اعتباره ، وبينهما قسم ثالث متردّد بين الطّرفين ، فلا تبقى صورة من الصّور الوجوديّة المعيّنة إلاّ وللمفتي فيها نظر سهل أو صعب ، حتّى يحقّق تحت أيّ دليل تدخل ، وهل يوجد مناط الحكم في الواقعة أم لا ، فإذا حقّق وجوده فيها أجراه عليها ، وهذا اجتهاد لا بدّ منه لكلّ قاض ومفت ، ولو فرض ارتفاع هذا الاجتهاد لم تتنزّل الأحكام على أفعال المكلّفين إلاّ في الذّهن ، لأنّها عمومات ومطلقات ، منزّلة على أفعال مطلقة كذلك ، والأفعال الّتي تقع في الوجود لا تقع مطلقةً ، وإنّما تقع معيّنةً مشخّصةً ، فلا يكون الحكم واقعاً عليها إلاّ بعد المعرفة بأنّ هذا المعيّن يشمله ذلك المطلق أو ذلك العامّ ، وقد يكون ذلك سهلاً وقد لا يكون ، وذلك كلّه اجتهاد .
ومثال هذا : أن يسأله رجل هل يجب عليه أن ينفق على أبيه ؟ .
فينظر أوّلاً في الأدلّة الواردة ، فيعلم أنّ الحكم الشّرعيّ أنّه يجب على الابن الغنيّ أن ينفق على أبيه الفقير ، ويتعرّف ثانياً ، حال كلّ من الأب والابن ، ومقدار ما يملكه كلّ منهما ، وما عليه من الدّين ، وما عنده من العيال ، إلى غير ذلك ممّا يظنّ أنّ له في الحكم أثراً ، ثمّ ينظر في حال كلّ منهما ليحقّق وجود مناط الحكم - وهو الغنى والفقر - فإنّ الغنى والفقر اللّذين علّق بهما الشّارع الحكم لكلّ منهما طرفان وواسطة ، فالغنى مثلاً له طرف أعلى لا إشكال في دخوله في حدّ الغنى ، وله طرف أدنى لا إشكال في خروجه عنه ، وهناك واسطة يتردّد النّاظر في دخولها أو خروجها ، وكذلك الفقر له أطراف ثلاثة - فيجتهد المفتي في إدخال الصّورة المسئول عنها في الحكم أو إخراجها بناءً على ذلك .
وهذا النّوع من الاجتهاد لا بدّ منه في كلّ واقعة - وهو المسمّى تحقيق المناط - لأنّ كلّ صورة من صور النّازلة نازلة مستأنفة في نفسها ، لم يتقدّم لها نظير ، وإن فرضنا أنّه تقدّم مثلها فلا بدّ من النّظر في تحقيق كونها مثلها أو لا ، وهو نظر اجتهاد .
«شروط المفتي»
11 - لا يشترط في المفتي الحرّيّة والذّكوريّة والنّطق اتّفاقاً ، فتصحّ فتيا العبد والمرأة والأخرس ويفتي بالكتابة أو بالإشارة المفهمة ، وأمّا السّمع ، فقد قال بعض الحنفيّة : إنّه شرط فلا تصحّ فتيا الأصمّ وهو من لا يسمع أصلاً ، وقال ابن عابدين : لا شكّ أنّه إذا كتب له السّؤال وأجاب عنه جاز العمل بفتواه ، إلاّ أنّه لا ينبغي أن ينصّب للفتوى ، لأنّه لا يمكن كلّ أحد أن يكتب له ، ولم يذكر هذا الشّرط غيرهم ، وكذا لم يذكروا في الشّروط البصر ، فتصحّ فتيا الأعمى ، وصرّح به المالكيّة .
أمّا ما يشترط في المفتي فهو أمور :
12 - أ - الإسلام : فلا تصحّ فتيا الكافر .
ب - العقل : فلا تصحّ فتيا المجنون .
ج - البلوغ : فلا تصحّ فتيا الصّغير .
13 - د : العدالة : فلا تصحّ فتيا الفاسق عند جمهور العلماء ، لأنّ الإفتاء يتضمّن الإخبار عن الحكم الشّرعيّ ، وخبر الفاسق لا يقبل ، واستثنى بعضهم إفتاء الفاسق نفسه فإنّه يعلم صدق نفسه .
وذهب بعض الحنفيّة إلى أنّ الفاسق يصلح مفتياً ، لأنّه يجتهد لئلاّ ينسب إلى الخطأ .
وقال ابن القيّم : تصحّ فتيا الفاسق ، إلاّ أن يكون معلناً بفسقه وداعيّاً إلى بدعته ، وذلك إذا عمّ الفسوق وغلب ، لئلاّ تتعطّل الأحكام ، والواجب اعتبار الأصلح فالأصلح .
وأمّا المبتدعة ، فإن كانت بدعتهم مكفّرةً أو مفسّقةً لم تصحّ فتاواهم ، وإلاّ صحّت فيما لا يدعون فيه إلى بدعهم ، قال الخطيب البغداديّ : تجوز فتاوى أهل الأهواء ومن لا نكفّره ببدعته ولا نفسّقه ، وأمّا الشّراة والرّافضة الّذين يشتمون الصّحابة ويسبّون السّلف فإنّ فتاويهم مرذولة وأقاويلهم غير مقبولة .
14 - هـ - الاجتهاد وهو : بذل الجهد في استنباط الحكم الشّرعيّ من الأدلّة المعتبرة ، لقوله تعالى : « قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ » ، قال الشّافعيّ فيما رواه عنه الخطيب : لا يحلّ لأحد أن يفتي في دين اللّه ، إلاّ رجلاً عارفاً بكتاب اللّه : بناسخه ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، وتأويله وتنزيله ، ومكّيّه ومدنيّه ، وما أريد به ، ويكون بعد ذلك بصيراً بحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن ، ويكون بصيراً باللّغة ، بصيراً بالشّعر ، وما يحتاج إليه للسّنّة والقرآن ويستعمل هذا مع الإنصاف ، ويكون مشرفاً على اختلاف أهل الأمصار ، وتكون له قريحة بعد هذا ، فإذا كان هكذا فله أن يتكلّم ويفتي في الحلال والحرام ، وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يفتي . ا هـ . وهذا معنى الاجتهاد .
ونقل ابن القيّم قريباً من هذا عن الإمام أحمد . ومفهوم هذا الشّرط : أنّ فتيا العامّيّ والمقلّد الّذي يفتي بقول غيره لا تصحّ ،
قال ابن القيّم : وفي فتيا المقلّد ثلاثة أقوال :
الأوّل : ما تقدّم ، وهو أنّه لا تجوز الفتيا بالتّقليد ، لأنّه ليس بعلم ، ولأنّ المقلّد ليس بعالم والفتوى بغير علم حرام ، قال : وهذا قول جمهور الشّافعيّة وأكثر الحنابلة .
الثّاني : أنّ ذلك يجوز فيما يتعلّق بنفسه ، فأمّا أن يتقلّد لغيره ويفتي به فلا .
والثّالث : أنّه يجوز عند الحاجة وعدم العالم المجتهد ، قال : وهو أصحّ الأقوال ، وعليه العمل .
وقال ابن عابدين نقلاً عن ابن الهمام : وقد استقرّ رأي الأصوليّين على أنّ المفتي هو المجتهد ، فأمّا غير المجتهد ممّن يحفظ أقوال المجتهد فليس بمفت ، والواجب عليه إذا سئل أن يذكر قول المجتهد على وجه الحكاية ، فعرف أنّ ما يكون في زماننا من فتوى الموجودين ليس بفتوى ، بل هو نقل كلام المفتي ليأخذ به المستفتي . ا هـ ، وعليه أن يذكره على وجه الحكاية ولا يجعله كأنّه من كلامه هو ، ومقصودهم أنّ فتيا المقلّد ليست بفتيا على الحقيقة ، وتسمّى فتيا مجازاً للشّبه ، ويجوز الأخذ بها في هذه الأزمان لقلّة المجتهدين أو انعدامهم ، ولذا قال صاحب تنوير الأبصار : الاجتهاد شرط الأولويّة .
قال ابن عابدين : معناه : أنّه إذا وجد المجتهد فهو الأولى بالتّولية .
وقال ابن دقيق العيد : توقيف الفتيا على حصول المجتهد يفضي إلى حرج عظيم ، أو استرسال الخلق في أهوائهم ، فالمختار أنّ الرّاوي عن الأئمّة المتقدّمين إذا كان عدلاً متمكّناً من فهم كلام الإمام ، ثمّ حكى للمقلّد قوله فإنّه يكفيه ، لأنّ ذلك ممّا يغلب على ظنّ العامّيّ أنّه حكم اللّه عنده ، قال : وقد انعقد الإجماع في زماننا على هذا النّوع من الفتيا .
قال الزّركشيّ : أمّا من شدا - جمع - شيئاً من العلم فقد نقل الإجماع على أنّه لا يحلّ له أن يفتي .
15 - وليس لمن يفتي بمذهب إمام أن يفتي به إلاّ وقد عرف دليله ووجه الاستنباط .
قال ابن القيّم : لا يجوز للمقلّد أن يفتي في دين اللّه بما هو مقلّد فيه وليس على بصيرة فيه سوى أنّه قول من قلّده ، هذا إجماع السّلف وبه صرّح الشّافعيّ وأحمد وغيرهما .
وقال الجوينيّ في شرح الرّسالة : من حفظ نصوص الشّافعيّ وأقوال النّاس بأسرها غير أنّه لا يعرف حقائقها ومعانيها لا يجوز له أن يجتهد ويقيس ، ولا يكون من أهل الفتوى ، ولو أفتى به لا يجوز ، والأصحّ عند الحنفيّة أنّ المجتهد في المذهب من المشايخ الّذين هم أصحاب التّرجيح لا يلزمه الأخذ بقول الإمام على الإطلاق ، بل عليه النّظر في الدّليل وترجيح ما رجح عنده دليله ، فإن لم يكن كذلك فعليه الأخذ بأقوال أئمّة المذهب بترتيب التزموه ، وليس له أن يختار ما شاء وكذا صرّح الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة بأنّه ليس له أن يتخيّر في مسألة ذات قولين ، بل عليه أن ينظر أيّهما أقرب إلى الأدلّة أو قواعد مذهبه فيعمل به ، قال ابن عابدين : صرّح بذلك ابن حجر المكّيّ من الشّافعيّة ونقل الإجماع عليه وسبقه إلى حكاية الإجماع فيه ابن الصّلاح والباجيّ من المالكيّة ، وإذا كان يعلم أنّ الصّواب في قول غير إمامه وكان له اجتهاد فله أن يفتي بما ترجّح عنده .
وليس للمفتي المقلّد أن يفتي بالضّعيف والمرجوح من الأقوال على ما صرّح به الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، بل نقل الحصكفيّ أنّ العمل بالقول المرجوح جهل وخرق للإجماع وصرّح الحنفيّة بأن ليس للمفتي المقلّد الإفتاء بالضّعيف والمرجوح حتّى في حقّ نفسه ، خلافاً للمالكيّة الّذين أجازوا له العمل بالضّعيف في حقّ نفسه .
16 - وحيث قلنا : إنّ للمقلّد الإفتاء بقول المجتهد ، فيجوز له ذلك سواء كان المقلّد حيّاً أو ميّتاً ، قال الشّافعيّ : المذاهب لا تموت بموت أربابها .
وصرّح بذلك صاحب المحصول ، وادّعى الإجماع عليه ، لأنّ المجتهد الّذي يستنبط حكماً فهو عنده حكم دائم .
وفي وجه آخر للشّافعيّة والحنابلة : لا يجوز ذلك لأنّه لو عاش فإنّه كان يجدّد النّظر عند النّازلة إمّا وجوباً أو استحباباً ، ولعلّه لو جدّد النّظر لرجع عن قوله الأوّل .
17 - وما رجع عنه المجتهد من أقواله فلا يجوز للمقلّد الإفتاء به ، لأنّه برجوعه عنه لم يعدّ قولاً له ، وهذا ما لم يرجّحه أهل التّرجيح ، ومن هنا ترك القديم من أقوال الشّافعيّ الّتي خالفها في الجديد ، إلاّ مسائل معدودةً يعمل فيها بالقديم رجّحها أهل التّرجيح من أئمّة الشّافعيّة ، قال الشّافعيّ : ليس في حلّ من روى عنّي القديم .
18 - و - جودة القريحة : ومعنى ذلك أن يكون كثير الإصابة ، صحيح الاستنباط ، فلا تصلح فتيا الغبيّ ، ولا من كثر غلطه ، بل يجب أن يكون بطبعه شديد الفهم لمقاصد الكلام ودلالة القرائن ، صادق الحكم ، وقد تقدّم في كلام الشّافعيّ : أن تكون له قريحة ، قال النّوويّ : شرط المفتي كونه فقيه النّفس ، سليم الذّهن ، رصين الفكر ، صحيح النّظر والاستنباط . ا هـ .
وهذا يصحّح فتياه من جهتين :
الأولى : صحّة أخذه للحكم من أدلّته .
والثّانية : صحّة تطبيقه للحكم على الواقعة المسئول عنها ، فلا يغفل عن أيّ من الأوصاف المؤثّرة في الحكم ، ولا يعتقد تأثير ما لا أثر له .
19 - ز - الفطانة والتّيقّظ : يشترط في المفتي أن يكون متيقّظاً ، قال ابن عابدين : شرط بعضهم تيقّظ المفتي ، قال : وهذا شرط في زماننا ، فلا بدّ أن يكون المفتي متيقّظاً يعلم حيل النّاس ودسائسهم ، فإنّ لبعضهم مهارةً في الحيل والتّزوير وقلب الكلام وتصوير الباطل في صورة الحقّ ، فغفلة المفتي يلزم منها ضرر كبير في هذا الزّمان ، وقال ابن القيّم : ينبغي للمفتي أن يكون بصيراً بمكر النّاس وخداعهم وأحوالهم ، فإن لم يكن كذلك زاغ وأزاغ ، فالغرّ يروج عليه زغل المسائل كما يروج على الجاهل بالنّقد زغل الدّراهم ، وذو البصيرة يخرج زيفها كما يخرج النّاقد زغل النّقود ، وكم من باطل يخرجه الرّجل بحسن لفظه وتنميقه في صورة حقّ ، بل هذا أغلب أحوال النّاس ، فإن لم يكن المفتي فقيهاً في معرفة أحوال النّاس تصوّر له المظلوم في صورة الظّالم وعكسه ، وممّا يتعلّق بهذا ما نبّه إليه بعض العلماء من أنّه يشترط في المفتي أن يكون على علم بالأعراف اللّفظيّة للمستفتي ، لئلاّ يفهم كلامه على غير وجهه ، وهذا إن كان إفتاؤه في ما يتعلّق بالألفاظ كالأيمان والإقرار ونحوها .
20 - والقرابة والصّداقة والعداوة لا تؤثّر في صحّة الفتوى كما تؤثّر في القضاء والشّهادة ، فيجوز أن يفتي أباه أو ابنه أو صديقه أو شريكه أو يفتي على عدوّه ، فالفتوى في هذا بمنزلة الرّواية ، لأنّ المفتي في حكم المخبر عن الشّرع بأمر عامّ لا اختصاص له بشخص ، ولأنّ الفتوى لا يرتبط بها إلزام ، بخلاف حكم القاضي .
ويجوز أن يفتي نفسه ، قال ابن القيّم : لكن لا يجوز أن يحابي نفسه أو قريبه في الفتيا ، بأن يرخّص لنفسه أو قريبه ، ويشدّد على غيره فإن فعل قدح ذلك في عدالته ، ونقل أبو عمرو بن الصّلاح عن صاحب الحاوي أنّ المفتي إذا نابذ في فتياه شخصاً معيّناً صار خصماً ، فتردّ فتواه على من عاداه ، كما تردّ شهادته عليه إذا وقعت .
وقد نبّه أحمد إلى خصال مكمّلة للمفتي حيث قال : لا ينبغي للرّجل أن ينصب نفسه للفتيا حتّى يكون فيه خمس خصال : أن تكون له نيّة ، فإن لم يكن له نيّة لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور ، وأن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة ، وأن يكون قويّاً على ما هو فيه وعلى معرفته ، والكفاية وإلاّ مضغه النّاس ، ومعرفة النّاس .
«إفتاء القاضي»
21 - لا خلاف في أنّ للقاضي أن يفتي في العبادات ونحوها ممّا لا مدخل فيه للقضاء كالذّبائح والأضاحيّ .
واختلف الفقهاء في إفتائه في الأمور الّتي يدخلها القضاء :
فذهب الشّافعيّة في وجه وصحّحه النّوويّ ، والحنابلة في قول وصحّحه ابن القيّم إلى أنّه يفتي فيها أيضاً بلا كراهة .
وذهب آخرون من الفريقين إلى أنّه لا يجوز ، لأنّه موضع تهمة ، ووجهه أنّه إن أفتى فيها تكون فتياه كالحكم على الخصم ، ولا يمكن نقضه وقت المحاكمة ، ولأنّه قد يتغيّر اجتهاده وقت الحكم ، أو تظهر له قرائن لم تظهر له عند الإفتاء ، فإن حكم بخلاف ما أفتى به جعل للمحكوم عليه سبيلاً للتّشنيع عليه ، وقد قال شريح : أنا أقضي لكم ولا أفتي ، وقال ابن المنذر : يكره للقاضي الإفتاء في مسائل الأحكام الشّرعيّة .
وذهب الحنفيّة في الصّحيح عندهم إلى أنّ للقاضي أن يفتي في مجلس القضاء وغيره في العبادات والأحكام وغيرها ، ما لم يكن للمستفتي خصومة ، فإن كان له خصومة فليس للقاضي أن يفتيه فيها .
ومذهب المالكيّة أنّه يكره للقاضي أن يفتي في ما شأنه أن يخاصم فيه ، كالبيع والشّفعة والجنايات .
قال البرزليّ : وهذا إذا كان فيما يمكن أن يعرض بين يديه ، فلو جاءه السّؤال من خارج البلد الّذي يقضي فيه فلا كراهة .
ثمّ إن أفتى القاضي لم يكن ذلك حكماً ، ويجوز التّرافع إلى غيره ، فلو حكم هو أو غيره في النّازلة بعينها بخلافه لم يكن نقضاً لحكمه ، وإن ردّ شهادة واحد برؤية هلال رمضان لم يؤثّر ذلك في الحكم بعدالته ، ولا يقال : إنّه حكم بكذبه أو بأنّه لم ير الهلال ، لأنّ القضاء لا يدخل العبادات .
كما تقدّم « ف 2 ، 9 » .
«ما تستند إليه الفتوى»
22 - المجتهد يفتي بمقتضى الأدلّة المعتبرة بالتّرتيب المعتبر ، فيفتي أوّلاً بما في كتاب اللّه تعالى ، ثمّ بما في سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم ثمّ بالإجماع ، وأمّا الأدلّة المختلف فيها كالاستحسان وشرع من قبلنا ، فإن أدّاه اجتهاده إلى صحّة شيء منها أفتى به ، وإذا تعارضت عنده الأدلّة فعليه أن يفتي بالرّاجح منها .
وليس له أن يفتي في السّعة بمذهب أحد المجتهدين ، ما لم يؤدّه اجتهاده إلى أنّه هو الحقّ ، وليس له أن يفتي بما هو المرجوح في نظره ، نقل الإجماع على ذلك ابن قدامة والباجيّ ، وأمّا المقلّد - حيث قلنا : يجوز إفتاؤه - فإنّه يفتي بما تيسّر له من أقوال المجتهدين ، ولا يلزمه أن يسأل عن أعلمهم وأفضلهم ليأخذ بقوله ، لما في ذلك من الحرج ، ولأنّ الصّحابة رضي الله عنهم كان السّائل منهم يسأل من تيسّر له سؤاله من المفتين من الصّحابة ، وقيل : عليه أن يبحث عن الأفضل ليأخذ بقوله .
أمّا ما اختلف عليه اجتهاد اثنين فأكثر ، فإنّه يجب عليه التّرجيح بينهما بوجه من وجوه التّرجيح ، وليس هو بالخيار يأخذ ما شاء ويترك ما شاء ، قال النّوويّ : ليس للمفتي والعامل في مسألة القولين أن يعمل بما شاء منهما بغير نظر ، بل عليه العمل بأرجحهما ، وإن بنى المفتي فتياه على حديث نبويّ فعليه أن يكون عالماً بصحّته : إمّا بتصحيحه هو إن كان أهلاً لذلك ، أو يعرف عن أحد من أهل الشّأن الحكم بصحّته .
وإن كان بنى فتياه على قول مجتهد - حيث يجوز ذلك - فإن لم يأخذه منه مشافهةً وجب أن يتوثّق ، قال ابن عابدين : طريقة نقله لذلك إمّا أن يكون له سند إلى المجتهد ، أو يأخذه عن كتاب معروف تناقلته الأيدي ، نحو كتب محمّد بن الحسن ونحوها من التّصانيف المشهورة ، لأنّه بمنزلة الخبر المتواتر المشهور ، وكذا لو وجد العلماء ينقلون عن الكتاب ، ورأى ما نقلوه عنه موجوداً فيه ونحو ذلك ممّا يغلب على الظّنّ ، كما لو رأى على الكتاب خطّ بعض العلماء .
وليحذر من الاعتماد على كتب المتأخّرين غير المحرّرة .
«الإفتاء بالرّأي»
23 - الرّأي هو : ما يراه القلب بعد فكر وتأمّل وطلب لمعرفة وجه الصّواب ، ممّا تتعارض فيه الأمارات ، ولا يقال لما لا تختلف فيه الأمارات : إنّه رأي والرّأي يشمل القياس والاستحسان وغيرهما .
ولا يجوز الإفتاء بالرّأي المخالف للنّصّ أو الإجماع ، ولا يجوز المصير إلى الرّأي قبل العمل على تحصيل النّصوص الواردة في المسألة ، أو القول بالرّأي غير المستند إلى الكتاب والسّنّة ، بل بمجرّد الخرص والتّخمين .
وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه : « كيف تقضي ؟ قال : أقضي بما في كتاب اللّه ، قال : فإن لم يكن في كتاب اللّه ؟ قال : فبسنّة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، قال : فإن لم يكن في سنّة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ؟ قال : أجتهد رأيي ، فقال : الحمد للّه الّذي وفّق رسول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم » .
وعن عمر رضي الله عنه أنّه قال لشريح : ما استبان لك من كتاب اللّه فلا تسأل عنه ، فإن لم يستبن لك في كتاب اللّه فمن السّنّة ، فإن لم تجده في السّنّة فاجتهد رأيك .
«الإفتاء بما سبق للمفتي أن أفتى به»
24 - إذا استفتي في مثل ما سبق له أن أفتى فيه ، فإن كان مستحضراً لفتياه ولدليلها فلا حاجة إلى إعادة النّظر ، لأنّه تحصيل حاصل ، ولأنّ الغرض من النّظر أن تكون فتياه عن علم بما يفتي به ، ما لم يظنّ أنّه لو أعاد النّظر تغيّر اجتهاده .
وإن ذكر الفتوى الأولى ولم يذكر دليلها ، ولا طرأ ما يجب رجوعه ، فقيل : له أن يفتي بذلك ، والأصحّ : وجوب تجديد النّظر .
«التّخيّر في الفتوى عند التّعارض»
25 - إذا تعارضت الأدلّة في نظر المفتي المجتهد ، أو تعارضت الأقوال المعتبرة في نظر المقلّد ، فقد ذهب الأكثرون إلى أنّ المفتي ليس مخيّراً يأخذ بما شاء ويترك ما شاء ، بل عليه أن يرجّح بوجه من وجوه التّرجيح بين الأدلّة على ما هو مبيّن في علم أصول الفقه . وفي تفصيل ذلك ينظر الملحق الأصوليّ .
«تتبّع المفتي للرّخص»
26 - ذهب عامّة العلماء وصرّح به النّوويّ في فتاويه إلى أنّه ليس للمفتي تتبّع رخص المذاهب ، بأن يبحث عن الأسهل من القولين أو الوجهين ويفتي به ، وخاصّةً إن كان يفتي بذلك من يحبّه من صدّيق أو قريب ، ويفتي بغير ذلك من عداهم ، وقد خطّأ العلماء من يفعل ذلك ، نقله الشّاطبيّ عن الباجيّ والخطّابيّ ، ونصّ بعض العلماء منهم أبو إسحاق المروزيّ ، وابن القيّم على فسق من يفعل ذلك ، لأنّ الرّاجح في نظر المفتي هو في ظنّه حكم اللّه تعالى ، فتركه والأخذ بغيره لمجرّد اليسر والسّهولة استهانة بالدّين ، شبيه بالانسلاخ منه ، ولأنّه شبيه برفع التّكليف بالكلّيّة ، إذ الأصل أنّ في التّكليف نوعاً من المشقّة ، فإن أخذ في كلّ مسألة بالأخفّ لمجرّد كونه أخفّ ، فإنّه ما شاء أن يسقط تكليفاً - من غير ما فيه إجماع - إلاّ أسقطه ، فيسقط في الزّكاة مثلاً زكاة مال الصّغير ، وزكاة مال التّجارة ، وزكاة الفلوس وما شابهها ، وزكاة كثير من المعشّرات ، ويسقط تحريم المتعة ، ويجيز النّبيذ ، ونحو ذلك ، قال أحمد : لو أنّ رجلاً عمل بكلّ رخصة : بقول أهل الكوفة في النّبيذ ، وأهل المدينة في السّماع ، وأهل مكّة في المتعة ، كان فاسقاً . أ . هـ وقال الأوزاعيّ : من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام .
وإن أفتى كلّ أحد بما يشتهي انخرم قانون السّياسة الشّرعيّة ، الّذي يقوم على العدالة والتّسوية ، وهذا يؤدّي إلى الفوضى والمظالم وتضييع الحقوق بين النّاس .
قال ابن سريج : سمعت إسماعيل القاضي قال : دخلت على المعتضد ، فدفع إليّ كتاباً نظرت فيه وقد جمع فيه الرّخص من زلل العلماء ، وما احتجّ به كلّ منهم ، فقلت : مؤلّف هذا الكتاب زنديق ، فقال : لم تصحّ هذه الأحاديث ؟ قلت : الأحاديث على ما رويت ، ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة ، ومن أباح المتعة لم يبح المسكر ، وما من عالم إلاّ وله زلّة ، ومن جمع زلل العلماء ثمّ أخذ بها ذهب دينه ، فأمر المعتضد بإحراق هذا الكتاب .
على أنّ الذّاهبين إلى هذا القول لم يمنعوا الإفتاء بما فيه ترخيص إن كان له مستند صحيح .
قال ابن القيّم بعد أن ذكر تتبّع المفتي الرّخص لمن أراد نفعه : فإن حسن قصد المفتي في حيلة جائزة لا شبهة فيها ، ولا مفسدة لتخليص المستفتي بها من حرج جاز ذلك ، بل استحبّ ، وقد أرشد اللّه نبيّه أيّوب عليه السلام إلى التّخلّص من الحنث : بأن يأخذ بيده ضغثاً فيضرب به المرأة ضربةً واحدةً ، قال : فأحسن المخارج ما خلّص من المآثم ، وأقبحها ما أوقع في المحارم .
«إحالة المفتي على غيره»
27 - للمفتي أن يحيل المستفتي على غيره من المفتين ، إمّا بقصد أن يبرأ من عهدة الفتوى ، وإمّا لكون الآخر أعلم ، وإمّا لظرف يستدعي ذلك ، ولا تجوز له الإحالة إلاّ أن يكون المحال عليه أهلاً للفتيا ، سواء كان يعلم أنّه يوافقه في الرّأي أو يخالفه ، فإن أحال على من ليس أهلاً فإنّه يكون معيناً على الإثم والعدوان ، قال أبو داود : قلت لأحمد : الرّجل يسأل عن مسألة فأدلّه على إنسان ؟ قال : إذا كان متّبعاً ويفتي بالسّنّة ، قلت : إنّه يريد الاتّباع وليس كلّ قوله يصيب ، قال : ومن يصيب في كلّ شيء ؟ .
لكن لا يحلّ أن يدلّ على من يخالفه في القول إلاّ أن تكون المسألة اجتهاديّةً ، فيجوز ذلك ، لأنّ اجتهاده ليس أولى من اجتهاد غيره .
أمّا إن كان في المسألة نصّ صحيح أو إجماع ، أو كان المحال عليه ممّن يتساهل في الفتوى فلا تجوز الإحالة .
«تشديد المفتي وتساهله»
28 - الشّريعة الإسلاميّة شريعة تتميّز بالوسطيّة واليسر ، ولذا فالّذي ينبغي للمفتي - وهو المخبر عن حكم اللّه تعالى - أن يكون كما قال الشّاطبيّ : المفتي البالغ ذروة الدّرجة هو الّذي يحمل النّاس على الوسط المعهود فيما يليق بالجمهور ، فلا يذهب بهم مذهب الشّدّة ، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال ، وهذا هو الصّراط المستقيم الّذي جاءت به الشّريعة ، فلا إفراط ولا تفريط ، وما خرج عن الوسط مذموم عند العلماء الرّاسخين ، وقد ردّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون رضي الله عنه التّبتّل ، وقال لمعاذ رضي الله عنه لمّا أطال بالنّاس الصّلاة : « يا معاذ أفتّان أنت ؟ » ، ونهاهم عن الوصال ، ولأنّه إذا ذهب بالمستفتي مذهب العنت والحرج بغّض إليه الدّين ، وإذا ذهب به مذهب الانحلال كان مظنّةً للمشي مع الهوى والشّهوة .
وجاء في المنتهى وشرحه من كتب الحنابلة : يحرم تساهل مفت في الإفتاء ، لئلاّ يقول على اللّه ما لا علم له به ، ويحرم تقليد متساهل في الإفتاء لعدم الوثوق به ، وقال مثل ذلك النّوويّ .
وبيّن السّمعانيّ والنّوويّ أنّ التّساهل نوعان :
الأوّل : تتبّع الرّخص والشّبه والحيل المكروهة والمحرّمة كما تقدّم .
والثّاني : أن يتساهل في طلب الأدلّة وطرق الأحكام ويأخذ بمبادئ النّظر وأوائل الفكر ، فهذا مقصّر في حقّ الاجتهاد ، فلا يحلّ له أن يفتي كذلك ما لم تتقدّم معرفته بالمسئول عنه .
لكن أجاز بعضهم للمفتي أن يتشدّد في الفتوى على سبيل السّياسة لمن هو مقدم على المعاصي متساهل فيها ، وأن يبحث عن التّيسير والتّسهيل على ما تقتضيه الأدلّة لمن هو مشدّد على نفسه أو غيره ، ليكون مآل الفتوى أن يعود المستفتي إلى الطّريق الوسط .
«آداب المفتي»
29 - أ - ينبغي للمفتي أن يحسن زيّه ، مع التّقيّد بالأحكام الشّرعيّة في ذلك ، فيراعي الطّهارة والنّظافة ، واجتناب الحرير والذّهب والثّياب الّتي فيها شيء من شعارات الكفّار ، ولو لبس من الثّياب العالية لكان أدعى لقبول قوله ، لقوله تعالى : « قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ » .
ولأنّ تأثير المظهر في عامّة النّاس لا ينكر ، وهو في هذا الحكم كالقاضي .
ب - وينبغي له أن يحسن سيرته ، بتحرّي موافقة الشّريعة في أفعاله وأقواله ، لأنّه قدوة للنّاس في ما يقول ويفعل ، فيحصل بفعله قدر عظيم من البيان ، لأنّ الأنظار إليه مصروفة ، والنّفوس على الاقتداء بهديه موقوفة .
ج - وينبغي له أن يصلح سريرته ويستحضر عند الإفتاء النّيّة الصّالحة من قصد الخلافة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في بيان الشّرع ، وإحياء العمل بالكتاب والسّنّة ، وإصلاح أحوال النّاس بذلك ، ويستعين باللّه على ذلك ، ويسأله التّوفيق والتّسديد ، وعليه مدافعة النّيّات الخبيثة من قصد العلوّ في الأرض والإعجاب بما يقول ، وخاصّةً حيث يخطئ غيره ويصيب هو ، وقد ورد عن سحنون : فتنة الجواب بالصّواب أعظم من فتنة المال .
د - وعليه أن يكون عاملاً بما يفتي به من الخير ، منتهياً عمّا ينهى عنه من المحرّمات والمكروهات ، ليتطابق قوله وفعله ، فيكون فعله مصدّقاً لقوله مؤيّداً له ، فإن كان بضدّ ذلك كان فعله مكذّباً لقوله ، وصادّاً للمستفتي عن قبوله والامتثال له ، لما في الطّبائع البشريّة من التّأثّر بالأفعال ، ولا يعني ذلك أنّه ليس له الإفتاء في تلك الحال ، إذ ما من أحد إلاّ وله زلّة ، كما هو مقرّر عند العلماء أنّه لا يلزم في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر أن يكون صاحبه مؤتمراً منتهياً ، وهذا ما لم تكن مخالفته مسقطةً لعدالته ، فلا تصحّ فتياه حينئذ .
هـ - أن لا يفتي حال انشغال قلبه بشدّة غضب أو فرح أو جوع أو عطش أو إرهاق أو تغيّر خلق ، أو كان في حال نعاس ، أو مرض شديد ، أو حرّ مزعج ، أو برد مؤلم ، أو مدافعة الأخبثين ونحو ذلك من الحاجات الّتي تمنع صحّة الفكر واستقامة الحكم .
لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا يقضينّ حكم بين اثنين وهو غضبان » فإن حصل له شيء من ذلك وجب عليه أن يتوقّف عن الإفتاء حتّى يزول ما به ويرجع إلى حال الاعتدال . فإن أفتى في حال انشغال القلب بشيء من ذلك في بعض الأحوال وهو يرى أنّه لم يخرج عن الصّواب صحّت فتياه وإن كان مخاطراً لكن قيّده المالكيّة بكون ذلك لم يخرجه عن أصل الفكر .
فإن أخرجه الدّهش عن أصل الفكر لم تصحّ فتياه قطعاً وإن وافقت الصّواب .
و - إن كان عنده من يثق بعلمه ودينه فينبغي له أن يشاوره ، ولا يستقلّ بالجواب تسامياً بنفسه عن المشاورة ، لقول اللّه تعالى : « وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ » وعلى هذا كان الخلفاء الرّاشدون ، وخاصّةً عمر رضي الله عنه ، فالمنقول من مشاورته لسائر الصّحابة أكثر من أن يحصر ، ويرجى بالمشاورة أن يظهر له ما قد يخفى عليه ، وهذا ما لم تكن المشاورة من قبيل إفشاء السّرّ .
ز - المفتي كالطّبيب يطّلع من أسرار النّاس وعوراتهم على ما لا يطّلع عليه غيره ، وقد يضرّ بهم إفشاؤها أو يعرّضهم للأذى فعليه كتمان أسرار المستفتين ، ولئلاّ يحول إفشاؤه لها بين المستفتي وبين البوح بصوره الواقعة إذا عرف أنّ سرّه ليس في مأمن .
«مراعاة حال المستفتي»
30 - ينبغي للمفتي مراعاة أحوال المستفتي ، ولذلك وجوه ، منها :
أ - إذا كان المستفتي بطيء الفهم ، فعلى المفتي التّرفّق به والصّبر على تفهّم سؤاله وتفهيم جوابه .
ب - إذا كان بحاجة إلى تفهيمه أموراً شرعيّةً لم يتطرّق إليها في سؤاله ، فينبغي للمفتي بيانها له زيادةً على جواب سؤاله ، نصحاً وإرشاداً ، وقد أخذ العلماء ذلك من حديث أنّ بعض الصّحابة رضي الله عنهم سألوا النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن الوضوء بماء البحر ، فقال : « هو الطّهور ماؤه الحلّ ميتته » وللمفتي أن يعدل عن جواب السّؤال إلى ما هو أنفع ، ومن ذلك قوله تعالى : « يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ » فقد سأل النّاس النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن المنفق فأجابهم بذكر المصرف إذ هو أهمّ ممّا سألوا عنه .
ج - أن يسأله المستفتي عمّا هو بحاجة إليه فيفتيه بالمنع ، فينبغي أن يدلّه على ما هو عوض منه ، كالطّبيب الحاذق إذا منع المريض من أغذية تضرّه يدلّه على أغذية تنفعه .
د - أن يسأل عمّا لم يقع ، وتكون المسألة اجتهاديّةً ، فيترك الجواب إشعاراً للمستفتي بأنّه ينبغي له السّؤال عمّا يعنيه ممّا له فيه نفع ووراءه عمل ، لحديث : « إنّ اللّه كره لكم ثلاثاً : قيل وقال ، وإضاعة المال ، وكثرة السّؤال » .
وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما : ما كانوا يسألون إلاّ عمّا ينفعهم .
وقال ابن عبّاس لعكرمة : من سألك عمّا لا يعنيه فلا تفته .
هـ - أن يكون عقل السّائل لا يحتمل الجواب ، فيترك إجابته وجوباً ، لقول عليّ رضي الله عنه : حدّثوا النّاس بما يعرفون ، أتريدون أن يكذّب اللّه ورسوله ؟ .
وقال ابن مسعود : ما أنت بمحدّث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلاّ كان لبعضهم فتنةً .
و - ترك الجواب إذا خاف المفتي غائلة الفتيا أي هلاكاً أو فساداً أو فتنةً يدبّرها المستفتي أو غيره .
والأصل وجوب البيان وتحريم الكتمان إن كان الحكم جليّاً فلا يترك المفتي بيانه لرغبة ولا رهبة لقول اللّه تعالى : « وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ » .
لكن إن خاف الغائلة فله ترك الجواب وكذا له أن يترك الفتيا إن خاف أن يستغلّها الظّلمة أو أهل الفجور لمآربهم .
«صيغة الفتوى»
31 - ينبغي لسلامة الفتيا وصدقها وصحّة الانتفاع بها أن يراعي المفتي أموراً منها :
أ - تحرير ألفاظ الفتيا ، لئلاّ تفهم على وجه باطل ، قال ابن عقيل : يحرم إطلاق الفتيا في اسم مشترك إجماعاً ، فمن سئل : أيؤكل أو يشرب في رمضان بعد الفجر ؟ لا بدّ أن يقول : الفجر الأوّل أو الثّاني ، ومثله من سئل عن بيع رطل تمر برطل تمر هل يصحّ ؟ فينبغي أن لا يطلق الجواب بالإجازة أو المنع ، بل يقول : إن تساويا كيلاً جاز وإلاّ فلا ، لكن لا يلزم التّنبيه على احتمال بعيد ، كمن سئل عن ميراث بنت وعمّ ؟ فله أن يقول : لها النّصف ، وله الباقي ، ولا يلزم التّنبيه على أنّها إن كانت قاتلةً لأبيها فلا شيء لها ، وكذا سائر موانع الإرث .
على أنّ الّذي ينبغي للمفتي إن كان في المسألة تفصيل : أن يستفصل السّائل ليصل إلى تحديد الواقعة تحديداً تامّاً ، فيكون جوابه عن أمر محدّد ، وهذا أولى وأسلم ، وإن علم أي الأقسام هو الواقع فله أن يقتصر على جواب ذلك القسم ، ثمّ يقول : هذا إن كان الأمر كذا ، ولـه أن يفصّل الأقسام في جوابه ويذكر حكم كلّ قسم ، ولكن لا يحسن هذا إلاّ إن كان المستفتي غائباً ولم يمكن معرفة صفة الواقع فيجتهد في بيان الأقسام وحكم كلّ قسم ، لئلاّ يفهم جوابه على غير ما يريد .
ب - أن لا تكون الفتوى بألفاظ مجملة ، لئلاّ يقع السّائل في حيرة ، كمن سئل عن مسألة في المواريث ؟ فقال : تقسم على فرائض اللّه عزّ وجلّ ، أو سئل عن شراء العرايا بالتّمر ؟ فقال : يجوز بشروطه ، فإنّ الغالب أنّ المستفتي لا يدري ما شروطه ، لكن إن كان السّائل من أهل العلم الّذين لا يخفى عليهم مثل هذا ، بل يريد أن يعرف قول المفتي جاز ذلك .
ج - يحسن ذكر دليل الحكم في الفتيا سواء كان آيةً أو حديثاً حيث أمكنه ذلك ، ويذكر علّته أو حكمته ، ولا يلقيه إلى المستفتي مجرّداً ، فإنّ الأوّل أدعى للقبول بانشراح صدر وفهم لمبنى الحكم ، وذلك أدعى إلى الطّاعة والامتثال ، وفي كثير من فتاوى النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذكر الحِكَم ، كحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما قال : « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن تزوّج المرأة على العمّة والخالة وقال : إنّكنّ إذا فعلتنّ ذلك قطعتنّ أرحامكنّ » .
وقولـه في وضع الجوائح : « أرأيت إذا منع اللّه الثّمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه ؟ » .
وقال الصّيمريّ : لا يذكر الحجّة إن أفتى عامّيّاً ، ويذكرها إن أفتى فقيهاً ، وإن تعلّقت الفتوى بقضاء قاض فيومئ فيها إلى طريق الاجتهاد ويلوّح بالنّكتة ، وكذا إن أفتى فيما غلط فيه غيره فيبيّن وجه الاستدلال .
وقال الماورديّ : لا يذكر الحجّة لئلاّ يخرج من الفتوى إلى التّصنيف .
د - لا يقول في الفتيا : هذا حكم اللّه ورسوله إلاّ بنصّ قاطع ، أمّا الأمور الاجتهاديّة فيتجنّب فيها ذلك لحديث : « وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم اللّه فلا تنزلهم على حكم اللّه ، فإنّك لا تدري أتصيب حكم اللّه فيهم أم لا ؟ » .
وهذا على قول من يجعل الصّواب في قول أحد المختلفين ، أمّا من يقول : كلّ مجتهد مصيب فيجوز أن يقول : هذا حكم اللّه ، وهو مذهب مرجوح .
هـ - ينبغي أن تكون الفتيا بكلام موجز واضح مستوف لما يحتاج إليه المستفتي ممّا يتعلّق بسؤاله ، ويتجنّب الإطناب فيما لا أثر له ، لأنّ المقام مقام تحديد ، لا مقام وعظ أو تعليم أو تصنيف .
قال القرافيّ : إلاّ في نازلة عظيمة تتعلّق بولاة الأمور ، ولها صلة بالمصالح العامّة ، فيحسن الإطناب بالحثّ والإيضاح والاستدلال ، وبيان الحكم والعواقب ، ليحصل الامتثال التّامّ .
وإن كان لكلامه قبول ويحرص النّاس على الاطّلاع عليه ، فلا بأس بالإطالة واستيفاء جوانب المسألة .
«الإفتاء بالإشارة»
32 - تجوز الفتيا بالإشارة إن كانت مفهمةً للمراد وقد ثبت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه أفتى بالإشارة في مواضع ، منها :
حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سئل يوم النّحر عن التّقديم والتّأخير ؟ فأومأ بيده أن لا حرج » .
وقال صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه لا يعذّب بدمع العين ولا بحزن القلب ، ولكن يعذّب بهذا - وأشار إلى لسانه - أو يرحم » .
«الإفتاء بالكتابة»
33 - تجوز الفتيا كتابةً ، ولكن فيها خطورة من حيث إمكان التّبديل والتّغيير فيها ونسبة ذلك إلى المفتي ، ولذا ينبغي أن يتحرّز في كتابتها بحيث لا يمكن فيها الإضافة والتّزوير .
«أخذ الرّزق على الفتيا»
34 - الأولى للمفتي أن يكون متبرّعاً بعمله ولا يأخذ عليه شيئاً .
وإن تفرّغ للإفتاء فله أن يأخذ عليه رزقاً من بيت المال على الصّحيح عند الشّافعيّة ، وهو مذهب الحنابلة ، واشترط الفريقان لجواز ذلك شرطين :
الأوّل : أن لا يكون له كفاية .
والثّاني : أن لا يتعيّن عليه ، فإن تعيّن عليه ، بأن لم يكن بالبلد عالم يقوم مقامه ، أو كان له كفاية لم يجز .
وقال ابن القيّم : إن لم يكن محتاجاً ففيه وجهان ، لتردّده بين القياس على عامل الزّكاة أو على العامل في مال اليتيم .
وألحق الخطيب البغداديّ والصّيمريّ بذلك : أن يحتاج أهل بلد إلى من يتفرّغ لفتاويهم ، ويجعلوا له رزقاً من أموالهم ، فيحوز ، ولا يصلح ذلك إن كان له رزق من بيت المال ، قال الخطيب : وعلى الإمام أن يفرض لمن نصب نفسه للفتوى في الأحكام ما يغنيه عن الاحتراف ، ويكون ذلك من بيت المال ، ثمّ روى بإسناده أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أعطى كلّ رجل ممّن هذه صفته مائة دينار في السّنة .
وأمّا الأجرة ، فلا يجوز أخذها من أعيان المستفتين على الأصحّ عند الشّافعيّة ، وهو مذهب الحنفيّة والحنابلة ، قال الحنابلة : لأنّ الفتيا عمل يختصّ فاعله أن يكون من أهل القربة ، ولأنّه منصب تبليغ عن اللّه ورسوله ، فلا تجوز المعاوضة عليه ، كما لو قال له : لا أعلّمك الإسلام أو الوضوء أو الصّلاة إلاّ بأجرة ، قالوا : فهذا حرام قطعاً ، وعليه ردّ العوض ، ولا يملكه ، قالوا : ويلزمه الإجابة مجّاناً للّه بلفظه أو خطّه إن طلب المستفتي الجواب كتابةً ، لكن لا يلزمه الورق والحبر .
وأجاز الحنفيّة وبعض الشّافعيّة أخذ المفتي الأجرة على الكتابة ، لأنّه كالنّسخ .
وقال المالكيّة : يجوز للمفتي أخذ الأجرة على الفتوى إن لم تتعيّن عليه .
«أخذ المفتي الهديّة»
35 - الأصل أنّه يجوز للمفتي أخذ الهديّة من النّاس بخلاف القاضي ، والأولى له أن يأخذها ويكافئ عليها ، اقتداءً بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم فإنّه : « كان يقبل الهديّة ويثيب عليها » وهذا إن كانت بغير سبب الفتيا ، لأنّه إنّما يهدى إليه لعلمه ، بخلاف القاضي .
وإن كانت بسبب الفتيا فالأولى عدم القبول ، ليكون إفتاؤه خالصاً للّه ، وهذا إن كان إفتاؤه لا يختلف بين من يهديه ومن لا يهديه ، وإن كان يهديه لتكون سبباً إلى أن يفتيه بما لا يفتي به غيره من الرّخص قال ابن القيّم : لا يجوز له قبولها ، وقال ابن عابدين : إن كانت سبباً ليرخّص له بوجه صحيح فأخذها مكروه كراهةً شديدةً ، وإن كان بوجه باطل فهو رجل فاجر ، يبدّل أحكام اللّه ، ويشتري بها ثمناً قليلاً .
وفي الشّرح الكبير للمالكيّة : يجوز للمفتي قبول الهديّة ممّن لا يرجو منه جاهاً ولا عوناً على خصم .
«الخطأ في الفتيا»
36 - إذا أخطأ المفتي ، فإن كان خطؤه لعدم أهليّته ، أو كان أهلاً لكنّه لم يبذل جهده بل تعجّل ، يكون آثماً ، لحديث : « إنّ اللّه لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء ، ولكن يقبضه بقبض العلماء ، حتّى إذا لم يبق عالماً اتّخذ النّاس رءوساً جهّالاً ، فسئلوا فأفتوا بغير علم ، فضلّوا وأضلّوا » .
أمّا إن كان أهلاً واجتهد فأخطأ فلا إثم عليه ، بل له أجر اجتهاده ، قياساً على ما ورد في خطأ القاضي ، وهو قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا حكم الحاكم فاجتهد ثمّ أصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد ثمّ أخطأ فله أجر واحد » .
«رجوع المفتي عن فتياه»
37 - إذا تبيّن للمفتي أنّه أخطأ في الفتيا وجب عليه الرّجوع عن الخطأ إذا أفتى في واقعة أخرى مماثلة ، لكتاب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى رضي الله عنه : ولا يمنعنّك قضاء قضيت فيه اليوم ، فراجعت فيه رأيك ، فهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحقّ فإنّ الحقّ قديم لا يبطله شيء ، ومراجعة الحقّ خير من التّمادي في الباطل .
ثمّ إن كان المستفتي لم يعمل بالفتيا الأولى لزم المفتي إعلامه برجوعه ، لأنّ العامّيّ يعمل بها لأنّها قول المفتي ، وإذا رجع عنها فليست قولاً له في تلك الحال .
وإن كان قد عمل بها قال النّوويّ : يلزمه إعلامه حيث يجب النّقض ، أي إذا خالف قاطعاً من نصّ أو إجماع ، لأنّ ما رجع عنه قد اعتقد بطلانه .
38 - وإن رجع المفتي عن فتياه ، أو تبيّن خطؤه ، فليس للمستفتي أن يستند في المستقبل إليها في واقعة أخرى مماثلة .
وأمّا ما فعله ومضى فله أحوال :
أ - إن تبيّن أنّ المفتي خالف نصّ كتاب أو سنّة صحيحة لا معارض لها أو خالف الإجماع ، أو القياس الجليّ ، ينقض ما عمل ، فإن كان بيعاً فسخاه ، وإن كان نكاحاً وجب عليه فراقها ، وإن كان استحلّ بها مالاً وجب عليه إعادته إلى أربابه .
ب - إن كانت فتياه الأولى عن اجتهاد ، ثمّ تغيّر اجتهاده ، فلا يلزم المستفتي نقض ما عمل ، لأنّ الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد ، والفتيا في هذا نظير القضاء ، لما ورد أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أعطى الإخوة لأمّ الثّلث ، وحرم الإخوة الأشقّاء ، ثمّ وقعت واقعة أخرى فأراد أن يحكم بمثل ذلك ، فقال له بعض الأشقّاء : هب أنّ أبانا كان حماراً ، أليست أمّنا واحدةً ؟ فشرك بينهم في الثّلث ، فقيل له في نقض الأولى فقال : تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي .
واستثنى بعض الفقهاء من الشّافعيّة وبعض الحنابلة النّكاح ، فرأوا أنّه لا بدّ أن يفارقها .
«ضمان ما يتلف بناءً على الخطأ في الفتوى»
39 - إن أتلف المستفتي بناءً على الفتيا شيئاً ، كأن قتل في شيء ظنّه المفتي ردّةً ، أو قطع في سرقة لا قطع فيها ، أو جلد بشرب لا يجب فيه الحدّ - كمن شرب مكرهاً - فمات ، فقد اختلف الفقهاء في وجوب الضّمان على المفتي على أقوال :
الأوّل : قول المالكيّة ، على ما نقله الدّسوقيّ عن الحطّاب : أنّ من أتلف بفتواه شيئاً وتبيّن خطؤه فيها ، فإن كان مجتهداً فلا ضمان عليه ، وإن كان مقلّداً ضمن إن انتصب وتولّى بنفسه فعل ما أفتى فيه ، وإلاّ كانت فتواه غروراً قوليّاً لا ضمان فيه ، ويزجر .
فأمّا إن كان جاهلاً لم يتقدّم له اشتغال بالعلم أدّب .
الثّاني : وهو المشهور عند الشّافعيّة عكس هذا ، قال النّوويّ : عن أبي إسحاق الإسفرايينيّ : إنّ المفتي يضمن إن كان أهلاً للفتوى فبان خطؤه وأنّه خالف القاطع ، ولا يضمن إن لم يكن أهلاً لأنّ المستفتي قصّر - أي بسؤاله من ليس أهلاً - كذا حكاه ابن الصّلاح وسكت عليه ، واستشكله النّوويّ ، ومال إلى أنّه ينبغي تخريجه على قولي الغرور في بابي الغصب والنّكاح ، أو يقطع بعدم الضّمان إذ لا إلجاء في الفتوى ولا إلزام .
وذهب ابن حمدان من الحنابلة إلى مثل قول أبي إسحاق .
الثّالث : ذهب الحنابلة إلى إنّه إن كان أهلاً لم يجب عليه الضّمان وإلاّ ضمن ، وقاسه ابن القيّم على ما ورد في المتطبّب الجاهل ، وهو قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من تطبّب ولم يعلم منه طبّ فهو ضامن » ، ولكونه غرّ المستفتي بتصدّره للفتوى وهو ليس لها بأهل .
«الإمام وشئون الفتوى»
40 - على الإمام نصب المفتين في المناطق المتباعدة إن ظهرت الحاجة ولم يوجد متبرّعون بالفتيا كما تقدّم ، ولا ينصب إلاّ من كان لذلك أهلاً وعليه الكفاية من بيت المال لمن يتفرّغ لذلك .
وينبغي أن ينظر في أحوال المفتين : فيمنع من يتصدّر لذلك وليس بأهل ، أو إذا كان ممّن يسيء ، قال الحنفيّة : يحجر على المفتي الماجن والطّبيب الجاهل والمكاري المفلس ، ومرادهم بالماجن : من يعلّم الحيل الباطلة ، كمن يعلّم الزّوجة أن ترتدّ لتبين من زوجها ، أو يعلّم ما تسقط به الزّكاة ، وكذا من يفتي عن جهل .
وقال الخطيب البغداديّ : ينبغي للإمام أن يتصفّح أحوال المفتين ، فمن صلح للفتيا أقرّه ، ومن لا يصلح منعه ونهاه وتواعده بالعقوبة إن عاد ، قال : وطريق الإمام إلى معرفة من يصلح للفتيا أن يسأل عنه علماء وقته ، ويعتمد إخبار الموثوق بهم .
وقال ابن القيّم : من أفتى وليس بأهل فهو آثم عاص ، ومن أقرّهم من ولاة الأمور فهو آثم أيضاً ، ونقل عن ابن الجوزيّ قوله : يلزم وليّ الأمر منعهم ، فهو بمنزلة من يدلّ الرّكب ولا يعلم الطّريق ، وبمنزلة من يرشد النّاس إلى القبلة وهو أعمى ، بل أسوأ حالاً ، وإذا تعيّن على وليّ الأمر منع من لم يحسن الطّبّ من مداواة المرضى فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسّنّة ولم يتفقّه في الدّين .
«حكم الاستفتاء»
41 - استفتاء العامّيّ الّذي لا يعلم حكم الحادثة واجب عليه ، لوجوب العمل حسب حكم الشّرع ، ولأنّه إذا أقدم على العمل من غير علم فقد يرتكب الحرام ، أو يترك في العبادة ما لا بدّ منه ، قال الغزاليّ : العامّيّ يجب عليه سؤال العلماء ، لأنّ الإجماع منعقد على أنّ العامّيّ مكلّف بالأحكام ، وتكليفه طلب رتبة الاجتهاد محال ، لأنّه يؤدّي إلى انقطاع الحرث والنّسل ، وتعطّل الحرف والصّنائع ، وإذا استحال هذا لم يبق إلاّ سؤال العلماء ووجوب اتّباعهم .
وقال النّوويّ : من نزلت به حادثة يجب عليه علم حكمها ، أي وجب عليه الاستفتاء عنها ، فإن لم يجد ببلده من يستفتيه وجب عليه الرّحيل إلى من يفتيه وإن بعدت داره ، وقد رحل خلائق من السّلف في المسألة الواحدة اللّيالي والأيّام .
«من لم يجد من يفتيه في واقعته»
42 - إذا لم يجد المكلّف من يفتيه في واقعته يسقط عنه التّكليف بالعمل إذا لم يكن له به علم ، لا من اجتهاد معتبر ولا من تقليد ، لأنّه يكون من باب التّكليف بما لا يطاق ، ولأنّ شرط التّكليف العلم به ، وقياساً على المجتهد إذا تعارضت عنده الأدلّة وتكافأت فلم يمكنه التّرجيح ، ويكون حكمه حكم ما قبل ورود الشّرع ، وكمن لم تبلغه الدّعوة .
وقال ابن القيّم : في المسألة قول آخر ، أنّه يخرّج حكمها على الخلاف في مسألة تعارض الأدلّة ، وفيها الأقوال : أنّه يأخذ بالأشدّ ، أو بالأخفّ ، أو يتخيّر ، ثمّ قال : والصّواب أنّ عليه أن يتحرّى الحقّ بجهده ومعرفة مثله ويتّقي اللّه ، قال : وقد نصب اللّه تعالى على الحقّ أمارات كثيرةً ، ولم يسوّ بين ما يحبّه وما يسخطه من كلّ وجه ، بحيث لا يتميّز هذا من هذا ، والفطر السّليمة تميل إلى الحقّ وتؤثره ، فإن قدّر ارتفاع ذلك كلّه يسقط عنه التّكليف في هذه الواقعة وإن كان مكلّفاً بالنّسبة إلى غيرها .
«معرفة المستفتي حال من يستفتيه»
43 - يجب على المستفتي إن وقعت له حادثة أن يسأل متّصفاً بالعلم والعدالة .
قال ابن عابدين نقلاً عن الكمال بن الهمام : الاتّفاق على حلّ استفتاء من عرف من أهل العلم بالاجتهاد والعدالة ، أو رآه منتصباً والنّاس يستفتونه معظّمين له ، وعلى امتناعه من الاستفتاء إن ظنّ عدم أحدهما أي عدم الاجتهاد أو العدالة .
وقال النّوويّ : يسأل المستفتي من عرف علمه وعدالته ، فإن لم يعرف العلم بحث عنه بسؤال النّاس ، وإن لم يعرف العدالة فقد ذكر الغزاليّ فيه احتمالين ، أحدهما : أنّ الحكم كذلك ، وأشبههما : الاكتفاء ، لأنّ الغالب من حال العلماء العدالة ، بخلاف البحث عن العلم فليس الغالب من النّاس العلم .
وقال النّوويّ : يجب على المستفتي قطعاً البحث الّذي يعرف به أهليّة من يستفتيه للإفتاء إذا لم يكن عارفاً بأهليّته ، فلا يجوز له استفتاء من انتسب إلى العلم ، وانتصب للتّدريس والإقراء ، وغير ذلك من مناصب العلماء بمجرّد انتسابه وانتصابه لذلك ، ويجوز استفتاء من استفاض كونه أهلاً للفتوى ، وقال بعض أصحابنا المتأخّرين : إنّما يعتمد قوله : أنا أهل للفتوى ، لا شهرته بذلك ، ولا يكتفى بالاستفاضة ولا بالتّواتر ، والصّحيح هو الأوّل .
«تخيّر المستفتي من يفتيه»
44 - إن وجد المستفتي أكثر من عالم ، وكلّهم عدل وأهل للفتيا ، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ المستفتي بالخيار بينهم يسأل منهم من يشاء ويعمل بقوله ، ولا يجب عليه أن يجتهد في أعيانهم ليعلم أفضلهم علماً فيسأله ، بل له أن يسأل الأفضل إن شاء ، وإن شاء سأل المفضول مع وجود الفاضل ، واحتجّوا لذلك بعموم قول اللّه تعالى : « فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ » ، وبأنّ الأوّلين كانوا يسألون الصّحابة مع وجود أفاضلهم وأكابرهم وتمكّنهم من سؤالهم .
وقال القفّال وابن سريج والإسفرايينيّ من الشّافعيّة : ليس له إلاّ سؤال الأعلم والأخذ بقوله .
«ما يلزم المستفتي إن اختلفت عليه أجوبة المفتين»
45 - إن سأل المستفتي أكثر من مفت ، فاتّفقت أجوبتهم ، فعليه العمل بذلك إن اطمأنّ إلى فتواهم .
وإن اختلفوا ، فللفقهاء في ذلك طريقان :
فذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة وبعض الحنابلة وابن سريج والسّمعانيّ والغزاليّ من الشّافعيّة - إلى أنّ العامّيّ ليس مخيّراً بين أقوالهم يأخذ بما شاء ويترك ما شاء ، بل عليه العمل بنوع من التّرجيح ، ثمّ ذهب الأكثرون منهم إلى أنّ التّرجيح يكون باعتقاد المستفتي في الّذين أفتوه أيّهم أعلم ، فيأخذ بقوله ، ويترك قول من عداه .
قال الغزاليّ : التّرجيح بالأعلميّة واجب ، لأنّ الخطأ ممكن بالغفلة عن دليل قاطع ، وبالحكم قبل تمام الاجتهاد واستفراغ الوسع ، والغلط أبعد عن الأعلم لا محالة ، كالمريض إذا اختلف عليه طبيبان ، فإن خالف أفضلهما عدّ مقصّراً ، ويعلم أفضل الطّبيبين أو العالمين بتواتر الأخبار ، وبإذعان المفضول له ، وبالتّسامع والقرائن دون البحث عن نفس العلم ، والعامّيّ أهل لذلك ، فلا ينبغي له أن يخالف الأفضل بالتّشهّي . ا هـ .
وقال الشّاطبيّ : لا يتخيّر ، لأنّ في التّخيير إسقاط التّكليف ، ومتى خيّرنا المقلّدين في اتّباع مذاهب العلماء لم يبق لهم مرجع إلاّ اتّباع الشّهوات والهوى في الاختيار ، ولأنّ مبنى الشّريعة على قول واحد ، هو حكم اللّه في ذلك الأمر . ا هـ .
وقياساً على المفتي : فإنّه لا يحلّ له أن يأخذ بأيّ الرّأيين المختلفين دون نظر في التّرجيح إجماعاً كما تقدّم .
وقال الغزاليّ : إن تساوى المفتيان في اعتقاد المستفتي ، وعجز عن التّرجيح تخيّر ، لأنّ هذا موضع ضرورة ، وقال ابن القيّم وصاحب المحصول : عليه التّرجيح بالأمارات ، فإنّ الحقّ والباطل لا يستويان في الفطر السّليمة .
وذهب البعض إلى أنّ التّرجيح يكون بالأخذ بالأشدّ احتياطاً ، وقال الكعبيّ : يأخذ بالأشدّ فيما كان في حقوق العباد ، أمّا في حقّ اللّه تعالى فيأخذ بالأيسر .
والأصحّ والأظهر عند الشّافعيّة وبعض الحنابلة : أنّ تخيّر العامّيّ بين الأقوال المختلفة للمفتين جائز ، لأنّ فرض العامّيّ التّقليد ، وهو حاصل بتقليده لأيّ المفتيين شاء .
«أدب المستفتي مع المفتي»
46 - ينبغي للمستفتي حفظ الأدب مع المفتي ، وأن يجلّه ويعظّمه لعلمه ولأنّه مرشد له . ولا ينبغي أن يسأله عند همّ أو ضجر أو نحو ذلك ممّا يشغل القلب .
واختلف الفقهاء هل للمستفتي أن يطالب المفتي بالحجّة والدّليل :
فقال ابن السّمعانيّ : له ذلك لأجل احتياطه لنفسه ، ويلزم العالم أن يذكر له الدّليل إن كان مقطوعاً به ، لإشرافه على العلم بصحّته ، ولا يلزمه إن لم يكن مقطوعاً بصحّته ، لافتقاره إلى اجتهاد يقصر عنه فهم العامّيّ .
وقال الشّافعيّة وشارح المنتهى من الحنابلة : ينبغي للعامّيّ أن لا يطالب المفتي بالدّليل ، قال الخطيب : فإن أحبّ أن تسكن نفسه لسماع الحجّة طلبها في مجلس آخر ، أو في ذلك المجلس بعد قبول الفتيا مجرّدةً .
ويكره كثرة السّؤال ، والسّؤال عمّا لا ينفع في الدّين ، والسّؤال عمّا لم يقع ، وأن يسأل عن صعاب المسائل ، وعن الحكمة في المسائل التّعبّديّة ، ويكره أن يبلغ بالسّؤال حدّ التّعمّق والتّكلّف ، وأن يسأل على سبيل التّعنّت والإفحام وطلب الغلبة في الخصام ، لما في الحديث : « إنّ أبغض الرّجال إلى اللّه الألدّ الخصم » .
هل يلزم المستفتي العمل بقول المفتي ؟
47 - لا يجب على المستفتي العمل بقول المفتي لمجرّد إفتائه ، وهذا هو الأصل ، ولكن قد يجب في أحوال ، منها :
أ - أن لا يجد إلاّ مفتياً واحداً ، فيلزمه العمل بقوله .
وكذا إن اتّفق قول من وجده منهم ، أو حكم بقول المفتي حاكم .
ب - أن يفتيه بقول مجمع عليه ، لعدم جواز مخالفة الإجماع .
ج - أن يكون الّذي أفتاه هو الأعلم الأوثق .
د - إذا استفتى المتنازعان في حقّ فقيهاً ، والتزما العمل بفتياه ، فيجب عليهما العمل بما أفتاهما .
فلو ارتفعا إلى قاض بعد ذلك فحكم بينهما بغير ما أفتاهما به الفقيه لزمهما فتيا الفقيه في الباطن ، وحكم الحاكم في الظّاهر ، قاله السّمعانيّ ، وقيل : يلزمهما حكم الحاكم في الظّاهر والباطن .
هـ - إذا استفتى فقيهاً فأفتاه فعمل بفتواه لزمه ذلك ، فلو استفتى آخر فأفتاه بغير فتوى الأوّل لم يجز الرّجوع إليه في ذلك الحكم ، نقل الإجماع على ذلك الهنديّ وابن الحاجب .
«حكم المستفتي إن لم يطمئنّ قلبه إلى الفتيا»
48 - قال ابن القيّم : المستفتي لا تخلّصه فتوى المفتي من اللّه إذا كان يعلم أنّ الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه ، كما لا ينفعه قضاء القاضي بذلك ، لحديث : « من قضيت له بحقّ أخيه شيئاً بقوله ، فإنّما أقطع له قطعةً من النّار فلا يأخذها » ، والمفتي والقاضي في هذا سواء ، ولا يظنّ المستفتي أنّ مجرّد فتوى الفقيه تبيح له ما سأل عنه ، سواء تردّد أو حاك في صدره ، لعلمه بالحال في الباطن ، أو لشكّه فيه ، أو لجهله به ، أو لعلمه بجهل المفتي ، أو بمحاباته له في فتواه ، أو لأنّه معروف بالفتوى بالحيل والرّخص المخالفة للسّنّة ، أو غير ذلك من الأسباب المانعة من الثّقة بفتواه وسكون النّفس إليها ، فإن كان عدم الثّقة والطّمأنينة لأجل المفتي يسأل ثانياً وثالثاً حتّى تحصل له الطّمأنينة ، فإن لم يجد فلا يكلّف اللّه نفساً إلاّ وسعها ، والواجب تقوى اللّه بحسب الاستطاعة . ا هـ .


الموسوعة الفقهية الكويتية



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق