السبت، 8 ديسمبر 2012

توثيق مختصر عن الحضارة الإسلامية في الأندلس






الحضارة الإسلامية في الأندلس. لم تكن الفتوح الإسلامية في الأندلس كما كانت في المشرق متدفقة بجحافل من العرب المترابطين بينهم لغة وعقيدة وإيمانًا بالرسالة الإسلامية تحت قيادة فاتحين من الصحابة والتابعين، بل كانت الفتوح مؤلفة من شعوب مختلفة اللغات والعادات، شغلتهم الصراعات الداخلية بينهم، فقد تأجج الخلاف بين القيسية واليمنية والشامية والحجازية وبين العرب والفارسيين، وبينهم وبين البربر الذين فرقتهم الخلافات القبائلية بين الصنهاجيين والزناتيين. كما حمي صراع الفاتحين على ولاية الأندلس حتى تعاقب عليها أربعة وعشرون واليًا في خمس وأربعين سنة بمعدل وال لكل سنتين.
وما كاد الفتح يتم، وتغمد السيوف، حتى تدفق السكان الأسبانيون يدخلون في دين الإسلام أفواجًا لما ألفوا من الفاتحين من حسن المعاملة وسمو الأخلاق، ولما في الإسلام من سماحة ساعدتهم على تحسين ظروفهم الاجتماعية والاقتصادية فسارعوا إلى التودد بالمصاهرة والمساكنة.
ويعتبر عبدالرحمن الداخل (صقر قريش) مرسي التلاحم بين المتساكنين في الأندلس، وواضع الأسس الأولى للحضارة الإسلامية فيها. فقد حدَّ من غلواء الصراعات وأخمد الثورات وتسامح مع المذاهب الفقهية التي وصلت إلى الأندلس من مالكية وشافعية وأوزاعية حتى إذا جاء خلفه هشام (172- 180هـ، 788- 796م) اختار القضاة من اتباع مذهب مالك، فانتشر بين الناس وشدد الفقهاء في الالتزام به، فلما جاء الحكم بن هشام (180- 206هـ، 796- 821م) وجد في تشدد الفقهاء ما جعلهم يثورون ضد حكمه، فكانت فتنة النصارى بقرطبة ووقعة الحفرة في طليطلة وهيج الربض في قرطبة. فأخمد هذه الانتفاضات والثورات بحد السيف. واستمر في بناء الحضارة الإسلامية في الأندلس مطبوعة بالتفتح والتسامح والتعاون.
إن الثقافة الإسلامية وما تضمنته الشريعة من عقيدة ومعاملة وسلوك، وما تستلزمه لغتها من معرفة بلاغية ولغوية، وما في كلماتها من جرس موسيقي، وما في السلوك الإسلامي من حسن المعاملات ومن تشريعات وقوانين وأحكام، وما في الأعراف البربرية من هيام بالحرية، إضافة إلى الفنون المعمارية التي ورثها الأسبان عن الرومان في بناء الكنائس والقصور والأبراج والقناطر، ثم ما أضفاه الفاتحون المسلمون الجدد على ذلك من رقة الفن الشامي وجمال الخط والزخرفة، وما جلبوه من رياش الروم والفرس، وما نقلوه عن الرومان من فنون الصناعات البحرية والحربية، كل ذلك طبع قاعدة الحضارة الأندلسية بطابع جديد. واستقرت أصول الحضارة الإسلامية في عهد عبدالرحمن الأوسط، فخلصت الأندلس إلى المذهب المالكي على يد يحيى بن يحيى وشاركت المرأة في بلورة الحضارة على يد زوجة الخليفة الأميرة طروب، وارتقى الذوق الحضاري بدخول المغني زرياب إلى الأندلس، ذلك أن المذهب المالكي المحافظ ساعد على استقرار الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وزرياب سما بالذوق الأدبي والفني، وكان للأميرة طروب أثر في حياة المرأة الأندلسية وإسهامها في بناء مرافق الحياة الجديدة، وباجتماع العناصر الثلاثة تهيأت الحضارة الإسلامية في الأندلس لتسمو وتتعالى. فاستبحر العمران وتطورت فنون البناء في المساجد والقصور والمارستانات وهندسة الري والنقش على الجص والخشب والنحاس وإتقان الوراقة ورياش المنازل. فساد الرخاء وطاب العيش وازدهرت الفلاحة وهندسة الحدائق وتنميق الزهور. وانعكس أثر ذلك على الحياة الحضارية والثقافية في الأندلس. فتقدمت المعرفة وانتشر العلم وبرز علماء في التفسير والقراءات والحديث والفقه وأصوله واللغة والأدب والطب والحكمة والفلك والتصوف، مما يعسر تقصيه.

نظام الحكم

الخليفة. تسمى خلفاء بني أمية في الأندلس بالخلائف بدل الخلفاء إبقاء على وحدة العالم الإسلامي، وكان عبدالرحمن الناصر اتخذ لقب الخليفة سنة 316هـ، 929م، واستمر هذا اللقب بالأندلس إلى عهد ملوك الطوائف حيث تلقب الظافر بن ذي النون سنة 423 بذي الرئاستين ليعلو على لقب ذي الوزارتين الذي لقبه به الخليفة الأموي وكانت العاصمة مركز الخليفة ودار إقامته، كما كانت المدن والكور الأندلسية مستقلة إداريًا عن العاصمة قرطبة، إذ لم يحرص الأندلسيون على النظام المركزي، لأن طبيعة البلاد تتنافى مع التركيز الإداري، ولذلك كان الولاة والقواد لهم قسط كبير من النفوذ المحلي وحرية التصرف عملاً بنظام اللامركزية.
ومن المناصب المعروفة في مجلس الخلفاء في الأندلس والمغرب منصب شيخ الشورى وقد تولاه ابن العربي المعافري لدى أمير إشبيلية ابن أبي بكر اللمتوني، وهو منصب عال لا يرقى إليه إلا الصفوة المختارة من رجالات الفكر وأئمة الفقه يجعلهم في مصاف الوزراء، ولهذا يلقب صاحبه بالوزير كما جاء في صنعة الكلام لابن عبدالغفور. وقد أنشئت في قرطبة دار لشورى القضاء كان أعضاؤها من جلة العلماء، يرجع إليهم في تقرير الأحكام وكثيرًا ما يذكر في تراجم علماء الأندلس أن فلانًا كان مشاورًا أو طُلب فلان إلى الشورى فأبى.
وكان الخلفاء في الغالب مهتمين بأحوال الرعية وقد كان الحكَم من أشهر الخلفاء بذلك فقد استغاثت به امرأة مسلمة صرخت بمظالمها، فسارع لإنقاذها بما يذكِّر بقصة المعتصم في عمورية، كما ورد في نفح الطيب ج 5 ص 561
خطة الوزارة. كانت خطة الوزارة في عصر بني أمية بالأندلس تنتظم جماعة يعينهم الخليفة للإعانة والمشاورة، ويخصهم بالمجالسة وينتخب من بينهم انبههم ويسميه الحاجب وهو رئيس الوزراء، وكانت الوظائف الوزارية تكاد تكون متوارثة، وكان الذي ينوب عن الملك يلقب بذي الوزارتين أي وزارة القلم ووزارة السيف، ولقب بذلك ابن شهيد في عهد عبدالرحمن الناصر الأموي. ولقب الظافر بن ذي النون بذي الرئاستين ليعلو على لقب ذي الوزارتين. والحاجب هو السلطة الثانية بعد الخليفة يستأثر بالحكم، وينوب عن الملك في غيبته، ويتولى الوصاية على ولاية العهد إلى أن يكبر، ولهذا كان بعض ملوك الأندلس يبقي المملكة دون الحاجب فرارًا من حصر السلطة في يد الحاجب كما فعل الناصر. ووظيفة الحاجب يختص بها المثقفون، وكان المتولي لها من أبرز المترسلين وأعرفهم بأساليب الخطاب وبجانبه كاتب يقال له صاحب الأشغال الخراجية، كما يقال لديوان المالية (ديوان الأزمة) وصاحب الأشغال الخراجية في الأندلس عظيم المكانة، وأكثر اتباعًا وأصحابًا، وأعماله مضبوطة بالشهود والنظار، فإذا تأثلت حالته، نكّب وصودر، وخطة الوزارة في الأندلس أشبه بنظم الوزارة الحديثة حيث تتعدد الوزارات، عكس ما كان مألوفًا في المشرق وأوروبا القديمة حيث يعين الخليفة أو الملك وزيرًا واحدًا أو وزيرين.
إن الحجابة لم تكن معروفة في الخلافة الإسلامية الأولى لما في الشريعة من منع مدافعة ذوي الحاجات، كما يقول أبو الأزرق في بدائع السلك وعند انقلابها ملكًا اتخذ الخليفة موظفًا خاصًا سمي بالحاجب. وفي دولة العلويين والعباسيين، كان الحاجب هو الذي يحجب الخليفة عن العامة، ويقول ابن خلدون إنها في عهده كانت تسمى في مصر بالنائب. وفي الأندلس اختص بالسلطة دون الخليفة حاجب كالمنصور بن أبي عامر، ولم تكن معروفة في دولة العبديين، ولا في عهد المرابطين والموحدين ودول زناتة كالمرينيين وبني عبد الواد. وكان الخلفاء يستشعرون خطورة وظيفة الحجابة فلا يولونها إلا للثقة في أنـظارهم. وجاء في نفح الطيب للمقري ج5 ص 264 قولة أبي يوسف يعقوب بن عبدالحق "الولايات ست ثلاث وقفتها على اختياري، الحجابة والقصبة والشرطة، وثلاث موكولة إليكم، القضاء والإمامة والحسبة، وذلك لأن الحاجب قد يستبد بالحكم وبالأخص في نهاية الدولة، فهي تحمي الخليفة عن الناس ويستغل الحاجب هذا المنصب.
خطة القضاء. وتعتبر خطة القضاء بالأندلس أعظم الخطط عند الخاصة والعامة لتعلقها بأمور الدين. وقاضي القضاة يقال له قاضي القضاة وقاضي الجماعة. ويلاحظ فرق بين منصب قاضي القضاة في المشرق وقاضي الجماعة في الأندلس، فقاضي القضاة في بغداد أو القاهرة هو قاضي المملكة، ومن سواه من القضاة في الأقاليم والأمصار نواب عنه، فهو المتصرف فيهم تعيينًا وعزلاً، لهذا يلقب بقاضي القضاة، ومن عداه بالقاضي أو قاضي بلد كذا. أما قاضي الجماعة في الأندلس فهو قاضي العاصمة قرطبة. والجماعة يعني الجماعة الإسلامية التي استقرت في العاصمة قرطبة. وسلطته كانت قاصرةعلى قرطبة ونواحيها فقط، ولم يكن له سلطة على بقية القضاة في المدن الأندلسية الأخرى فهم مستقلون بأنفسهم وليسوا نوابًا، وهو يمتاز عنهم بحكم كونه قاضيًا للعاصمة ومستشارًا للخيفة وإمامًا للمصلين في أيام الجمعة والأعياد. وتبسيطًا لخطة القضاء ظهرت خطة المسدد وهي خطة قضائية صغيرة لفك المنازعات البسيطة.
خطة الشرطة. وصاحب الشرطة ينظر ويفصل في الجرائم السياسية والمدنية وكل ما يتعلق بحفظ الأمن في البلاد، فهو قاضي الجنايات والمخالفات التي لا تدخل في اختصاص القاضي لأنها تتقيد أحكامها بأحكام الشريعة حرفيًا، ويقول ابن خلدون "وقد رؤي من باب السياسة تنزيه القاضي عن هذه السلطة المدنية، ووضعها في يد شخص آخر يكون عادة من كبار القادة وعظماء الخاصة وهو صاحب الشرطة". وتحت إمرته العسس الذين يطوفون بالليل للحراسة ويعرفون بالدرابين، لأن المدينة كانت لها دروب وأبواب تغلق في أول الليل بواسطة الدرابين، وكان كل واحد منهم معه كلب وسلاح وسراج، وله القتل لمن وجب عليه الحد ويحد على الزنا وشرب الخمر، وكثير من الأمور الشرعية راجع إليه.
صارت تلك عادة تقرر عليها رضا القاضي، وكانت خطة القاضي أوقر وأتقى عنهم من ذلك. ولذلك اهتم خلفاء الأندلس بوظيفة القاضي واختيار الصالح الأنسب لهذا المنصب.
خطة المظالم (حق الاستئناف). إن الخصم الذي لايرضيه حكم القاضي، يستطيع أن يتظلم أمام قاض آخر يسمى صاحب الرد، الذي ينظر في القضية مرة ثانية، فإذا وجد فيها مظلمة ردها للقاضي، أو رفعها للسلطان كي يصدر فيها حكمه بعد استشارة مجلس المشورة الذي كان يضم قضاة الفتيا، وولاية الرد لم تكن موجودة إلا في المغرب والأندلس ولاتعرف في كثير من البلاد الإسلامية.
خطة المحتسب. اهتم الأندلسيون بالحسبة، فاختاروا المحتسب من الملمين بالشريعة والاقتصاد والاجتماع فلذلك كان صاحب الحسبة يعتبر من القضاة ومهمته التجول في الأسواق وبجانبه أعوانه وبيد أحدهم ميزانًا للتحقق من سلامة وزن البضاعة وبالأخص الخبازة، كما أن من مهمتها الحفاظ على الأمن العام ومطاردة المتسكعين في الأسواق والحفاظ كذلك على آداب المجتمع، وما يلزم به من حشمة في ملابس النساء والرجال، ونظافة الشوارع والحمامات والمدارس. ومن مسؤولياته تحديد الأسعار حتى لايزيد البائع في الثمن، وملاحقة الغشاشين في صناعة الخرازة والدباغة والخياطة ومعاقبتهم بإقفال دكاكينهم ومعاملهم إذا غشوا الزبناء، ومن مسؤولياته إلزام البائعين من جزار وخراز وصواف بكتابة التعريفة بأثمان البضاعة، وكان المحتسب يدس عيونه لمعرفة خونة السوق لمتابعتهم فإن وجد تقصيرًا عاتب المذنب، فإن لم يتب بعد الضرب والتجريس في الأسواق نفي من البلد.
وللمحتسبين أوضاع وقوانين يتدارسونها كما تتدارس أحكام الفقه، ويحكم المحتسب بالتعزير لما يراه مناسبًا لمحاربة المنكرات والخروج عن الآداب العامة.
وكانت الأسواق تعطل في المدينة يوم الجمعة تقريبًا، وبالأخص وقت الصلاة وتقفل في الليل حيث يطوف العسس بالمدينة، ولا تفتح أبواب الأزقة إلا للسكان بها حفاظًا على الأمن.
القصور. لم يهتم المغاربة ببناء القصور كما في الأندلس، لقرب عهدهم بالبداوة وقلة المختصين في العمارة كالأندلس التي كانت بها قصور عظيمة كالزاهرة والزهراء والمؤنس في قرطبة شارك في بنائها معماريون من بغداد والقسطنطينية ودمشق والإسكندرية وكانت هاته القصور فخمة رائعة فيها روائع الابتكارات كصهاريج الزئبق المتوهج وكالقبة الزجاجية السابحة في البحيرة في قصر طليطلة ودار السرور بسرقسطة، وقصر غرناطة الذي به بيت الديك نسبة إلى الديك البرونزي الذي عليه تمثال جندي يحمل سيفه ودرفته ويدور مع الريح وهو يشبه التمثال الذي كان فوق قصر المنصور ببغداد.
الأوقاف. للأندلسيين عناية فائقة بالأوقاف على الفقراء والمساكين وأعمال البر عمومًا، والمنشآت الدينية، فقد حبسوا الضياع والدور على المساجد والمدارس الدينية وكراسي العلم والآداب والإقامة وتجهيز المساجد والخزائن العلمية والمارستانات لعلاج المرضى سواء بالأمراض الجسمية أو العقلية، كما رصدوا على الأوقاف أموالاً لشراء أضحيات العيد للفقراء واليتامى، وجاء في كتاب الوثائق والسجلات لابن العطار (330- 399 هـ) ذكر لوثيقة تحبيس الفرس ووقفه على الجهاد وتحبيس السيوف وتحبيس الأواني لتستعملها العروس الفقيرة في حفلة زفافها إضافة إلى الحلي والثياب للغرض نفسه.

المرجعية الدينية

المذهب الرسمي للدولة (المذهب المالكي). نهج الغرب الإسلامي سياسة التمسك بالمذهب المالكي في قضاياه الدينية والدنيوية، حتى قيل إن أهل المغرب والأندلس لايعرفون سوى كتاب الله وموطأ مالك بن أنس ولاشك أن هذا المذهب الذي يتفق مع وضع المغرب والأندلس الجغرافي والحربي كثغور إسلامية، جنَّب البلاد شرور الفتن والخلافات المذهبية، وكان أهل الأندلس لأول الفتح على مذهب الإمام الأوزاعي إمام أهل الشام الذين كانت لهم اليد الطولى في فتح الأندلس، وبقي الأندلسيون على مذهب الأوزاعي إلى عهد هشام بن عبدالرحمن الداخل الذي رحل في أيامه زياد بن عبدالرحمن بن زياد اللخمي المعروف بشطبون إلى الشرق، وسمع عن مالك كتابه الموطأ كما رحلت جماعة أخرى إلى الشرق كعيسى بن دينار وسعيد بن أبي هند، وغيرهم فلما رجعوا إلى الأندلس ادخلوا إليها مذهب مالك وكان رائدهم في ذلك شطبون الذي يعتبر أول من أدخل موطأ مالك إلى الأندلس، وقيل إن الإمام مالكًا رحمه الله سأل بعض الحجاج الأندلسيين عن سيرة ملك الأندلس، فوصفوا له سيرة الإمام هشام بن عبدالرحمن وأثنوا له عليه، وكان مالك غير راض عن سيرة بني العباس، ولاسيما بعد أن تعدى أبو جعفر المنصور على علوية المدينة بالحبس والإهانة، فقال الإمام مالك للأندلسيين: نسأل الله أن يزين حرمنا بمثل ملككم، فوصل الخبر إلى الأمير هشام، مع ما علم من مكانة مالك وورعه، فحمل الناس على مذهبه، لكن المذهب المالكي في الأندلس لم يلبث أن تأثر بعوامل البيئة المحلية فخالفوا بعض أحكامه، فمن ذلك أن الأندلسيين رغم اعتناقهم المذهب المالكي تأثروا بمذهب الأوزاعي (ت 157 هـ) والإمام المصري الليث بن سعد (ت 175 هـ) وخالفوا مذهب مالك في بعض الأحكام وفي ذلك يقول أبو الحسين النباهي المالقي (القرن 8 هـ) في كتابه المرتبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا ص 149:"ومن المسائل التي خالف أهل الأندلس فيها مذهب مالك بن أنس على سبيل المثال، أنهم أجازوا كراء الأرض بالجزء مما يخرج منها (أي الإيجاز على الجزء المزروع منها فقط وهو مذهب الأوزاعي". وقد تابع حكام الأندلس تقليدًا ابتدأه عبدالرحمن الأول (الداخل) حين أمر الفقيه صعصعة بن سلام صاحب الصلاة بالجامع (ت 192 هـ) بغرس صحن جامع قرطبة بالأشجار واستمرت هذه العادة وانتشرت في مساجد الأندلس والمغرب حيث نجد أشجار الليمون والنارنج في صحن المسجد الأموي بقرطبة وغيره. وبجانب نصوص فقهاء المذهب المالكي احتكم القضاة إلى ما جرى به العمل في الأندلس والمغرب على خلاف المذهب المالكي وقواعده الأصولية، ولايلجأون إلى الرأي إلا للضرورة، وقد يستغنون عنه إذا رأوا أنه ينتج عنه ضرر للمجموع ويسمى هذا الاستثناء بالاستصلاح.
وعرفت الظاهرية في الأندلس والمغرب على يد فقهاء الحزمية اتباع الإمام ابن حزم كالحودي وابن باشر والتجيبي، أما خصوم الحزمية من أصحاب المذهب المالكي وهم الأكثرية فمنهم أبوبكر ابن العربي واليابوري وقد شجع الموحدون مذهب ابن حزم وقدموا أنصاره في الدولة كالفقيه ابن حوط قاضي أشبيلية وقرطبة ثم سبة وسلا وأبي بكر بن سيد الناس. ولكن مذهب ابن حزم ضعف وخفت صوته إلا في بعض الظروف حيث وقع إحياؤه على يد المقريزي والشعراني في مصر وابن عبدالله محمد الأندلسي نزيل مراكش في أيام عبدالله الغالب السعدي.

الموارد المالية

تقوم موارد الدولة الاقتصادية على الضرائب المشروعة كالأموال التي تجبى من الأراضي الزراعية وأموال الزكاة والجزية والمواريث لمن لا وارث له والعشور أو الأعشار، وهي ما يجبى من التجار الذين يفدون ببضائعهم إلى الموانئ الأندلسية فيدفعون عُشر قيمتها ثم ضريبة فرضت في الأندلس في عهد المرابطين وكان الغرض منها ترميم الحصون والأسوار المحيطة بالمدن الرئيسية ويقوم بسدادها أهل هذه المدن المنتفعة بها.
وأما الضرائب الزائدة على ذلك فكانت تسمى بالمكوس أو المغارم، فهي ضرائب إضافية نشأت عن حاجات وظروف معينة اضطرت الدولة إلى فرضها، وكان بعضها يعطى التزامًا ومن حصيلة هذا الدخل المالي في بيت المال كانت الدولة تقوم بأوجه النفقات المختلفة على الجيوش والشرطة وقصر الخلافة والموظفين والدواوين والمنشآت العامة والمساجد والمستشفيات والسجون والعناية بمياه الشرب وإزالة الأوساخ من المسالك والأنابيب.

الصلات التجارية

لقد وجدت صلات تجارية بين الأندلس ودولتي الخوارج والأدارسة، فكانت العلاقات التجارية بين تاهرت وفاس في نطاق محدود ويشير ابن حوقل إلى انتظام القوافل بين سجلماسة وفاس.
وقد توجه كثيرون من صفرية فاس إلى سجلماسة عاصمة صفرية المغرب طلبًا للعلم والتجارة، كما كان لتجار المدرارين نشاط في أسواق مدينة فاس. وكان طبيعيًا أن تتوثق الصلات التجارية بين دولتي الخوارج والدولة الأموية بالأندلس لما كان بينهما من علاقات سياسية ودية. وتبادل بنو مدرار مع أمويي الأندلس السلع والمتاجر فكانوا يصدرون القمح والسكر والكرم والتمر في مقابل الثياب القطنية والثياب الكتانية والحريرية التي اشتهرت بها قرطبة، وكثيرًا ما آثر بعض التجار والحرفيين الأندلسيين الإقامة بتاهرت والعمل في أسواقها، بينما كان بعضهم الآخر يعمل في نقل المتاجر بين الدولتين، أما عن تجارة الخوارج مع بلاد السودان، فقد شكلت حجر الزاوية في نشاطهم الاقتصادي. وكانت شعوب السودان أخلاطًا شتى من العناصر الزنجية القاطنة بين البحر الأحمر شرقًا والمحيط غربًا، وبين المناطق الصحراوية أو شبه الصحراوية في الشمال وبين نطاقات الغابات الاستوائية في الجنوب. ويصف صاعد الأندلسي في طبقات الأمم هذه الشعوب بالفوضى مع وجود سياسة ملوكية تضبطهم وناموس إلهي يحكمهم. وكانت هذه الشعوب تعيش في شكل جماعات يرأسها أكبر الرجال سنًا.
التجارة. اهتم الجغرافيون والرحالة بذكر أهم المنتجات الأندلسية التي كانت تصدر إلى الخارج مثل الملابس المطرزة والأصواف والأصباغ والحرير واللبود الفاخرة والورق السميك (الشطبي) والتين الجاف والخزف المذهب والزعفران وعصير الكروم. وتستورد الأندلس من إفريقيا الذهب والجلود والمعادن وبعض الحبوب والملح.

الفلاحة

ظهرت الفلاحة الأندلسية في المزارع والحدائق والبساتين وكانت تربطها بالري شبكة من القنوات المائية، ومازالت محتفظة بأساليبها العربية إلى اليوم مثل الساقية والناعورة والبقاع. كما أطلقوا على القصور الملكية ذات الحدائق والرياض "المنيات" جمع منية، وقد انتشرت حول قرطبة وعلى ضفاف الوادي الكبير وأشهرها منية الرصافة التي بناها عبدالرحمن الداخل شمال قرطبة ومنية الزهراء التي بناها الخليفة عبدالرحمن الناصر في شمال غرب قرطبة، وتفوَّق الأندلسيون في تقليم الأشجار، فكان التفاح يقلم بطعم الأجاص مثلاً، ونقلوا ذلك إلى مدن المغرب بعد هجرتهم من الأندلس، واشتهرت الأندلس بزراعة أنواع مختلفة من الخضراوات والفواكه لدرجة أن كثيرًا من أسمائها دخلت في اللغة الأسبانية مثل الباذنجان والخرشوفو والسفرجل والسلق والزيتون والأرز والبطيخ السندي. ولقد اهتم علماء النباتات في الأندلس بدراسة أنواع النباتات واعتبروها جزءًا من اللغة فدونوها في معاجمهم، كما فعل أبو الحسن ابن سيده (ت 458 هـ) في كتابه المخصص. ومنهم من اهتم بالنباتات الطبية التي تستخرج منها الأدوية والعقاقير لفوائدها الصحية، مثل ابن البيطار المالقي (ت646هـ) صاحب كتاب الجامع لمفردات الأغذية والأدوية. ومنهم من كتب عن النبات من حيث زرعه ونموه ومن أشهرهم العالم الإشبيلي أبو زكريا يحيى بن العوام في كتابه الفلاحة في الأرضين على أن تقليم الأشجار والعناية بها كانت سببًا في غزارة الفواكه، ومايزال المغرب يحتفظ من الريف والمدن الأندلسية بفواكه نادرة.

توزيع المياه في المدن

توجد في كل مدينة شبكة مائية توزع الماء بين الدور والسقايات والحمامات ويدير شؤونها خبراء وماتزال مدينة بلنسية تحتفظ إلى اليوم ببعض مظاهر ما تبقى من نظم المسلمين المتعلقة بري البساتين، وذلك في محكمة المياه التي تعقد عند باب المسجد الجامع (وهو موضع الكاتدرائية اليوم) ظُهر كل يوم خميس. وتتألف المحكمة من خبراء بشؤون الري يمثلون نواحي بلنسية ويرأسها أمين وينادى على أصحاب الظلامات وبعد المناقشة والمداولة يصدر الحكم وهو حكم ملزم لا يقبل المناقشة أو الاستئنافات. أما في المغرب فكان نظام توزيع المياه الداخل إلى مدينة فاس من واد الجوهر بهندسة دقيقة، حيث يصل إلى كل منزل حظه من الماء، ويصفى الماء بالنشارة (وهو ما يتبقى من نشر الخشب) لإعطائه نكهة طيبة.

المرافق المائية

النافورات والسقايات والنوافير والبركات والصهاريج والحمامات والسواقي كلها بنايات مائية لاتخلو منها مدينة أو قرية لحاجة المسلمين إلى الماء الذي هو وسيلة الطهارة والوضوء والاغتسال، لهذا تفنن المسلمون في هندستها وبنائها وزينوها بالآيات القرآنية والحكم الأدبية وصور الأزهار والحيوانات، فالمسجد تتوسط صحنه نافورات وبجانبه ميضات (أماكن للوضوء)، وفي الغيطات والبساتين والغابات والحدائق نواعير ترفع المياه من النهر والآبار للسقي، وفي الطرقات العامة سقايات مزينة بالفسيفساء للشرب والأرواء، وفي البساتين صهاريج وبركات لتخزين الماء. أما الحمامات ذات الأجنحة الأربعة فتتوفر في جناح الاستقبال على خصة ماء وفي الجناح الداخلي على برمة للماء الساخن وأرضية سخينة. أما المنازل والدور فتحتوي زيادة على الآبار والسواقي والسقاية أوعية لاختزان ماء المطر. وتتوفر المدينة على شبكة خطوط مائية لنقل ماء النهر إلى كل منزل في المدينة غالبًا. أما إذا لم تكن المدينة على جانب النهر فتوجد خطارات أو ينقل الماء بواسطة القرب.

الصناعات المختلفة

مراقبة الصناع والحرفيين. ازدهرت الصناعة في مدن مختلفة بالأندلس وتكونت معها طوائف حرفية عرفت باسم أرباب الصنايع. وصار لكل صنف رئيس أو شيخ منتخب من أصحابها عرف باسم الأمين أو العريف. وكان هذا الأمين مسئولاً ومدافعًا عن طائفته وأهل حرفته أمام المحتسب، فكان يبلغه رأي طائفته حول تكاليف السلعة التي يصنعونها وتحديد ثمن بيعها، كما يقوم بدور الخبير الفني في الخلافات التي تقع بين أهل الحرفة وعملائهم حول سلعة من السلع، ورأيه كان معولاً عليه لدى القاضي أو المحتسب، وكان الأمين يأخذ أجرًا من أصحاب الحرف أو (الحنطة).
ولقد كفلت الدولة لهم حرية في ممارسة أعمالهم، ولم تتدخل إلا في بعض الصناعات التي كانت ممارستها تتطلب الحصول على إذن خاص، مثل بناء الحمامات وصنع الأسلحة وصك النقود وتركيب الأدوية والتطبيب والحجامة.
صناعة النسيج. اشتهرت الأندلس بنسج ملابس الحرير بأنواعه المختلفة مثل الخز ويصنع من الحرير والصوف أو الوبر، والإبريسم وهو حرير خالص، والديباج وهو نسيج حريري موشى بخيوط من الذهب أو الفضة. وكان هذا بفضل عناية أهلها بتربية دودة القز. ومن أهم مراكز تربية دودة القز غرناطة ومالقة وجيان التي كان يقال لها جيان الحرير لكثرة اعتنائها بدودة الحرير. وكانت مدينة المرية في شرق الأندلس من أهم مراكز صناعة المنسوجات الحريرية، ويقدر عدد الأنوال فيها بحوالي 5800 نول، واشتهرت إشبيلية بالحلل الموشاة ذات الصور، كذلك اشتهرت الأندلس بصناعة الأنسجة الصوفية. أما صناعة السجاد والبسط والحصير فمركزها يقع في شرق الأندلس في مرسية وبسطة.
صناعة الكتب. اهتم العلماء بإنتاج الكتب التي يؤلفونها فاختاروا الورق، وكان الشطبي أجوده وورق الغزال أغلاه. واهتموا بالخط فكان الوراقون يستأجرون الخطاطين الذين يختارون لون الحبر والمداد ونفائس القصب لصناعة الأقلام وديباجة الكتاب وتزيين الحواشي بالتذهيب وفنون التجليد ومنها تغليف الكتاب بالجلد السميك والنقش عليه. وفي كتاب عمدة الكتاب وعدة ذوي الأسباب وصبح الأعشى للقلقشندي ما يكفي تقصي الموضوع. وقد ورد في بعض المصادر أن أهل الأندلس كانوا أحذق الناس بالوراقة.
وعثر في جامع الكتبية على كتب استعيض عن لوح الجلد أو الخشب منها بالورق السميك (الكرتون) وهي ابتكارات جديدة في فن التجليد، أما المصاحف فقد خُصَّت إضافة إلى التجليد بصنادق خشبية أو فضية تكريمًا لها وربما كسيت غلافات الكتب بالحرير.
إن اكتشاف الورق في الصين وتطوير العرب لصناعته في سمرقند وشاطية كان بمثابة اكتشاف المطبعة، فقد انتقل إلى إيطاليا في القرن 13 ومنه إلى فرنسا وإنجلترا في القرن 16 فكان أعظم عامل في النهضة الأوروبية. وكان من المألوف أن يكتب الأوروبيون كتبهم ويرسمون عناوينهم بالأرابيسك، بل عثر في مخطوط رسالة للفيلسوف الألماني كانط على جملة بسم الله الرحمن الرحيم طغراء لكتابه.
صناعة الخيام والمظلات. الخيام بمثابة المنازل لهذا كانوا يتفننون في تنميقها وتزيينها بالألوان والمرافق والرسوم والصور بالألوان المختلفة. فالصناع يصنعون الحيطى في المنازل لتصبح كالخيام في تزخرفها وتلوينها، ويختلف طولها وعرضها وعظمها حسب الحاجة، وتكون أحيانًا بمثابة الدور ذات المرافق المتعددة، فيها المطبخ ودورات المياه. وفي مقدمة ابن خلدون فصل خاص عن الأقبية.
أما اللحافات فتصنع من الثوب السميك، وتوضع عليها الغطى والمساند المزخرفة والمطرزة بطرز الغرزة أو الطرز العادي، وأحيانًا بالخيوط الحريرية المذهبة. وخاصة الخيط الحريري من دودة القز المجلوب من صفاقس والأندلس. أما المظلات الملكية فهي منقولة في صناعتها واستعمالها عن الفاطميين، وكانت المظلة قبة من القماش شبه درقة في رأس تحمل فوق رأس الخليفة في المواكب، فهي من شارات الملك يحملها صاحب المظلة لتقي الخليفة من حر الشمس وقطرات المطر. وكان ملوك الأندلس قبل مجيئ العرب يكسونها بالدر والياقوت والزبرجد كما في نفح الطيب.
وازدهرت صناعة طرز الألبسة على الصعيد الرسمي والشعبي وتسمى دارها دار الطرز حيث تنسج الثياب الفاخرة لصنع الديباج والستور، والمعاجر للنساء والخُمر والزرابي والسباني وستائر الأبواب للبيوت في المنازل.
صناعة الأواني والحلي. اعتنى علماء الآثار بالأواني لأنها من مظاهر الحضارة، وتعتبر دراسة الخزفيات وصناعتها وتجارتها من أهم ما أولع به علماء التاريخ، حيث يتجلى ذوق الفنان وازدهرت التجارة، وبالأخص تجارة الكؤوس والقدور والجرار والأطباق والمسارج والزهريات والطواجين والقنوات المائية.
ويذكر ابن أبي زرع في الأنيس المطرب أن بمدينة فاس أكثر من 180 دار لصناعة الفخار. كما يذكر الجزنائي ذلك في كتابه زهرة الآس. ولاتوجد مدينة في المغرب والأندلس إلا وفيها دور للخزف والفخار لحاجة الناس إلى الأواني. وتمتاز مدينة آسفي بتربة صالحة لصناعة الفخار، تسمى تراب الصيني، وربما كان ذلك لتشبهها بالأواني الصينية الفاخرة وبصنع الأواني بطريقة القوالب.
أما الحلي الذهبية أو الفضية فقد انتشرت في كل المدن الأندلسية المغربية، وكان اليهود في الغالب هم المختصين في هذه الصناعة. كما كان يصنع الفخار المذهب في مالقة حسب ما يذكره الإدريسي في النزهة وابن بطوطة في الرحلة والمقري في النفح.
صناعة الزجاج. عرفت صناعة الزجاج في مختلف الحضارات ومنذ القرن الثاني والأول قبل الميلاد، وهو مركب من الرمل والجير والصودا، وكان يصنع بطريقتين: طريقة النفخ وطريقة الدلك. على أن التطور في صناعة القنينات والأواني تطور بطريقة النفخ. وكانت الحضارة الفرعونية قد اشتهرت بجودة الأواني الزجاجية، ثم تطورت الصناعة إلى تلوين الزجاج. ولما عرف المسلمون هذه الصناعة طوروها لشغفهم بقوارير العطور، وصناعة الصيدلة فزينوا الزجاج بصور الحيوانات والأزهار.
أما طريقة التلوين فهي بإضافة أكاسيد مختلفة كأكسيد النحاس الذي يعطي اللون الأخضر الفيروزي، وأكسيد الكوبالت الذي يعطي الأزرق الفاتح والمنجنيز الذي يعطي الأرجواني وهكذا.
وكان الزجاج يصنع في مالقة والمرية. كما استورد المغاربة والأندلسيون الأواني الزجاجية من العراق. ولذلك يسمون نفائس الزجاج الملون بالعراقي. ويشير الإدريسي إلى صناعة الزجاج في القادسية بالعراق.
صناعة العاج. عمل الصانع المغربي على صناعة المشط وبعض الأواني من قرون الحيوانات على أن العاج المحلَّى به من إفريقيا السوداء كان مصدر صناعة تحف فريدة خاصّة في تطعيم التحف الخشبية والصناديق الصغيرة والعلب المختلفة، وكانت الصناديق الكبيرة تزين بالتطعيم سيما صناديق العروس التي كانت من أنفس ما تقدم في حفل زفافها من رياش فاخر وطسوت فضية وصحون مفضضة وأباريق وبالأخص البابور المصنوع من النحاس الأحمر.
أما التحف العاجية الممتازة فتحمل زخارف تحمل اسم من صنعت له وتاريخ صنعها. كما كانت شواهد القبور تحمل كتابات بآيات قرآنية وأبيات شعرية فيها ترجمة وتاريخ.

الأسطول الأندلسي

تعود الأندلسيون الاحتفال بأسطولهم عندما يرجع ظافرًا من حرب، حيث تقوم الأساطيل بألعاب ومناورات وحركات بمرأى عظماء الدولة.
وكان الأسطول يضم بروجًا وقلاعًا وتوابيت ومنجنيقات ومكاحل بارود، ونفطًا ومقاتلة. وأنواعه كثيرة منها: الشواني وتحمل ما بين المائة والخمسين والمائتين؛ البوارج وهي أكبر من الشواني؛ السطات والحراقات المجهزة بالمنجنيقات؛ والعرادات، وهي في صورة الأسد والفيل أو العقاب؛ والطرائد وتحمل الخيل؛ والغوافير وتحمل المؤن؛ والسانديات وهي الفلانك.
واستعملوا في حروبهم البحرية النار اليونانية الممزوجة بالكبريت والبارود المسمى الثلج الهندي. والمعروف أن العرب استعملوا البارود سنة 906م، وحاصروا به صقلية سنة 972م واستعمله الغرناطيون في حصار باجة 1246م، وعنهم أخذه الغربيون. وكانوا يستعملون قوارير النفط وجرارة الثور، وهي مسحوق ناعم مؤلف من الكلس والزرنيخ يرمون به العدو في مراكبهم فيعمي أبصارهم بغباره. ويستعملون قدورًا مليئة بالحيات والعقارب والصابون لتنزلق في أقدامهم.
أما هم فكانوا يبطنون مراكبهم بالجلود المبلولة بالماء والخل والشب والهطرون كي لاتتأثر بالاشتعال. واستعملوا الأسطام في أول السفينة، وكان مثل سنان رمح بارز في مقدم السفينة وبها يهاجمون أعداءهم فتغرق بالخرق.
وكان في السفينة بيت لرئيسها ليدبر أمرها، وبه بوصلة وخريطة تسمى الرهنامج.

الرحلات

لم يكن الرحالة المسلم مجرد سائح متجول بل كان يسجل في كتاباته معلومات تجارية واجتماعية مما يفيد رجال الاقتصاد. فكان الحج إلى مكة المكرمة أداء للفريضة وإجازة للعلم واتصالاً برجال الثقافة، وأخذًا للعلم رواية ودراية، مما جعل الرحلات علمًا مستقلاً يعتمد الجغرافية السياسية والاقتصادية. ومن أشهر رجال الرحلات في الأندلس:
1 - الوراق، مؤلف مسالك إفريقية وممالكها.
2 - البكري، مؤلف المسالك والممالك.
3 - الحميري، مؤلف الروض المعطار في خير الأفكار.
4 - الغرناطي، مؤلف المُغرب في عجائب المغرب.
5 - الإدريسي، مؤلف نزهة المشتاق.
6 - ابن وهب القرشي، رحل إلى الصين سنة 256.
7 - سليمان الصيرافي، كتب رحلة عن أسفاره في الخليج العربي والصين.
8 - سلام الترجمان، رحل إلى الصين أيام الواثق العباسي.
9 - اليعقوبي مؤلف البلدان.
10- ابن خرداذبة، صاحب المسالك والممالك توفي سنة 300هـ.
11- الحسن المهلبي رحل إلى السودان سنة 375هـ.
12- محمد التاريخي الأندلسي المتوفي سنة 363هـ وهو مؤلف وصف إفريقية والمغرب.
13- أبو دلف رحل إلى الصين سنة 331هـ.

التقدم العلمي

درس أبو فرناس من المولدين الفلك والكيمياء والطبيعة وامتاز بعقله التجريبي وشيد في بيته شكل قبة السماء ورتب فيها ما يشبه الشمس والقمر والنجوم في منازلها، وجعلها تدور بحركة مثل حركة الأفلاك بحيث تمكن رؤية حركات النجوم والكواكب السيارة حول الشمس. أما في الطيران فقد صنع لنفسه جناحين وجعلهما من الحرير وريش النسور وترصد هبوب الرياح فطار بهما، ولم يفطن إلى ضرورة الذيل في النزول والهبوط، فسقط على مؤخرته وتوفي (راجع ص 89 المجمل في تاريخ الأندلس لعبد الحميد العبادي).
المكتبات العلمية. لعل أهم مكتبة علمية في الأندلس أسسها الخليفة الحكم في قرطبة وفيها كتب بمختلف اللغات والموضوعات وقد احرقت في عهد المنصور بن أبي عامر الذي كلف لجنة بمراجعتها ثم أحرقها بعد أن زعم أن بها كتبًا إلحادية وذلك تزلفًا إلى العوام والفقهاء الذين كانوا يكرهونه.

الفلسفة

كان الفلاسفة في المشرق إما أصحاب منظومة فلسفية تهتم بالتنسيق أو أصحاب تفصيل لما دق في الموضوعات، يهتمون بالصلة والسببية والمنطق والنحو. على أنهم اهتموا جميعًا بالعلاقة بين الفلسفة والدين.
تطورت الفلسفة في الأندلس على يد الأندلسيين الذين ذهبوا إلى المشرق كمحمود بن عبدون (347هـ) الذي درس المنطق على سليمان السجلماسي، ورجع إلى بلاده ليكون طبيب الحكم الثاني وهشام الثاني الأمويين، وكان له تأثير في الفكر الفلسفي في الأندلس، كما يظهر ذلك في الفلسفة الرشدية. ومما لاشك فيه أن ابن رشد في طليعة فلاسفة المغرب، وكان ذا تأثير عظيم في المحيط المغربي، كما في أوروبا، وهي مدينة له في فهم الفلسفة الإغريقية الأرسطية. واستمر أثره إلى عصر كانط في بداية القرن التاسع عشر. ولم يقتصر التأثير الأندلسي في الفلسفة فقط، بل كذلك في الرياضيات فجاليليو متأثر بنظرية ابن الهيثم في البصريات، إلى غير ذلك من تطورات يصعب حصرها هنا.

الشعر

شهدت الأندلس الإسلامية ولعًا بالشعر والغناء قل نظيره في حقب التاريخ المختلفة. فقد شاع انشاد الشعر في كل المناسبات، سواء الدينية أو السياسية أو الاجتماعية وظهر شعراء سجلوا بمدائحهم أعمال الخلفاء والوزراء والولاة كابن عبد ربه وابن زمرك وابن الخطيب وشعراء الطغرائيات يكتبون قصائدهم في حنايا أبواب المساجد والقصور كابن زمرك وشعراء الحماسة الذين يمثلون الفروسية العربية مثل سعيد بن جودي وشعراء التصوف. وضاقت بالشعراء أوزان الشعر العربي وأعاريضه فأقبلوا على شعر الزجل والموشحات ومقطوعات الغناء، وأصبح معظم أهل الأندلس شعراء حتى قال القزويني "إن الفلاح يحرث بثور في شلب، يرتجل ما شئت من الأشعار فيما شئت من الموضوعات." وكان كبار القوم لا يتراسلون إلا شعرًا ويتهادون بطاقات الدعوات والاعتذارت والأهاجي والتعريف شعرًا.

وفرة الانتاج الأدبي

كتب أبو الحسن ابن محمد التميمي المعروف بابن الربيب القروي، وكان عبدالكريم النهشلي يعده شاعرًا متقدمًا، إلى أبي المغيرة عبدالوهاب بن حزم الأندلسي (ت 438هـ) بعد أن أثنى على الأندلس وأهلها يعاتبه على تقصيرهم في التأليف عن مآثر بلادهم وأخبار أعلامها ويقول مثنيًا على المؤلفين السابقين: "فإن قلت إنه كان ذلك من علمائكم، وألفوا كتبًا لكنها لم تصل إلينا فهذه دعوى لم يصحبها تحقيق، لأنه ليس بيننا وبينكم إلا روجة راكب أو قارب، لو نفث ببلادكم مصدور، لا سمع ببلادنا من في القبور، فضلاً عمن في الدور والقصور، وتلقوا قوله بالقبول كما تلقوا ديوان ابن عبدربه منكم الذي سماه بالعقد. "وأجابه أبو المغيرة: وأنا أعلم أن عندكم لنا تواليف تطيرون بها".

الغناء

كان أهل الأندلس يغنون ويطربون بأسلوب الغناء المسيحي الأندلسي أو بطريقة الحداء العربي كما في التيفاشي، ثم تطور الغناء بعد ذلك على يد ابن ماجة ثم أبي الحسن المرسي، الذي أرسى قواعد الموسيقى، وكذلك العباس ابن فرناس ومسلمة المجريطي وأبو الصلت الدانئ (توفي 529هـ) وابن سبعين الصوفي مؤلف كتاب الأدوار ويحيى الخدوج المرسي مؤلف الأغاني الأندلسية على نهج الأغاني الأصبهانية.
وتأسست في الأندلس مدرسة الغناء وتعليم الجواري جاء وصفها في الذخيرة لابن بسام، وكان يعلم فيها الغناء والكتابة والخط والعزف على الآلات، والرقص والخيال (التمثيل) والفروسية. انظر: الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة. أما الآلات فكثيرة ذكرها الشقندي مثل العود والروطة والرباب والقانون والمؤنس والجيتار والمزمار والبوق وغير ذلك.
وقد وصل من أنواع الموسيقى الأندلسية إلى إفريقيا الشمالية نوع يعرف بالإشبيلي انتهى إلى تونس، والغرناطي إلى الجزائر والبلنسي والغرناطي إلى المغرب.
ورحل إلى المشرق كثير من المغنين الأندلسيين كالباهي وابنه أبو المجد الطبيب. وجاء علي بن نافع الملقب بزرياب إلى الأندلس بعد أن ضاق بوجوده في بغداد إسحاق الموصلي وأمره أن يغادر قصر الخليفة الرشيد وإلا كاد له وحطم مكانته فارتحل من الشرق إلى القيروان وغنى لزياد بن إبراهيم. انظر: زرياب. ولكنه غنى له ذات يوم بمدح السود بأبيات لعنترة بن شداد، فغضب زياد وأمر بضربه وإبعاده، فاستدعاه الحكم إلى قرطبة وفيها غنى للحكم الذي قدر مواهبه، وأقطعه الضياع والبساتين، وكان زرياب مثقفًا كبيرًا وفلكيًا بارعًا وعالمًا مقتدرًا وشاعرًا مطبوعًا. وقد طور زرياب الموسيقى العربية فزاد الوتر الخامس في العود وعزف بريشة النسر بدل الخشب، وأسس مدرسة تعليم الموسيقى يلقن طلابه فن الموسيقى على مراحل من الإيقاع إلى الألحان والعزف. وكان أول من استحدث الكورس، ولايقبل في مدرسته إلا بعد امتحان لأصوات الطلاب والكشف الطبي عن الصدر والأسنان. كما أرسى قواعد المعاشرة والمجالسة وآدابها، فطور الملابس حسب اختلاف الفصول، وتصفيف الشعر، واتخاذ الأكواب من الزجاج بدل المعادن واصطنع الأصص للأزهار من الذهب والفضة.
جاء في مطالع البدور في منازل السرور للغزولي "الشراب في كؤوس الزجاج أحسن منه في كل جوهر لا تفقد معه وجه النديم، ولا يثقل في اليد ومن شرب فيها فكأنما يشرب في إناء وهواء وضياء.
وظهر من أثر زرياب أكابر الملحنين والملحنات في الأندلس مثل ولادة بنت المستكفي (المتوفاة 484هـ، 1091م) وهي في قصور الأندلس أشبه بعلية بنت المهدي في بغداد.
ومن أبرز الملحنين والمغنين عبدالوهاب بن الحاجب، وهو كما يقول المؤرخون واحد عصره في الغناء الرائق، وكان من أبرز الملحنين وأقدرهم على عزف العود في عصره.
إن زرياب عبقري الموسيقى في عصره وكان يدعي أن الجن تعلمه النوتة الموسيقية وهو نائم، فكان يستيقظ ويملي ألحانه على جاريتيه غزلان وهنيدة، ومع ذلك فقد كان يحيى الغزال الشاعر المشهور يسخر من ألحانه كما كان ابن عبدربه يعرض به.
وظهر في الأندلس موسيقيون يضعون الألحان للمغنين والمطربين كعبد الوهاب بن الحسين، كما تفننوا في صناعة العود، فاخترع أبو جعفر الوقشي الطليطلي عودًا يعزف من تلقاء نفسه، وذلك بتحريك آلات تحريكًا أوتوماتيكيًا تظهر على أوتاره.
وكان الفقهاء ينكرون الطرب والغناء ولايقبلون شهادة المغني، ولم يسمحوا أن تباع كتب الموسيقى علنًا، لأن الموسيقيين المغنين كانوا يغشون مجالس الشراب.

الحضارة الإسلامية في المغرب بعد سقوط غرناطة

عندما دخل الأندلسيون إلى المغرب استعجم المغاربة أخلاقهم ولغتهم. وفي رحلة موريط أن الرباطيين كانوا يتكلمون بالأسبانية، وكل هذا كان سببًا في حدوث نفرة بينهم وبين جيرانهم فألف عبدالرفيع سنة 1052هـ كتابًا في الدفاع عن إسلام الأندلسيين، غير أن الأندلسيين حملوا إلى المغرب حضارتهم وثقافتهم وكان لهم أثر عميم في حفظ الصناعة والثقافة والملاحة الأندلسية، ولقد لعبوا دورًا في القرصنة البحرية، ولم يمض على مكثهم بالمغرب مدة قليلة حتى ظهر أثرهم جليًا في الحياة الاجتماعية المغربية، وفي الأدب والعمارة بصفة خاصة، فكونوا مدرسة ثقافية تمتاز بخصائص الأدب الأندلسي من رقة وصفاء، وقدرة على مزج العاطفة بالطبيعة مع سحر الألفاظ وتناسق في انتقاء التعابير، وفي مقدمة سوق المهر ذكر لنماذج من هذا الأدب المغربي الذي يذكرنا بأدب الفردوس المفقود، كما يضم تاريخ تطوان للمؤرخ محمد داود وصفًا حيًا لحياة المهاجرين الأندلسيين إلى تطوان وأدبهم. وتجاوز هذا التأثير ميدان الأدب إلى ميدان الفن حيث عملت يد الصناع الأندلسيين على بناء ما يذكرهم ببلادهم، وكذلك حملوا معهم الموسيقى الأندلسية بأطباعها المختلفة، وأساليبهم في الري، ولم ينسوا أن يحافظوا على مظهرهم الاجتماعي الأندلسي سواء في حفلاتهم وأعيادهم أو في لباسهم أو في فنون خياطة الملابس لنسائهم من تخريم وطرز وغير ذلك. وظلوا متمسكين بتقاليدهم لم يفرطوا في شيء منها، بل إنهم حملوا معهم إلى الرباط توابيت علمائهم وصلحائهم فدفنوها من جديد لتعيش معهم في أرضهم الجديدة. ولمعرفتهم بلغة الأسبان والفرنج، ومعرفتهم بعوائد الغرب، وأنظمته فقد كان منهم السفراء إلى البلاد الأوروبية. وفي الاغتباط بتراجم قضاة الرباط لأبي جندار ذكر لعدد من علمائهم وأدبائهم وشعرائهم. وكان لطرد مسلمي الأندلس أثر في إذكاء روح البغضاء في العالم الإسلامي لعمل المسيحيين، وقد استفتى الخليفة سليمان القانوني شيخ الإسلام أبا السعود الغمادي الدمشقي في إكراه النصارى على ترك دينهم أو الجلاء، فأبى شيخ الإسلام عليه ذلك، لأن الإسلام لا يسمح بالإكراه في الدين.
وكان للأندلسيين اليد الطولى في الأدب والعلم والصناعة والزراعة حتى ضايقوا أهل البلاد، وقطعوا أرزاقهم. وكان لايستعمل بلدي إذا وجد أندلسي، وذكر ابن خلدون عن رحلتهم إلى المغرب، وأثرهم القوي في إنعاش حضارتهم فيه في مقدمته بقوله: " وألقت الأندلس بأفلاذ كبدها... إلى إفريقيا، ولم يلبثوا أن انقرضوا وانقطع سند تعليمهم في هذه الصناعة لعسر أهل العدوة لها وصعوبتها عليهم وعوج ألسنتهم ورسوخهم في العجمة البربرية". وكان بالرباط كثير من النسوة المنحدرات من الأسر الأندلسية ينسجن أنواعًا من التعاليق والستور عجيبة التشبيك، وفي الفلاحة حمل الأندلسيون الواردون على الرباط خلاصة تجاربهم الفلاحية، وبالرجوع إلى كتاب الفلاحة الأندلسية للطنفري زهر البستان ونزهة الأذهان، وكتاب الفلاحة الأندلسية لأبي زكريا يحيى ابن العوام الأشبيلي نجد تحليلاً دقيقًا لفن الفلاحة الذي يعتمد على اختيار الأرض والمياه والغراسة وتربية الماشية واختزان التين والتفاح والكمثرى والسفرجل والأترج والرمان والأجاص والعنب والقسطل والفستق والبلوط ومن تطعيم الزهور وتلوينها والتثمير في غير الأوان. ومن عادة الأندلسيين الرباطيين أن يهتم المعلمون بتعليم الصبيان آخر رمضان أساليب تزويق الألواح بدوائر وخطوط هندسية يلونونها بمختلف الأصباغ لتدريبهم على مبادئ الهندسة. أما في الأندلس فقد تحول المورسكوس في أسبانيا المسيحية بعد نشاط محاكم التفتيش ضدهم إلى مزارعين يعملون في الإقطاعيات التي يملكها النبلاء، ونظرًا لخبرتهم ونشاطهم فقد أصبحوا عمدة الفلاحة والغراسة والاقتصاد بصفة عامة مما جعل النبلاء يقاومون الكنيسة في حملتها التنصيرية لما يفقدها ذلك من مزايا اليد العاملة. وعندما ظهرت حركة العمال لمقاومة النبلاء كانت دعوتهم إلى تنصير المسلمين ليضعفوا قوة النبلاء، لكن المسلمين آثروا العبودية وخدمة النبلاء بدل التنصير المفروض عليهم. وبعد سنة 1521م عادت الكنيسة من جديد إلى الحملة التنصيرية عن طريق محكمة التفتيش، وأنهت فظائعها بإجلاء الموريسكيين عن الأندلس، ولم يمنع ذلك من بقاء كثير من المسلمين بأسبانيا تنصروا ظاهريًا فقط كما حدث عنهم الغساني في رحلته افتكاك الأسير وبعد انتصار الجمهوريين بأسبانيا جاهر كثير من الموريسكيين الأسبان بأصلهم، فتفوقوا بأوروبا، وكانوا من أعلام الفكر بجامعاتها، وفي أمريكا الجنوبية وبالأخص في الأرجنتين والبرازيل وفي أرخبيل الفلبين حيث ماتزال بقية منهم في جزيرة مور كما استوطنوا إفريقيا الشمالية والسنغال التي ماتزال تحتفظ ببقايا منهم. ولم يمنع ذلك كله كثيرًا من المسلمين الذين تنصروا ظاهريًا فقط أخذًا بمذهب التقية البقاء لأن البلاد لاتستغني عنهم، كما يقول المثل الأسباني "حيث لا عرب لا فائدة". ويذكر شكيب أرسلان في كتابه حاضر العالم الإسلامي أن ظهور كراهية النبلاء والرهبان بين هؤلاء ليست نتيجة رواج المبادئ الشيوعية أو الاشتراكية، بل ثمة عرق عربي عاد فنزع في الأندلس بعد إعلان الحكم الجمهوري.
وقد حمل العلماء الأندلسيون إلى الغرب عدة مصطلحات عربية فقد كانوا يلجون الجامعات الأوروبية سواء الأسبانية أو الفرنسية أو غيرها، وحتى الجامعات الأسبانية في أمريكا اللاتينية عندما هاجر إليها الأسبانيون. فنقل هؤلاء كل معطيات الحضارة الإسلامية إلى أوروبا، وكذلك نقل الموريسكيون عندما هاجروا من الأندلس إلى المغرب كلمات أسبانية مما يعتبر من آثار التداخل الثقافي.
وفي الرباط بالخصوص ذكر مؤلف سوق المهر أن قدماء المهاجرين الأندلسيين ساروا في البلاد، ونشروا ما حملوا من علوم وآداب: "ورغم سقوط دولتهم فإن حياة الأفكار كانت متوقدة مشبوبة، لأن سقوط الدولة لم يكن عن هرم طبيعي، وإنما أودى بها الشقاق وعجل بدمارها الافتراق". وكان الأندلسيون يؤثرون أن يسموا بالأندلسيين بينما كان المؤرخون العرب يسمونهم بالمهاجرين الأندلسيين وأحيانًا يلقبون بالغرباء. أما المسيحيون منهم فكانوا يلقبون بالموريسكوس أو بالمدجنين وهم الذين كانوا موزعين في أسبانيا قبل سقوط غرناطة وضواحيها، والذين يعيشون في كنف الممالك الأسبانية منذ عهد المرابطين، وكانوا أرقى حضارة من الأوروبيين المسيحيين.
وكلمة الموريسكوس تصغير لكلمة موروس وهو لقب يطلق على جميع المسلمين الذين كانوا يحكمون الأندلس ثم غلبوا على أمرهم فصغر اسمهم تهوينًا لهم. ويرجع أصل هذه الكلمة إلى اللغة البربرية مور وتعني المغرب. ودخلت اللغة اللاتينية فأصبحت كلمة تعني سكان المغرب، حيث كان جنوب المغرب يسمى بموريتانيا.
ومنذ القدم أطلق سكان ليبيا كلمة موريتانيا - تنزانيا على المغرب العربي، ثم أصبح الوافدون عليهم من هؤلاء يسمون بالمورس مختصرًا عن موريتانيا. وأخيرًا أطلقوا هذا الاسم على كل عربي ومسلم، لأن المغرب باب الوافدين على أسبانيا، ولهذا فتترجم إلى عربي أو متعرب أما كلمة الموريسكوس فتعني المسلمين والعرب والمدجنين الذين ظلوا منتشرين في أسبانيا والبرتغال قبل سقوط غرناطة.


  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق