الأربعاء، 12 ديسمبر 2012

حقيقة الفلسفة اليهودية / بقلم : د.يوسف زيدان


الوهم :
    فى العقود الأخيرة ، ومع النشاط الإسرائيلى الواسع فى شتَّى بقاع العالم وشتى مجالات الحياة ؛ بدأت الدوائر الفكرية تكثِّف البحثَ فى التاريخ اليهودى القديم والمعاصر ، وطفت على السطح - وعلى أغلفة الكتب- تعبيراتٌ مثل: الفكر اليهودى ، التراث اليهودى ، الفلسفة اليهودية .. إلخ ، وكانت عبارة (الفلسفة اليهودية) هى عنوانُ كتابٍ ضخم ، صدر بالإنجليزية منذ عدة سنوات - ولعله تُرجم إلى لغاتٍ أخرى - وهو يقع فى مجلدين ، يبدأ الأول بالكلام عن: موسى النبى ، ويبدأ الثانى بشخصية ابن ميمون الذى هو أكبر شخصيةٍ يهودية فى العصور الوسطى.
    وهكذا يبدأ هذا التسلُّل اليهودى الجديد ، بطرح مقولة " الفلسفة اليهودية" والترويج لها ، مما يجعل الباحثين على اختلاف قومياتهم ، غير قادرين على تجاوزها فى بحوثهم .. وتلك حيلةٌ ماكرة ! أعنى : الإلحاح على طرح فكرةٍ معينة ، حتى تصير مع الوقت والتكرار والتراجم ، كأنها بديهيةٌ من البديهيات .
الواقع :
    لنتوقف عند ثلاث شخصياتٍ مشهورة ، فيما يسمُّونه بالفلسفة اليهودية .. لنرى كيف عبَّر هؤلاء الثلاثة عن فكرهم اليهودى المزعوم، وما هو بالضبط الذى عبَّروا عنه ! وقد اخترنا الفلاسفة الثلاثة هؤلاء، بالذات ، لما يحظون به من شهرةٍ تجعلهم أكبر المعبِّرين عن تلك الفلسفة اليهودية ؛ وهم فيلون اليهودى الذى ينتمى للعصر القديم ، ثم موسى بن ميمون و ابن كمونة الإسرائيلى وكلاهما من العصر الإسلامى .

فيلون

    يعدُّ فيلون أشهر ممثِّلٍ للفكر اليهودى ، امتدَّ عمره ثمانين عاماً - من سنة 40 قبل الميلاد ، إلى سنة 40 بعد الميلاد - وقد عاش فى الإسكندرية ، وكان من رجال اليهود البارزين .. فكان أحد الذين ذهبوا إلى الإمبراطور الرومانى كاليجولا يشكون له سوءَ معاملة الحاكم الرومانى فى مصر لليهود . ولم يكن فيلون على ارتفاع مكانته عند أهل مِلَّته ، يعرف اللغة العبرية ، وإنما كان يقرأ التوراة فى نَصِّها اليونانى المعروف بعنوان : الترجمة السبعينية ، وهى الترجمة التى أنجزها سبعون عالماً يهوديّاً فى الإسكندرية ، بدعوةٍ من بطليموس فيلادلفوس الذى أخذ بنصيحة ديمتريوس الفاليرى فدعا إلى إنجاز هذه الترجمة كمحاولةٍ منه لإضعاف صلة اليهود بأور شليم وإيقاف تسريبِ أموالهم إليها .. المهم ، لم يكن فيلون يقرأ نصوصَ دينه فى لغتِها الأصلية ، وهى مسألةٌ تشير إلى ضَعف البنيةِ العامة للثقافة اليهودية آنذاك .
    واشتهر فيلون بأنه صاحبُ (التأويل الرمزى للتوراة) فهو يعتبر النص التوراتى مجموعةً من الرموز التى ينبغى تأويلها حتى تنبعث فيها الروح .. واعتماداً على فلسفة أفلاطون المعدَّلة - وهى المعروفة بالأفلاطونية المحدثة - قام فيلون بشرح رموز التوراة على زعمه ، فكان إذا وقف على نصٍّ مثل (الكاهن الأعظم يخلع رداءه قبل أن يدخل قُدسَ الأقداس) يتأوَّله بقوله : إن الكاهن الأعظم هو النفسُ الإنسانية ، وخَلْعُ الرداء هو التخلُّص من سيطرة الجسم والمادة ، والدخول إلى قُدس الأقداسِ هو ارتقاءُ النفس إلى العالم الأعلى !
    وظل فيلون يشرح التوراة على هذا النسق .. فلا نجد عنده إلا صدى فلسفة أفلاطون وشذراتٍ من فلسفات المذاهب الأخرى . ولم يحدِّد فيلون تصوُّراً خاصاً للألوهية - التى هى عمادُ العقيدة - فآونةً يتصوَّر الإله على أنه قريبٌ من الإنسان ومساندٌ له فى كل وقت. وآونةً يتصوره مفارقاً للكون ، لا تربطه بالإنسان صلةً ، اللهم إلا إذا ارتقت النفسُ وتحررت عن البدن والمحسوسات ، فهنا فقط تدرك الإله المتعال .
    وعلى هذا النحو ، بدت فلسفة فيلون كانعكاسٍ وصدى للفلسفة اليونانية التى كانت سائدةً فى عصره ، ولم يكن فيها من اليهودية الأصلية شئ يؤهِّلها لأن تكون فلسفةً يهوديةً حقة .. فكان الأمرُ كما وصفه ول ديورانت فى كتابه: قصة الحضارة ، حين قال : لقد أحسَّ فيلون العالم المتضلِّع فى البحوث العقلية اليونانية ، بالحاجة إلى صياغةٍ للعقائد اليهودية من جديد ، كى توائم عقلية اليونانى ذوى النزعة الفلسفية . وعند هذا الحد -لا أكثر- وقفت جهود فيلون وتحدَّدت مكانته فى التاريخ .

ابن ميمون

    أما موسى بن ميمون فقد عاش فى المحيط العربى والإسلامى ، بعد فيلون بستة قرون ، فقد وُلِد فى قرطبة سنة 1135 ميلادية، وتوفى فى القاهرة سنة 1204 ميلادية ، واشتهر بأنه أهم شخصية يهودية خلال العصور الوسطى، كما اشتهر كتابه دلالة الحائرين بأنه واحدٌ من أهم الكتب التى دوَّنها اليهود.
    كان ابن ميمون قد تلقَّى العلم على يد ثلاثةٍ من العلماء المسلمين ، فتلقَّى مباشرةً من ابن الأفلح ومن أحد تلاميذ ابن الصائغ .. وتلقى من ابن رشد بشكلٍ غير مباشر ، حين عكف -كما يذكر ابن ميمون نفسه- على دراسة مؤلفات ابن رشد طيلة ثلاثة عشر سنة .
    والمطالِعُ فى أحد أهم كُتب ابن ميمون : دلالة الحائرين . لا يجد إلا صدى لأفكار فلاسفة الإسلام وعلماء الكلام - خاصةً الأشاعرة - ولذلك فحين ألَّف إسرائيل ولفنسون كتابه موسى بن ميمون حياته ومصنفاته وهو الكتابُ المنشور بالعربية فى القاهرة سنـة 1936 م كتب الشيخ مصطفى عبد الرزاق مقدمة الكتاب فقال فيها : إن موسى ابن ميمون يعدُّ من الفلاسفة المسلمين ! ثم ذكر العديد من الأدلة المؤيدة لذلك .. وفى مقدمة تحقيقه لكتاب " دلالة الحائرين" يقول الدكتور/ حسين آتاى : إذا أخذنا فى الاعتبار أنَّ الشهرستانى قد عدَّ حنين بن إسحاق النصرانى ، فيلسوفاً إسلاميّاً ؛ فإنه لاوجهَ للتفرقة بينه وبين موسى بن ميمون الإسرائيلى .. وكما يعتبر الفلاسفة اليهود المشاركين فى الفلسفة الغربية- يقصد أمثال: اسبينوزا وكارل ماركس وبرجسون - فى بلاد الغرب ، فلاسفةً غربيين ؛ فإن الفلاسفة اليهود والنصارى الذين شاركوا فى الفلسفة الإسلامية وعاشوا فى العالم الإسلامى آنذاك يعتبرون فلاسفةً إسلاميين ؛ فمحمد أبو بكر بن زكريا الرازى مع أنه كان لا يعتنق ديناً ما ، فقد اعتُبر من بين فلاسفة المسلمين. وعلى ذلك ، فالفلاسفة أمثال موسى بن ميمون لا يعتبرون فلاسفةً من ناحية الشكل فحسب ، لمجرد انتسابهم للمجتمع الإسلامى ، بل لمشاركتهم فى ثقافةِ ذلك المجتمع أيضاً ؛ لذلك فموسى بن ميمون فيلسوف إسلامى من ناحية الشكل ومن ناحية الموضوع ، لأنه نشأ فى ذلك المناخ الفكرى، فساهم فيه وأضاف إليه بقدر ما أخذ منه . وقولنا إنه فيلسوفٌ إسلامى، لايعنى أننا نرمى إلى القول بأنه مسلمٌ آمن بالإسلام ديناً - كان موسى بن ميمون قد أشهر إسلامه وهو فى المغرب ثم ارتد فى مصر -بل هو فيلسوفٌ إسلامىٌّ بالمعنى الثقافى الحضارى فحسب .. والدارس للثقافة الإسلامية ولا يزال الكلام هنا للدكتور آتاى حين يقرأ كتابه "دلالة الحائرين" يرى أن موسى بن ميمون حتى فى مناقشاته لنصوص التوراة ، إنما يصدر عن فكرٍ وثقافةٍ إسلامية ، وأنه عندما ينتقد المتكلمين المسلمين يكون نقدُه لهم بأسلوبٍ خالٍ من الشدة التى ينتقد بها المتكلمون المسلمون بعضهم بعضاً ، وأنه ينقد بنى دينه بشكلٍ أشد .. إذن ، فأبن ميمون يُعتبر فيلسوفاً إسلاميّاً .

ابن كمونه

    أما ابن كمونة (سعد بن منصور بن سعد بن الحسن بن هبة الله) فقد وُلِد بعد موسى بن ميمون بقليل ، وفى تاريخ وفاته اختلافٌ ؛ فالبعض يجعله سنـة 676 هجرية ، والبعض يقول سنـة 683 هجرية (= 1284 ميلادية) وهو لم ينل شهرة ابن ميمون ويدانيه ، لكنه يأتى فى المرتبة التالية له.. ومع ذلك ، فقد نال كتابه "الجديد فى الحكمة" من الشهرةِ والمكانة ، ما يجعل مؤلِّفه (ابن كمونة) من أعلام اليهود .
    وكما هو الحالُ فى دلالة الحائرين فالناظر فى الجديد فى الحكمة لن يجد إلا أصداء الفلسفة الإسلامية فى ثوبها التقليدى . فابن كمُّونة يعالج نفسَ المشكلات التى انشغل بها الفلاسفةُ والمتكلمون فى الإسلام ، ولا يخرج فى معالجته من الآراء التى قرَّرها من قبل. بل نراه يتخبَّط فى مذاهب الإسلاميين ، فإذا تعرَّض لمسألة الألوهية - مثلاً- جنح حيناً لآراء المعتزلة فى التنزيه ، وأقوال الفلاسفة فى سلب الصفات ، ثم يعود بعد ذلك فيقرِّر مواقف الأشاعرة والصوفية .. وإن كان موقفه العام أقرب إلى المعتزلة .
    ولا يكاد المتفحِّص فى كتاب ابن كمونة يرى أى أثرٍ لفكرٍ يهودى ، مهما دقَّق فى النصوص .. فلا شئ فى الكتاب إلا تكرار ما قاله من قبله الإسلاميون ، دون إضافة أو - حتى - تنسيق . والأكثر من ذلك مارواه بعض المؤرِّخين من أن ابن كمُّونة أسلم ، وصَحَّ إسلامه !

    وهكذا يتضح لنا من تاريخ هذه الفلسفة اليهودية المزعومة ، ومن خلال أكبر المعبِّرين عنها ... أن فيلون اليهودى ما هو إلا فيلسوفٌ يونانى يرجِّع صدى أفلاطون .. وما ابن ميمون و ابن كمونة إلا ترجيعٌ وانعكاسٌ للفلسفة وعلم الكلام الإسلامى. فلا يبقى -إذن- غير القول بأن اليهود كانوا دوماً صدى لعصرهم ، ولم يكن لهم فى يوم من الأيام فكرٌ أصيل أو فلسفة. وحتى فى العصر الحديث ، وفى أيامنا الحالية ؛ فما اليهود ودولتهم القائمة كالشوكة فى قلب العرب، إلا نتاجٌ لتغيراتٍ عامة ، لم يكن اليهود فيها إلا أداة لتحقيق مآرب غربية لم يقدِّم اليهود فكراً ولا فلسفة ، و لا فنّاً أو أدباً .. بل أحيوا رموز طموحهم الغابر فى دولةٍ تمتد من النيل إلى الفرات ، فتبتلع أرض العرب ؛ ولولا أسلحةٌ غربية، ورداءةٌ عربية ؛ ما تمَّ لهم من الأمر شئ .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق