الأربعاء، 5 ديسمبر 2012

لنتعرف على تاريخنا الأدبي



العربي، الأدب. الأدب في اللغة: الدعاء والجمع، والآدِبُ هو الداعي. قال طرفة :
نحن في المشتاةِ نَدْعُو الجَفَلَى لاتــرى الآدِب فينا يَنْتَقِر
ويرى بعض مؤرخي الأدب أن لفظة أدب بوزن فَعَل لم تستعمل في الجاهلية، إلا أن المتتبِّع لأخبار العرب يجدها قد وردت في خطاب النعمان بن المنذر إلى كسرى في قوله: ¸قد أوفدت إليك، أيها الملك، رهطًا من العرب لهم فضل في أحسابهم وأنسابهم وعقولهم وآدابهم·. ويقول عتبة بن ربيعة لبنته هند يصف لها أبا سفيان زوجًا من غير أن يسميه: "يؤدِّب أهله ولا يؤدبونه…" فقالت إني: "لآخذته بأدب البعل" إلى غير ذلك. فالواضح أنها معروفة في اللسان العربي في الجاهلية، ثم لما جاء الإسلام انتقلت إلى معنى التهذيب والتذليل والتثقيف؛ يقول الرسول ³ (من ابتلي من هذه البنات بشيء فأنفق عليهن وزوجهن وأحسن أدبهن كن له سترًا من النّار ) رواه الشيخان. وقال عُمر لبعض ولده: "احفظ محاسن الشعر يحسن أدبك".
ثم شاعت اللفظة لتعني الرياضة والتذليل باكتساب مكارم الأخلاق والمعارف، قال مزاحم العقيلي:
وهُنَّ يُصرّفن النَّوى بين عالجٍ ونجران تصريف الأديب المُذَلَّلِ
ثم تداولها الناس من بعد ذلك بالمدلول المعروف اليوم وهو كل رياضة محمودة يتخرج بها الأديب في فضيلة من الفضائل.
إذن كلمة أدب من الكلمات التي تطوَّر مدلولها وتعاقبت عليها معان متقاربة، حتى استقرت على المعنى الذي يتبادر إلى الذهن اليوم.
أما في الاصطلاح فالأدب هو الكلام الإنشائي البليغ الذي يراد به التأثير في عواطف القراء والسامعين، شعرًا كان أم نثرًا. ويراد بالأدب العربي مجموع الآثار النثرية والشعرية التي أنتجها العقل العربي في عصوره المختلفة.
ويختلف مؤرخو الأدب العربي في تقسيم عصوره؛ فهي خمسة عصور عند بعض المؤرخين الذين يجعلون عصر صدر الإسلام والعصر الأموي عصرًا واحدًا. ولعل الشائع عند الدَّارسين أنها ستة: العصر الجاهلي، عصر صدر الإسلام، العصر الأموي، العصر العباسي: الأوَّل والثّاني والثّالث، وقد يسمي بعض المؤرخين الفترة التي تلي عصر الدويلات العباسية عصر الانحطاط وهي تسمية غير مقبولة؛ لأن هذا العصر شهد إنتاجًا أدبيًا لايستهان به، ليس هذا مجال تفصيل القول فيه. وذهب بعض المؤرخين إلى تسمية هذا العصر بعصر الدول التركية. وقد جاءت تسميته هنا بعصر مابعد سقوط بغداد إلى مطالع العصر الحديث. أما آخر هذه العصور فالعصر الحديث، ويعرف أيضًا بعصر النهضة. ويتناول الحديث هنا الشعر والنثر في كل عصر من هذه العصور.

العصر الجاهلي

صار من الثابت بين الباحثين أن العصر الجاهلي لا يشمل كل ما سبق الإسلام من حقب طوالٍ، ولكنه يقتصر على حقبة لا تزيد على القرنين من الزمان، وهي ما اصطلح الباحثون على تسميتها بالجاهلية الثانية، وفي تلك الحقبة ظهر هذا الإنتاج الغزير الناضج من الشعر والنثر، واكتملت للغة العربية خصائصها التي برزت من خلال هذا النتاج الأدبي الوفير، كما استقرَّ أيضًا رسم حروفها الألفبائية. فما انتهى إلينا، إذن، من أدب جاهلي هو أدب الجاهلية الثانية، وهو ما نستطيع الحديث عنه ودراسة فنونه وخصائصه، أما أدب ما قبل هذه الحقبة التاريخية فهو أدب ما يسمى بالجاهلية الأولى، وهو أدب لم تتوافر نصوص منه، فالحديث عنه غير ممكن. ومن هنا فإن الأبحاث التي استقصت أولية الشعر العربي أو أولية اللغة العربية تقوم على مجرد الحدس والتخمين، أو على نوع من الأخبار الوهمية والخرافات.
على أن اللغة العربية التي سُجِّلت بها النصوص الأدبية في عصر الجاهلية الثانية هي واحدة من الأسرة السامية التي تشمل: 1- الأكادية والبابلية والآشورية. 2-الآرامية. 3- الكنعانية. 4- الحبشية. 5- ثم العربية بفرعيها: الشمالي والجنوبي.
وإذا كانت الأمية قد شاعت بين العرب، فإن هذا لا يعني قط انعدام القراءة والكتابة لديهم، فلقد انتشرت بينهم القراءة والكتابة بالقدر الذي يسمح لهم بتدوين معاملاتهم وآدابهم. انظر : الكتابة العربية. وإذا كانت الذاكرة العربية التي تميزت بالقوة قد حفظت قدرًا كبيرًا من الأشعار، فإن التدوين أيضًا كان مساندًا للرواية الشفوية.
أمّا طرح ابن سلام في كتابه طبقات فحول الشعراء لقضية الانتحال فينبغي أن يؤخذ على أنه دليل على ما بذله الأقدمون من جهود لتنقية الشعر الجاهلي من التزييف، ووضع المعايير العلمية الدقيقة لضمان سلامة الشعر الجاهلي وتوثيقه.
الشعر الجاهلي. أما مراكز الشعر العربي في العصر الجاهلي، فإنه بالإضافة إلى الجزيرة العربية نفسها: نجدًا وحجازًا، فقد عاش الشعر العربي وازدهر في إمارتين اثنتين هما: إمارة الغساسنة والمناذرة، وقد قامتا في الأطراف الشمالية من شبه الجزيرة.
أما إمارة الغساسنة، فقد قامت في بلاد الشام، حيث اتخذ الرومان، ثم خلفاؤهم البيزنطيون من بعدهم، من الغساسنة حلفاء لهم ضد أعدائهم التقليديين من الفرس، وحلفائهم من المناذرة في العراق. وقد كان الغساسنة عربًا من الجنوب نزحوا إلى الشمال، وأقاموا إمارتهم العربية تلك في شرق الأردن، وكانوا قد تنصّروا في القرن الرابع الميلادي. وكانت إمارة الغساسنة على جانب كبير من الثراء والتحضّر، ومن أهم ملوكهم الحارث الأصغر، ثم ابناه من بعده النعمان وعمرو، والأخير هو الذي قصده النابغة الذبياني، كما قصد حسان بن ثابت النعمان بن المنذر أيضًا ومدحه في قصائد شهيرة، منها قصيدته التي من أبياتها:
أولاد جَفْنة حول قبر أبيهمُ قبر ابن مارية الكريم المفضِلِ
وكما قامت إمارة الغساسنة في الشام، فقد قامت إمارة المناذرة في العراق. وكما كان الغساسنة عربًا ذوي أصولٍ يمنية، فكذلك كان المناذرة. ومثلما قصد شعراءُ الجزيرة أمراءَ الغساسنة، فكذلك قصدوا أمراءَ المناذرة، الذين كان من أشهرهم المنذر بن ماء السماء حوالي (514 - 554م)، وعمرو بن هند (554 - 569م) الذي ازدهرت الحركة الأدبية في أيّامه، وقد وفد عليه في الحيرة، حاضرة المناذرة، عمرو بن قميئة والمسيَّب بن عَلَس والحارث بن حِلِّزة وعمرو بن كلثوم.كما وفد النابغةُ الذبياني على أبي قابوس النعمان بن المنذر الرابع (580 - 602م)، ووفد عليه أيضًا أوس بن حجر والمنخل اليشكري ولبيد والمثقِّب العبدي وحجْر بن خالد.
ولا شك أن طبيعة المنافسة السياسية بين المناذرة التابعين لدولة فارس والغساسنة الموالين للبيزنطيين قد انعكست على الحياة الأدبية على نحوٍ ليس بالقليل.
ازدهر الشعر العربي، إبان الجاهلية، ازدهارًا عظيمًا تمثل في هذا العدد الكبير من الشعراء الذين تزخر المصادر بأسمائهم وأشعارهم، إذ نظموا في جاهليتهم الأخيرة قبل الإسلام كثيرًا من الشِّعر. ومع هذا فقد ضاع معظم هذا الشعر، على حد قول أبي عمرو بن العلاء : "ما انتهى إليكم مما قالته العرب إلا أقلُّه، ولو جاءكم وافرًا لجاءكم علمٌ وشعر كثير". وقد اشتهرت في الجاهلية بيوت كاملة بقول الشعر، فالنعمان بن بشير، مثلاً، كان أبوه وعمه شاعرين، وكذلك جده، ثم أولاده من بعده. وكعب بن مالك الصحابي الشاعر كان أبوه وعمه شاعرين، ثم أبناؤه وأحفاده، وكذلك كان أمرُ بيت أبي سُلمى، ومنه زهير وولداه كعب وبُجير، وأخوال كعب شعراء، ومنهم بشامةُ ابن الغدير. ثم هناك حسان بن ثابت الصحابي الشاعر، وقد تسلسل الشعر في بيته لبضعة أجيال.
عرف تاريخ الشعر العربي، في العصر الجاهلي، نساءً شواعر منهنَّ على سبيل المثال: الخنساء وخِرْنَق وكبشة أخت عمرو بن معْدي كَرِب وجليلة بنت مُرَّة امرأة كُليب الفارس المشهور، ولها في كليب مراثٍ من عيون الشعر العربي، وقيسة بنت جابر امرأة حارثة بن بدر ولها أيضًا مراثٍ في زوجها، وأميمة امرأة ابن الدُّمَيْنة. وقد كان أبو نُواس الشاعر العباسي يروي لستين شاعرة من العرب.
والناظر في المصادر العربية تهوله تلك الكثرة من الأشعار والشعراء خاصة إذا ضَمّ إليها ما جاء في كتب التاريخ والسير والمغازي والبلدان واللغة والنحو والتفسير، إذ تزخر كلها بكثير من أشعار الجاهليين بما يوحي أن الشعر كان غذاء حياتها، وأن هذه الأمة قد وهبت من الشاعرية الفذة ما يجعل المرء يتوهم أن كل فرد من رجالها ونسائها وعلمائها كان يقول الشعر. وتدلُّ هذه الكثرة من الشعر والشعراء على أن الشاعرية كانت فطرة فيهم، ثم ساندت هذه الفطرة الشاعرة عواملُ أخرى منها تلك الطبيعة التي عاش العربي الأول كل دقائقها من جبال ووهادٍ ووديان وسماء ونجوم وأمطار وسيول وكائنات. لقد كانت الطبيعة كتابًا مفتوحًا أمام بصر الشاعر العربي وبصيرته، ومن هنا استلهمها في أشعاره. ويضاف إلى الطبيعة تلك الحروب التي ألهبت مشاعره بحماسة موّارة، ثم حياة الإنسان العربي في بساطتها وفضائلها، وفي معاناته وصراعاته ضد الجدب والخوف معًا. ومن ثم جاء هذا الشعر ممثلاً لحياة الجزيرة العربية في بيئاتها وأحوالها المختلفة، ولحياة الإنسان العربي في أخلاقه وطباعه وعاداته وعقائده وبطولاته وأفكاره.
كانت للشاعر العربي في قبيلته منزلة رفيعة. كما كانت رموز القبيلة العربية الأساسية ثلاثة، هي: القائد، والفارس والشاعر. وكان الشاعر في القبيلة لسانها الناطق والمدافع معًا. بل كان بيت الشعر أحيانًا يرفع من شأن قبيلة، كما يُحكى عن بني أنف الناقة الذين كانوا يعيَّرون بلقبهم، حتى كان الرجل منهم يحتال على إخفاء لقبه، فما إن قال فيهم الحطيئة بيته الشهير:
قومٌ هم الأنف والأذناب غيرُهُمُ ومن يُسوِّي بأنف الناقةِ الذَّنبا
حتى صاروا يباهون بلقبهم ونسبهم.
يُعدُّ الشعر العربي الجاهلي سجلاً حقيقيًا للحياة العربية والعقل العربي في ثقافاته وخبراته الحية والمتنوعة، وقد كان الشِّعر الجاهليّ النموذج والمثال الذي يحتذيه اللاحقون احتذاءً حفظ على الأمة العربية أصالتها، ولكنه لم يحُلْ قَطُّ دون محاولات التطور والتجديد في مختلف العصور. وصار الشعر العربي الجاهلي مع قرينه الإسلامي مصدرًا أساسيًا في حركة التأليف في العلوم العربية والإسلامية: لغةً ونحوًا وبلاغةً وتفسيرًا، كما انبثق عنه علم العروض والقوافي، وهو أوثق العلوم صلةً بالشعر، فضلاً عن كتب المختارات الشعرية على اختلاف مناهجها، ثم تلك الشروح التي أضاءت النصَّ الشعري أمام قارئه، وبددت عامل الغرابة اللغوية، وغذت الأذواق، بل وأبقت على قريحة الشاعرية العربية، على تباين في مستوى تلك القرائح: أفرادًا وأقاليم وعصورًا.
واشتهرت في الأدب الجاهلي قصائد عُرفت بالمعلقات هي من النماذج الرّائعة في الأدب العربي. انظر : الشعر.
النثر الجاهلي. عرف العصر الجاهلي ضروبًا من النثر تمثلت في الخطابة، التي لم تكن أقل منزلة من الشعر، وإن لم يتوفَّر من نصوصها الموثّقة سوى القليل النادر، مثل خطبة قُس بن ساعدة الإيادي على ناقته، وقد أدركه النبي ³، وسمع خطبته تلك. وتدلُّ المصادر الأدبية، وبخاصة كتاب البيان والتبيين للجاحظ، على كثرة ما كان في العرب من الخطباء، ومنهم، على سبيل المثال، عدا قس بن ساعدة: سحبان وائل، وأكثم بن صيفى، وعمرو بن كلثوم أحد شعراء المعلقات، وذو الإصبع العَدْوانيّ، وزُهير بن جناب، وعامر بن الظَّرِب، وهانيء ابن قَبيصة الشيباني. ومثلما كان لكل قبيلة شاعرها، كان لها أيضًا خطيبها.
وكما دلَّ فن الشعر على خصوبة الخيال ورقة الوجدان، فالخطابة أيضًا تدلُّ على جودة البديهة، وخصوبة الذهن، وجيشان المشاعر، بحيث يتمكن الخطيب من الإقناع الذهني والاستمالة الوجدانية.
وقد خطب العرب في وفادتهم على الأمراء، وفي الأسواق الحافلة بالناس، وفي الحرب، وفي السلم، وفي الزواج، وسائر المناسبات الكبرى في حياة القبيلة. كما اشتهر من خطبهم ما عُرف بسجع الكهان. كذلك عرفت العرب في جاهليتها فن الأمثال، وهي تعكس الكثير من قيم الحياة العربية والشخصية العربية في العصر الجاهلي، بما حملته من فكر وخبرات، وبما ارتبطت به من الحكايات الطريفة، ونماذجها في كتب الأمثال، وأشملها مجمع الأمثال للميداني.هذا إلى ما تميزت به لغة المثل من إيجاز بليغ، وإيقاع جميل. انظر: الأمثال.
عرف العرب في العصر الجاهلي فنونًا أخرى من النثر، تمثلت في القصص والأخبار، وشملت قصص الأقدمين وأخبارهم، فضلاً عن قصص الأمثال، وأيام العرب انظر: أيام العرب. وكذلك قصص الجن. وهذا القصص جميعه وإن امتزج بمسحة من الخيال الأسطوري والخرافي، إلا أنه يمثل تراثًا أدبيًا دالاً على إمكانات العقل العربي، وطابع البيئة والحياة.

عصر صدر الإسلام

جاء الإسلام وأحوال العرب على ما هو مقرر معروف في كتب التاريخ والسيرة والأدب. فقد كانت الفضائل العربية من الأمور الثابتة، إذ اتصفوا بالشجاعة والكرم ونُصرة المظلوم وحماية الجار والصبر والذكاء، غير أن هذه الفضائل الخلقية والعقلية كانت بحاجة إلى ما يبرزها ويعمقها ويحميها من الضعف أو الاندثار، كما كان العرب بحاجة إلى وحدة تجمع تلك القبائل المتناثرة المتناحرة. وحين أتى الإسلام لم يكن حركة إصلاحية فحسب بل كان دينًا ورسالة ونظامًا كاملاً أحدث في جزيرة العرب وماحولها تحولاً جذريًا شاملاً أساسه العقيدة، ثم ما لبث هذا التأثير أن انتقل إلى سائر الشعوب.
وبدهيّ أن يتأثر الأدب بما تأثرت به سائر الأمور والأحوال، فقدحقق الإسلام وحدة لغوية حين اتخذ من لهجة قريش لغته، وبرز القرآن الكريم معجزًا في بيانه وأخباره وتأثيره العميق في الواقع والشخصية، كما جاءت البلاغة النبوية مستوىً آخر من الإعجاز البياني تاليًا لإعجاز القرآن.
ولعلَّ أعظم تأثير أحدثه الإسلام في الأدب، تمثل في عنايته الكبيرة بالنثر. ظهر ذلك في لغة القرآن والحديث النبوي، وفي لغة الخلفاء الراشدين والقادة والقضاة والولاة، وكلّها كانت نثرًا. ولا يعني ذلك، بطبيعة الحال، أن الإسلام أهمل الشعر، بل حرص على الإبقاء عليه، وصار حَسّان بن ثابت شاعر الرسول ³ ولقي هو وغيره من شعراء الإسلام تشجيعًا من النبي ³. وتأثر الشعر بالإسلام: لغة ومضامين. واتخذ عبد الله بن عباس من الشعر الجاهلي مادة لتفسير غريب القرآن الكريم، وكان من صحابة النبي ³ من يتذاكر الشعر الجاهلي وأيام العرب في الجاهلية والنبي ³ لا يُنكر عليهم ذلك.
أثر الإسلام في النثر. كانت عناية الإسلام بالنثر أكبر من عنايته بالشعر، وتأثيره في النثر أعمق. وهذا أمرٌ بدهي، إذ كان النثر أداة الدعوة الأولى، وأداة الإسلام الأولى للتعليم وتوجيه شؤون الجماعة الإسلامية، حين صار للعرب دولة منظمة مهيبة الجانب، ثم أصبح النثر فيما بعد أداة الإسلام في التأليف والتدوين العلمي، وفي نشأة شتى العلوم الإسلامية، والعلوم العربية المساندة لها، وعرف تاريخ الفكر الإنساني تراثًا معرفيًا عظيمًا للمسلمين.
ازدهرت الخطابة في صدر الإسلام ازدهارًا عظيمًا، إذ صارت الأداة القولية الفعالة في الدَّعوة، وفي تنظيم شؤون الدولة، وفي توجيه الجماعة الإسلامية. بل صارت الخطابة مرتبطة بالشعائر الإسلامية، وتمثّل ذلك في خطبة الجمعة ويوم عرفة والعيدين وصلاة الاستسقاء والخروج إلى الجهاد. وكثيرًا ما نطالع في كتب السيرة والسنة، صعود النبي ³ إلى المنبر يخاطب المسلمين في أمور شتى: أمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر. وتُعدّ خطبة الوداع أشهر خطبه ³، وكذلك كان الخلفاء الراشدون وولاتهم من بعدهم.
صارت الخطابة ـ في العصر الإسلامي ـ أداة الجماعات الممثلة لشتى القبائل عند وفادتها على النبي، أو الخلفاء الراشدين من بعده. وكانت الخطبة الإسلامية تبدأ باسم الله ثم بحمده والصلاة والسلام على نبيه. ويُستشهد فيها بالقرآن الكريم، وتقوم على المعاني الإسلامية. وقد سجلت لنا المصادر الكثير من نصوص الخطابة وأسماء الخطباء، بما يعكس هذه النهضة الكبيرة التي أحدثها الإسلام في هذا الفن، فتفوّق العرب على أقرانهم من اليونان والرومان. وكان للأحداث دورها في تنشيط الخطابة، فضلاً عن الجهاد، واستعداد العرب الفطري لهذا الفن الذي عرفوا به، منذ العصر الجاهلي، كما عرفوا بالشعر.
نشط في هذا العصر فن آخر، هو فن الرسالة حيث اضطلع بما لم تضطلع به الخطبة والقصيدة، وتمثَّل ذلك في رسائل النبي ³، وأولها يتمثل في الكتاب الذي كتبه النبي ³ حين نزل المدينة، يخاطب فيه المهاجرين والأنصار، ويحدد المعالم الأساسية للجماعة المسلمة في وحدة عقيدتها وزوال الفوارق والنعرات القبلية. كما بعث النبي ³ برسائل شتى إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام، ومن أبرزها رسالته إلى هرقل ملك الروم، وإلى المقوقس عظيم مصر.
ويلحق بالرسائل نصوص المعاهدات، ومنها تلك المعاهدة المكتوبة بين النبي ³ وبين قريش عام الحديبية، وفيها اتفاق على هدنة مدتها عشر سنوات "وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل». ومن هذه المعاهدات معاهدته مع أهل نجران، يبين لهم فيها ما عليهم من خراج ثم يقول: "ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله على أموالهم وأنفسهم وملّتهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وتبيعهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير".
وفي هذا المقام يُشار إلى حقيقتين مهمتين: الأولى، كثرة ما ورد إلينا من العصر النبوي من نصوص خطابية ورسائل ومعاهدات، وقد نالت هذه النصوص عناية كبيرة من رجال الحديث والمؤرخين، حتى صارت متواترة مشهورة في كتب السيرة والأحاديث والتاريخ، ولها أسانيدها ورواتها. والحقيقة الثانية، أن قدرًا كبيرًا من تلك النصوص قد أصبح معروفًا واستفاضت به المصادر، لأنها اعتُبرت وثائق تاريخية، ومصادر دينية، ونصوصًا أدبية رفيعة المستوى، تعكس هذا التحوّل الكبير الذي أحدثه الإسلام في النثر على وجه الخصوص.
والأمر الذي لا شك فيه أنه كان لانتشار الكتابة منذ عصر النبوّة أكبر الأثر في حفظ هذه النصوص النثرية وتدوينها، بل والثقة بها. ولا شك أيضًا في أن الإسلام قد نشط في محو الأمية، وحث المسلمين على تعلُّم الكتابة والقراءة ونشرها بين الأفراد والجماعات، حتى تمكنوا من تدوين القرآن الكريم على نحو بلغ من الدقة ما لم يبلغه كتاب سماوي، كماشهدت السنّة النبوية بدايات التدوين الدقيق الموثق منذ العهد النبوي. وكان ذلك نواةً لنشأة حركة التأليف والترجمة فيما بعد.
أثر الإسلام في الشعر. تَمَـثَّـل أول أثر للإسلام في الشعر في تلك المعاني الإسلامية الجليلة التي حملها الشعر الإسلامي، فصارت قيمًا راسخة في العقيدة والأدب الإسلامي. كما كان للإسلام أثره في توجيه أهداف الشعر، إذ لم يَعُد هدف الشاعر المسلم التفوق والتميز، أو دعم القيم القبلية، أو التكسُّب وإراقة ماء الوجه. بل صار هدفه، الدِّفاع عن العقيدة والقرآن والنبي ³.
لم يقتصر الشعر على عصر النبوة وحدها، بل تجاوزه إلى عصر الخلافة الراشدة، وكان له دوره في الأحداث الكبرى خلال هذا العصر، كحروب الردّة في خلافة أبي بكر الصديق، وفتوحات عمر وحُسْن بلائه، وأحداث الفتنة الكبرى بين معاوية وعلي بن أبي طالب، رضي الله عنهما، وأشياع كل منهما.
وتردَّدت خلال عصر الخلافة الراشدة أسماء شعراء من أمثال: المخبَّل السَّعْدي، والنابغة الجَعْدي، وأبي الأسود الدُّؤلي، وخُزيمة الأسَدِيِ، وغيرهم.

العصر الأموي (41-132هـ ، 661-749م)

أصابت الدولة الإسلامية في العصر الأموي حظًا كبيرًا من الاتساع والتحضر عن طريق الفتوحات، والتطور العمراني والسياسي والعلمي، فقد ألقت الفتوحات إليها بالمال. أما التطور العمراني فتمثل في اقتباس أساليب العمران والزراعة والإدارة التي تمثلت في تطوير الدواوين وتنظيم شؤون الحكم والمال، فضلاً عن اتساع مجالات الاستثمار. كما تطورت مظاهر الحياة المادية، من مسكن وملبس ومأكل ومركب.
ظهرت في العصر الأُموي تيارات علمية ثلاثة هي تيار التراث الجاهلي شعرًا وقصصًا وأمثالاً وأنسابًا، وتيار التراث الإسلامي تفسيرًا وحديثًا وفقهًا وقراءاتٍ وسيرة، وتيار الثقافات الأجنبية أدبًا وترجمة ومعارف منوعةً. فنشأت من ثمّ مدارس فكرية متعددة، تباينت في الأخذ بواحد من هذه التيارات، أو بالجمع بينها. وهذا أمر طبيعي في نشأة الحضارات والثقافات في تاريخ الأمم. وقد ظهرت أسماء لامعة تُعدّ رموز ًا للعلوم في العصر الأموي، منها على سبيل المثال: وهب بن مُنبِّه وعُبيد بن شَريّة، وهما معْنيان بالتاريخ والأخبار والقصص، ودَغْـفَل النسابة، وأبان ابن عثمان وعروة بن الزُّبير المختصان بمغازي الرسول ³، وظهر في مجال العلوم الإسلامية جيل جديد، كان يمثِّـله تلاميذ عبدالله بن عباس وعبدالله بن عمر. ومن هذا الجيل رجاء وعِكْرِمة وسالم بن عبدالله بن عمر وطاووس والشَّعْبي وسعيد بن جُبير وابن سيرين والحسن البصري وقتادة والأوزاعي.
والحقيقة أن تيار الثقافة الأجنبية كان ذا شقين، شِق عملي تطبيقي تمثل في اقتباس أساليب التخطيط والعمارة والإدارة والاستثمار وبناء الأساطيل، وشِق نظري، يمثل الثقافات الفلسفية والطبية والكيميائية وديانات أهل البلاد المفتوحة. وقد جاءت هذه الثقافات الأجنبية نتيجة للفتوحات وتشجيع حكام الأمويين الحركة العلمية وترجمة الكتب الأجنبية. وقد تنوعت مصادر هذه الثقافات بين فارسية وهيلينية وهندية وسريانية. وبرزت أسماء جديدة رمزت إلى تلك الثقافات الأجنبية منها سويرس سيبوخْت ويعقوب الرّهاوي وجورجيس ويوحنا الدِّمَشْقي. والناظر في المصادر القديمة تهوله هذه الكثرة من أسماء المترجمين أو المثقفين بثقافات أجنبية وبعناوين الكتب الأجنبية وأسماء مراكز هذه الثقافات في بلاد فارس والشام والعراق ومصر.
وتدُّل تلك الجهود على أن تيار الثقافة الأجنبية لم يبدأ في العصر العباسي، بل كانت بدايته في العصر الأموي، وبتشجيع من الحكام. ثم نما ذلك التيار في العصر العباسي، الذي انتفع بجهود الأمويين، ثم زاد عليها، وجنى ثمارها. وإذا كانت الفتوحات قد أثمرت هذا الرصيد من المعارف الأجنبية، فقد أثمرت أيضًا هذا الثراء الواسع، وهذا الخليط من الأجناس الذي امتزج بمجتمعات الحواضر العربية، وكان له تأثيره في العادات والتقاليد، ثم في إحداث حركة عريضة في الغناء والموسيقى، وكان له أثره في الشعر العربي، كما كان لما أحدثه من اتساع بالغناء أثره أيضًا في ذلك الشعر. وهنا تبرز أسماء لمشاهير المغـنِّـين والمغنيات مثل طُوَيس ومَعْبد وسائب خاثر، وعزة الميلاء وسلاَّمة القَس وجميلة.
أدت الحواضر العربية دورًا كبيرًا في الحركة الأدبية العقلية والغنائية، إذ عملت كل من البصرة والكوفة على جمع التراث العربي الإسلامي، رواية وتدوينًا، لغةً وشعرًا وأخبارًا وحديثًا وفقهًا. وتهيأت المدينتان الكبيرتان لأن تكونا مدرستين متنافستين في رواية الأدب، ثم في اللغة والنحو. أما مكة والمدينة فاشتهرتا بالعلوم الدينية، كما نشطت فيهما حركة الشعر. وأما سوق المربد فتحوّل من مجرد سوق إلى مركز أدبي نشط على مشارف البصرة. انظر: أسواق العرب.
عرف العصر الأموي عددًا من الفرق الدينية السياسية، كالشيعة والخوارج والزُّبيريين، وكان لكل فرقة رجالها وآراؤها في الخلافة، بل كان لكل فرقةٍ شعراؤها وخطباؤها ومنابرها، وقد دخلت هذه الفرق في صراع ذي شقين: شِق سياسي، حيث قاوموا حكم الأمويين بالمعارضة والجدل، وشّق عسكري تمثل في مقاومة الأمويين بالحروب والثورات. وانعكس صراع تلك الفرق على الحياة الأدبية من جَدل ومناظرات قوامها البرهان والدليل.
الشعر. ارتبط الشعر العربي بالعصر الأموي ارتباط الخصوصية، بمعنى أن ثمة فنونًا شعرية جديدة ظهرت في العصر الأموي واختفت بزواله، فالنقائض بشكلها المعروف وتقاليدها الجديدة هي ثمرة من ثمار الشعر الأموي، وكان أبرز شعرائها الفحول الثلاثة، جرير والأخطل والفرزدق. كما أن الشعر السياسي بصبغته المعروفة هو ابن شرعي لهذا العصر، فقد كان لكل فرقة شعراؤها، مثل الكميت شاعر الهاشميين، وابن قيس الرقيّات شاعر الزبيريين وغيرهما. انظر: الشعر.
أمّا الغزل فبالرغم من أنه من أغراض الشعر القديمة المعروفة، إلاّ أنه لقي في هذا العصر اهتمامًا كبيرًا، وأصبح تيارًا قويّا له شعراؤه وجمهوره ومدارسه، وكان أشهر تياراته تيار الغزل العذري العفيف وزعيمه جميل بن معمر، والغزل الصريح اللاهي وزعيمه عمر بن أبي ربيعة. انظر: الشعر.
وعلى كلٍّ فإنّ بني أمية كانوا يتمتعون بحسٍّ أدبي عربي جعلهم يشجعون الشعراء ويعقدون لهم المجالس، ويُجزلون لهم العطاء، بل كان منهم شعراء ذوو أثر في حركة الشعر كالوليد بن يزيد.
كما كان بعضهم يكتب إلى الشاعر أو الراوية فيستقدمه من العراق إلى الشام على البريد كما فعل هشام ابن عبد الملك مع حماد الراوية.
النثر. وأول فنونه وأكثرها ازدهارًا فن الخطابة، الذي نهضت به عوامل مختلفة، أبرزها العوامل السياسية ممثلة في الفرق والثورات المختلفة، ثم عروبة بني أمية وولاتهم من أمثال الحجاج بن يوسف الثقفي، ثم هناك عامل الجهاد الذي اتسع في عهد الدولة الأموية بحكم رغبتهم في توسيع رقعة الدولة الإسلامية. وهناك عامل آخر مهم هو نمو تيار الوعظ الديني، الذي تمخض عن خطباء كُثْر. وأشهر الخطباء الأمويين معاوية نفسه وعبد الملك بن مروان وعمر ابن عبد العزيز. ومن ولاتهم الحجاج بن يوسف الثقفي وزياد بن أبيه. أما خطباء الفرق، فإن أشهرهم من الخوارج أبو حمزة الشاري ونافع بن الأزرق والطرمَّاح بن حكيم. ومن خطباء الزبيريين رئيسهم عبد الله بن الزُّبير نفسه.
وإلى جانب الخطابة السياسية عرف العصر الأموي الخطابة الدينية الوعظية، ومن أشهر خطباء هذا التيار: سعيد ابن جُبير وعبد الله بن عمرو بن العاص وسعيد بن المسيِّب والحسن البصْري. وقد اتسع هذا التيار الخطابي وكثر رجاله، وزخرت المصادر بنصوصه. كما وُجدت خطابة الوفود إذ كان معاوية بن أبي سفيان أول من فتح أبواب قصره للوفود التي وفدت إلى ساحته. وممن خطب بين يدي معاوية سحبان وائل والأحنف بن قيس.
وقد عرف العصر الأموي فنـًّا أدبيًا نثريًا آخر، هو فن الرسائل. انظر: الرسائل.

العصر العباسي (132 - 656هـ، 749 - 1258م)

قامت الدولة العباسية على أثر ثورة ضد الأمويين كان العباسيون قد أعدّوا لها في روّية وإحكام وسريّة عام 132هـ، 749م. وسقطت الدولة العباسية بسقوط بغداد على أيدي التتار عام 656هـ، 1258م. وقد اصطلح المؤرخون على تقسيم هذه الخلافة العباسية إلى ثلاثة عصور هي: العصر العباسي الأول، من قيام الخلافة العباسية إلى أول خلافة المتوكل (132 - 232هـ، 749 - 846م)، والعصر العباسي الثاني (232 -334هـ، 846 - 945م) من خلافة المتوكل إلى استقرار الدولة البويهية، والعصر العباسي الثالث (334 - 656هـ ، 945 - 1258م) من استقرار الدولة البويهية إلى سقوط بغداد على أيدي التتار.
العصر العباسي الأول (132 - 232هـ ، 749 - 846م). حققت الدولة الإسلامية في ظل العباسيين تقدمًا حضاريًا كبيرًا، إذ أفادت من جهود الأمويين ثم زادت عليها أضعافًا تأليفًا وترجمة، فضلاً عن ازدهار فنون الغناء والموسيقى والعمارة، وازدهار وسائل العيش في الملابس والمساكن والطعام والشراب. وكان لخلفاء بني العباس إسهام كبير في تشجيع المدّ الحضاري وتغذيته، فعقدوا المجالس للأدباء والعلماء والمغنين، وأجزلوا العطاء، وأنشأوا المكتبات ودور العلم، وجلبوا الكتب الأجنبية من شتى البقاع.
كانت دمشق حاضرة الخلافة الأموية، ثم صارت بغداد حاضرة العباسيين، وزخرت بالشعراء والعلماء وأهل الفن. وإذا كان الأمويون أدخلوا الثقافة البيزنطية، فإن العباسيين قد تأثروا بالثقافة والحضارة الفارسية.
كان من الأمور الناجمة عن الثراء والترف والامتزاج بالشعوب التي فتحت بلدانها أن نشأت تيارات منحرفة تمثلت في الشعوبية والزندقة والمجون. أما الشعوبية فهم أولئك القوم الذين عادوا العرب، ولم يروا فيهم إلا بدوًا ورعاة غنم وسكان خيام، ومجرّد قبائل لم تجمعهم دول منظمة مثل غيرهم من الأمم كالروم والفرس. ويعكس تيار الشعوبية حقد الشعوب المغلوبة على الأمة العربية التي حباها الله برسالة الإسلام، وحقق لها الغلبة على أعداء هذه الرسالة. ومن أشهر دعاة الشعوبية: علاَّن الشعوبي وسهل ابن هارون وبشار بن بُرد وأبو نواس.
يفسّر الجاحظ في عبارة له تيار الشعوبية فيقول: "إن عامة من ارتاب بالإسلام إنما كان أولُ ذلك رأي الشعوبية والتمادي فيه وطول الجدال المؤدّي إلى الضلال، فإذا أبغض شيئًا أبغض أهله، وإن أبغض تلك اللغة أبغض تلك الجزيرة، وإذا أبغض تلك الجزيرة أحبَّ من أبغض تلك الجزيرة، فلا تزال الحالات تنتقل به حتى ينسلخ من الإسلام، إذ كانت العرب هي التي جاءت به، وهي السلف والقدوة". وعبارة الجاحظ هنا تصور بدقة العلاقة بين الزندقة والشعوبية باعتبارهما تيارًا معاديًا للعرب والإسلام معًا.
أما الزندقة، فقد نجمت عن الامتزاج بشعوب من نحَل وديانات شتى، منها المانوية والمزْدكية والزرادشتية. وقد تعقَّب خلفاء بني العباس هذا التيار بحزم، وبخاصة الخليفة المهدي، الذي اتخذ ديوانًا خاصًا لتعقّبهم. وكان للكتب التي حملت أفكار الزندقة أثرها في طائفة من ضعاف النفوس. ويوجد دائمًا في فترات الانفتاح العقلي من يولع بالتقليد لأرباب الأفكار الشاذة المستوردة، ويميل إلى اعتناقها والولاء لها أكثر من أربابها.
ومن أشهر زنادقة ذلك العصر: ابن المقفَّع، الذي قال فيه الخليفة المهدي: "ما وجدت كتاب زندقة قطّ إلا وأصله ابن المقفع". ومن هؤلاء الزنادقة أيضًا: صالح بن عبد القدوس الشاعر، وبشّار بن بُرد. وإذا كنا قد خصصنا المهدي بالإشارة في تعقب الزنادقة فإنّ غيره من خلفاء بني العباس لم يقلوا عنه تحمسًا للعقيدة وتعقبًا لأعدائها من الزنادقة.
وإذا كان الخلفاء وولاتهم قد تعقَّبوا الزنادقة قتلاً وقمعًا، فإن المتكلمين تعقبوهم حوارًا ومناظرة، وكثيرًا ما كان الحوار يجري بحضور الخليفة. كما تعقَّبوهم أيضًا من خلال نقض آرائهم في مقالاتهم ورسائلهم ومناظراتهم.
أما تيار المجون، فقد كان أيضًا أحد الوجوه السلبية للاختلاط بالأعاجم وانفتاح المجتمع العربي المسلم على عقائدهم وعاداتهم وأخلاقهم من خلال هذا الاختلاط ومن خلال حركة الترجمة والنقل التي اتسعت في هذا العصر اتساعًا عظيمًا. والأمر الذي لا شك فيه أنه كان ثمة علاقة وثيقة بين هذه الظواهر الثلاث، وهي: الشعوبية والزندقة والمجون، وذلك بحكم أنها جميعها كانت صادرةً عن مصدر واحد، هو المصدر الأجنبي، كما كانت صبغة العداء للدولة الإسلامية تشكَّل عاملاً مشتركًا بينها. وحين نطالع المصادر الأدبية في العصر العباسي يطالعنا أدب مصطبغ بالمجون في شعره وقصصه وأخباره. وفي كتاب الأغاني الكثير من أخبار أبي نواس وأشعاره، وكذلك مطيع ابن إياس وحماد عجْرد، وسواهم.
ومع كل ما تقدم فلا ينبغي التصور بأنَّ حياة المجتمع العباسي قد أسلمت قيادها تمامًا للشعوبية والزندقة والمجون، وأن هذه الحياة قد تحلَّلت من كل قيود العقيدة والأخلاق، فلقد كان لتيار الدين سلطانه الذي لم يُقهر، إذ ظهر الزهد والزهَّاد، بل ظهرت بواكير التصوف، هذا إلى جماهير العلماء والوعاظ وأهل النُسْك، ومجالسهم التي عمرت بها أرجاء بغداد في مساجدها ورباطاتها وقصورها. ومن هؤلاء عبد الله بن المبارك، وسفيان الثَّوري، ومعروف الكرْخي، وابن السَّمَّاك. كما كان من وعاظ البصرة: موسى الأسواريّ الذي وصفه الجاحظ بقوله: " كان من أعاجيب الدنيا، كانت فصاحته بالفارسـية في وزن فصاحته بالعربية".
على أنه ينبغي ألا نُغفل تيار الحركة العقلية، إذ نضجت العلوم، ورسخت مناهج البحث فيها، وكثرت المؤلفات في علوم الدين عقيدة وشريعة، فضلاً عن المؤلفات اللغوية والنحوية، وكتب الأدب الخاص، ودواوين الشعراء. وقد كان التيار الديني والتيار العقلي يحاولان معًا كبح تيارات الشعوبية والزندقة والمجون. وإذا كانت هذه التيارات قد أحدثت آثارها السَّلبية في المجتمع فإنها شكلت لونًا من ألوان التحدي للعقل العربي، فراح يقاومها بكل سبيل، كما حفزت همم أهل الغيرة الدينية للتصدي لها والتغلب عليها. وهكذا شهدت الساحة لونًا من الصراع العقلي والروحي. فكان للإسلام تأثيره الواسع في أنحاء الدولة الإسلامية، وانتشرت اللغة العربية، وتعربت الشعوب الأعجمية. وإذا كان من الأعاجـم من عادى الإسـلام وأهله، فإن جمهورهم الـغالب كان سندًا للإسـلام، وعضدًا للمسلمين.
الشعر. حقق الشعر في هذا العصر تطورًا كبيرًا في أغراضه وأفكاره وفي شكله الفني، وزنًا وقافية ولغة. وهذه نتيجة طبيعية لاتساع جوانب التجربة العقلية عن طريق الترجمة والاختلاط بأجناسٍ بشرية مختلفة، وتطور المعارف الدينية واللغوية والأدبية، واتساع حركة التأليف، وظهور المعارف الفلسفية. وفي هذا العصر ظهر من يطلق عليهم الباحثون الشعراء المحدثون، أو الشعراء المولّدون، مثل بشار وأبي نواس ومطيع بن إياس.
وترتب على تطور الشعر في تلك الحقبة نشأة صراع حادٍ بين أولئك المحدثين، ومن تصدّى لهم من المحافظين في ما يسمى اصطلاحًا قضية عمود الشعر. أي: (الأصول التقليدية المرعية للقصيدة العربية). وكان للغويين خاصة دور كبير في تمثيل تيار المحافظين، وبخاصة في جانبي اللغة والصورة الفنية للقصيدة العربية. وقد تبدت مظاهر التطور الشعري في الأغراض والمعاني، والوزن، والقافية، وبناء القصيدة، واللّغة.
الأغراض والمعاني. هناك أغراض جدّت واستحدثت، وأغراض بقيت على ماكانت عليه، مع شيءٍ من التجديد في بعض عناصرها. فمما جدَّ من الأغراض الزهد الذي كان أبو العتاهية رمزًا بارزًا له، وهناك أبو نواس، وهو وإن اشتهر بالمجون والخمريات، فقد ألمّ بشيء من الزهد في بعض شعره في أخريات حياته. وقد كان هذا الزهد إسلاميَّ الطابع، ومن هنا حفلت الزهديات بالكثير من قيم التقوى وترقب يوم الحساب والإعراض عن ملذَّات الحياة الزائلة. وكان هذا الشعر يمثل تيار ردّ الفعل لشعر المجون والخمريات. ومن الأغراض الجديدة الشعر التعليمي. كما ظهر لون جديد من الشعر هو الشعر الفكاهي الذي ضم النوادر المضحكة، والمعاني الفكهة. وقد هيّـأ لظهور هذا اللون الجديد جو المرح واللهو في هذا العصر، وانتشار مجالس الأنس والسّمر، خاصة في قصور الخلفاء والولاة والأعيان. ومن هذا ما نجده لدى بشّار في أبيات له تحكي قصة عشق حمارٍ لأتانٍ، وفيها يقول بشّار على لسان حماره:
سيــدي مِلْ بعناني نحو باب الأصبهاني
إن بالبــاب أتـانـــًا فَضلــتْ كـلَّ أتـــان
تَيَّمتني يـوم رحـنــا بثنــاياهــا الحســـان
وبحســـــنٍ ودلالٍ سـلَّ جسمي وبراني
ولهـا خــدٌ أســـيل مثـل خـد الشيفـران
ثم سأل أحدُ الجالسين بشارًا عن معنى لفظ الشيفران، فأجابه بشار: هذا من غريب الحمار فإذا لقيتم حمارًا فاسألوه. وواضح أن الكلمة مرتجلة إمعانًا من الشاعر في التفكُّه، وكان تفسير بشار لها أكثر فكاهةً. وواضح من الأبيات سخرية الشاعر من شعراء الغزل في عصره خاصة. كما أن هذا اللون الجديد من الشعر الفكاهي قد استخدمه فريق من الشعراء للسخرية والنقد لبعض ما لا يروقهم من الأفكار والعادات.
ظهر في هذا العصر أيضًا ما يسمى بشعر الطرديات وهو ذلك الشعر الذي يصف رحلات الصيد والطرائد وكلاب الصيد والصقور، وما إلى ذلك. وهذا الغرض وإن كانت له جذور فيما سبق من العصور فقد اتسعت جوانبه، وتفنن فيه الشعراء حتى صار فنًا جديدًا، وكان أبو نواس من أبرز الشعراء ميلاً لهذا الغرض. ولا شك أن حياة الترف والثراء كانت وراء هذا الغرض الشعري. كما ظهر شعر الشكوى من البؤس، الذي كان تعبيرًا عن بعض مظاهر الفقر، كما كان سواه صدى لحياة الثراء والترف، وقريب من شعر الشكوى من البؤس شعر الشكوى من العاهات، وهو ضرب من رثاء ما ذهب من الأعضاء أو الحواس، مثل أشعار أبي يعقوب الخريمي الذي أكثر من بكاء عاهة العمى لديه، وتصوير مشاهده ومواقفه بكل صدق. وقد كان هذا الغرض الشعري وأمثاله من الأغراض نتيجة لعمق الوعي بالذات، فضلاً عن رقَّة المشاعر التي اكتسبها الشعراء، خاصة بحكم ما أصاب الحياة من التحضر والرفاهية. كما أن دقة تصوير الشعراء للنفس البشرية في أدق خلجاتها كانت نتيجة لاتساع ألوان الثقافة، التي تثري التجربة الشعرية وتكسبها العمق والاتساع.
أما الأغراض التي بقيت مع شيء من التطوير فمنها، على سبيل المثال، المديح، وهو غرض عريق شائع في الشعر العربي، غير أن الشعراء المحدثين أثروه بما أدخلوا عليه من عمق التحليل للفضائل النفسية والخلقية، نتيجة لما اكتسبوه من الثقافات، ومثل ذلك شعر الهجاء، فقد تناولوه أيضًا بشيءٍ من البسط والتحليل للأخلاق، ولكن في جوانبها السلبية. على أن شعراء هذا العصر بمدائحهم وأهاجيهم قد تغلغلوا في النفس البشرية وكشفوا عن كوامنها، كما أنهم بتناولهم للفضائل والرذائل رسموا المثُل التي ينبغي الإقبال عليها.
ولعل شعر الرثاء، وإن كان غرضًا قديمًا، قد أصابه حظ غير قليل من التطور، فلم يعد رثاءً للناس فحسب، بل صار رثاءً للمدن والأماكن، كرثاء بغداد على أثر ضربها بالمنجنيق في عصر الأمين، حيث عمّها الخراب، وعاث في جوانبها المفسدون.
كما طرأ تغيُّرٌ على الرِّثاء ليصبح رثاءً للحيوان والطيور المستأنسة، وقد استكثر أحمد بن يوسف الكاتب من هذا اللون الطريف، الذي يدل على اتساع آفاق الإبداع الشعري نتيجة لاتساع آماد الثقافة.
ويمكن القول إجمالاً أنه ما من غرض شعري قديم إلا دخله التطوير والتجديد على أيدي الشعراء المحدثين، على تباين في ذلك.
اللغة. امتدت حركة التجديد في الشعر إلى اللغة وذلك من جملة وجوه توجز فيما يلي:
أولاً: سهولة الشعر، ولا يعني هذا أن الشعراء المولعين باللفظ الغريب قد انقرضوا، فقد بقي منهم أمثال أبي البيداء الرياحي وابن الدُّمينة وأبي ضمضم الكلابي، وقدكانوا من أهل البادية، كما كانوا رواة للشعر القديم وللغة.
على أن هذه اللغة السهلة التي عمد إليها الشعراء المحدثون، لقيت إنكارًا من علماء اللغة الذين لم يكن ذوقهم يسيغ إلا الشعر القديم بألفاظه الغريبة، وذلك لسببين: الأول يتعلق بقضية الاحتجاج اللغوي، والثاني أنهم كانوا يقتصرون على رواية الشعر القديم ويتخذونه مادةً للتعليم، ويعتقدون أن هذا الشعر القديم هو الوعاء الحقيقي لأصول اللغة.
ثانيًا: استخدام بعض الألفاظ الأعجمية، ومن أشهر الشعراء في ذلك أبو نواس إذ كان يستكثر من هذه الألفاظ، حتى لتأتي بعض عباراته الشعرية فارسية خالصة، ولا شك أن امتزاج الأعاجم بالعرب قد قيَّض لهذا الشعر شيئًا من الرواج.
ثالثا: مخالفة بعض الشعراء للأقيسة المعروفة في اللغة، مما جعل نقاد هذا العصر يتهمون الشعراء بالخروج على أصول العربية، مع أن في كثير من مخالفات هؤلاء الشعراء ما يمثل لهجة عربية أو يكون من قبيل الضرورات الشعرية. يقول ابن قتيبة ـ دفاعًا عن لغة أبي نواس: "وقد كان أبو نُواس يُلَحَّنُ في أشياء من شعره لا أراه فيها إلا حُجّة من الشعر المتقدم وعلى علَّةٍ بيِّنة من علل النحو".
وخلاصة ماتقدم أن التجديد في عنصر اللغة خاصة قد أثار تيار الصراع بين القديم، الذي كان يمثّله اللغويون بمعاييرهم التقليدية المتشددة، وبين الشعراء المولدين يساندهم فريق من أنصار حركة التجديد، وعلى رأسهم ابن قتيبة.
الأوزان. تطور شعر هذا العصر في أوزانه، فعمد المولَّدون خاصة إلى المقطعات وإلى المجزوءات، واستكثروا من الأوزان الخفيفة الزاخرة بالإيقاع وبخاصة المقتضب والمتدارك، والوزن الأخير أغفله الخليل واستدركه عليه تلميذه الأخفش.
وفي تجديد الشعراء في القافية استحدثوا ما يسمى بالمزدوج والمسَمّطات. والمزدوج نوع من النظم المتعدد القوافي، إذ تختلف القافية فيه من بيتٍ إلى بيت، ثم تتحد القافية في الشطرين المتقابلين، وتكون على بحر الرجز. وقد كثر استعماله في المنظومات التعليمية بوجه خاص.
أما المسمَّطات فهي قصائد تتألف من أدوار، يتركب كل دور من أربع شطرات أو أكثر، وتتفق شطرات كل دور في قافية واحدة، عدا الشطر الأخير، فإن قافيته تكون مخالفة.
بناء القصيدة. من أهم عناصر التجديد الشعري ما يتعلق ببناء القصيدة، فقد تخلَّص الشعراء المولّدون من المقدمات الطللية التي كانت لدى القدماء، وتجاوزوها إلى أطلال مستحدثة اقتضتها تطورات الحياة، فكان هناك أطلال القصور في المدن تستقل بها قصائد تامة، ولا تتوقف عند المقدمة، ومنها سينية البحتري التي وقف فيها على أطلال إيوان كسرى وصوَّر لوحاته الفنية المنقوشة على جدرانه. وأحيانًا يستخدم الشاعر العباسي مقدمات لقصائده في وصف الطبيعة في المدن، وهي تتمثل في الحدائق التي افتن العباسيون في تنسيقها، كما اتخذوها متنزهات لهم.
النثر. إذا كان فن الشعر قد تطور على هذا النحو، فإنه من البدهيّ أن يتطور النثر، بحكم أن النثر ألصق بالواقع وأن الحاجة إليه في أمور الحياة أكثر. وكان هذا التطور نتيجة طبيعية لهذا السيل من الثقافات الأجنبية المتنوعة في مصادرها وفي أجناسها، ونتيجة لاتساع مجالات الحياة في هذا العصر. وقد استجاب النثر العربي لحاجات الواقع الاجتماعية والسياسية والعقلية والدينية، وأثبتت اللغة العربية مرونتها وقدرتها على التعبير عن هذه الحاجات جميعها. وسوف نتناول هنا ـ في إيجاز ـ أهم أشكال النثر في هذا العصر بادئين بفن الخطابة.
عرف العصر العباسي أشكالاً من الخطابة، منها الخطابة السياسية، والخطابة الدينية، والخطابة الحفلية، فأما الخطابة السياسية فإنها قويت في أول العصر العباسي بحكم استخدام العباسيين لها في تثبيت سلطانهم ومقاومة أبناء عمومتهم من العلويين، وبسبب قوة القريحة التي تميز بها أوائل خلفاء بني العباس كأبي عبد الله السفّاح وأبي جعفر المنصور والرشيد والمأمون، لكن الخطابة السياسية لم تلبث بعد هذا أن ضعفت حين ترسخ سلطان العباسيين، وحين جاء من بني العباس جيل ضعفت فيه القريحة الخطابية، وبشكلٍ عام، فإن الخطابة السياسية لهذا العصر كانت أضعف مما كانت عليه في العصر الأموي.
عرف هذا العصر الخطابة الدينية، ومارسها بعض الخلفاء، وتوسع فيها الوعاظ. فمن الخلفاء هارون الرشيد، الذي تدل النصوص على بلاغته وقوة قريحته فضلاً عن تقواه وورعه. غير أن الخطابة الدينية لدى الخلفاء العباسيين باستثناء القلة النادرة كانت ضعيفة المستوى بشكل عام. أمّا الوعاظ فقد نهضت على أيديهم الخطابة الدينية بحكم تخصصهم وبسبب ماتميز به أكثرهم من الفصاحة والبيان، فضلاً عن سعة ثقافتهم. وعمق مشاعرهم الدينية، وأشهر هؤلاء الخطباء الوعاظ عمرو بن عبيد المعتزلي واعظ الخليفة أبي جعفر المنصور، وصالح بن عبد الجليل واعظ المهدي، وابن السمّاك واعظ الرشيد، ومنهم أيضًا موسى بن سيّار الإسواري، وصالح المرِّي، ولهؤلاء نصوص خطابية أوردتها كبريات المصادر التاريخية والأدبية، ويزخر كتاب البيان والتبيين للجاحظ بالكثير من نصوصهم الخطابية، فضلاً عن وصف الجاحظ لهم ولأدبهم.
والفن النثريّ الثاني هو فن المناظرة، وقد بلغ في هذا العصر مبلغًا كبيرًا من الازدهار، فاق ما سبقه من العصور، والسبب واضح، وهو أن العصر شهد من اتساع المعارف وتنوعها الشيء الكثير، وجدير بهذا الاتساع والتنوع أن ينتج خلافًا في الآراء، واختلافًا في الاتجاهات، فكانت هناك الفرق التي تتناظر فيما بينها، أو تناظر إحداها خصوم الإسلام من أهل الكتاب وأصحاب العقائد الفلسفية وأهل الزنَّدقة. وأشهر هذه الفرق المعتزلة، وأشهر مناظريهم أبو الهذيل العلاف والنَّـظَّام. وكان للمناظرة أكبر الأثر في نشأة علم البلاغة وتطوره، وذلك لحاجة المتناظرين إلى البيان الناصع والحجة القوية وحضور البديهة وتشقيق المعاني والقدرة على تحليلها.
ظهر نوع من المناظرة لا يقصد إلى انتصار عقيدة أو ترسيخ مبدأ، بل كان هدفه الجدل للجدل، والتدليل على البراعة في الاحتجاج والاستدلال، وهو لون من ألوان الترف العقلي الناجم عن سيطرة الجو الجدلي على ساحة المعرفة، وقدرة العقل على اكتساب المزيد من القدرة على الحوار والانتصار. فمن ذلك مثلاً تلك المناظرة الطريفة في المفاضلة بين جمال الديك وجمال الطاووس، ففريق ينتصر للأول، وآخر ينتصر للثاني، وكل منهم يورد من طريف الحجج ما يثير العجب حقًا.
ومن الفنون النثرية لهذا العصر فن الرسالة الديوانية وما يلحق بها من العهود والوصايا والتوقيعات. انظر: الرسائل؛ التوقيعات.
العصر العباسي الثاني (232 - 334هـ ، 846 - 945م). وأول خلفائه هو المتوكل على الله العباسي، ونهايته ظهور الدولة البويهية. وإذا كان للفرس في العصر الأول، نفوذهم الثقافي والحضاري الذي ظهرت آثاره في الأدب والمجتمع، فقد كان للترك نفوذهم السياسي في هذا العصر من خلال تحكمهم في الخلفاء، مما كان له أثره في إضعاف الخلافة العباسية. وكان الترك فرسانًا ولكنهم لم يكونوا حملة تراث أدبي أو حضاري.
تزايد الترف في عهد الخلفاء العباسيين، ومع تزايده ازدهرت حركة الغناء والموسيقى، وعُرف من المغنِّين والموسيقيين في هذا العصر عمرو بن بانج وابن المكي وعثْعث وسليمان الطبّال وصالح الدفاف وزُنام الزامر، ومن المغنيات عَريب وبدعة وشارية وجواريها.
دخلت الموسيقى في هذا العصر مرحلة جديدة من التطور، وهي التأليف، واختراع بعض الآلات، فظهرت مؤلفات لكل من الكِنْدي والفارابي، الذي ألف وشارك في تطوير بعض الآلات الموسيقية واخترع آلة العود كما ألف في الموسيقى إسحاق الموصلي، وعُدّت مؤلفاته، فيما بعد، مصادر أساسية لكتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني. انظر: الأغاني، كتاب. حيث نجد في تضاعيفه نقولاً كثيرة عن مصادر مختلفة.
وكما عرف العصر السابق الشعوبية والزندقة والمجون، وعرف تيار رد الفعل ممثلاً في الزهد والتصوف، فكذلك كان هذا العصر. وكلا التيارين كان له أنصاره، وكان له صداه في الأدب شعرًا ونثرًا. ومثلما تصدى المتدينون لتياري الزندقة والمجون، تصدّى للشعوبية فريق من الأدباء أمثال الجاحظ وابن قتيبة. وللجاحظ مقالات وردود على الشعوبية في كتابه البيان والتبيين خاصة، كما أن لابن قتيبة مبحثًا سماه كتاب العرب أو (الرد على الشعوبية). ومن عجب ألا تكون الشعوبية مجرد أقوال بين الناس، بل إن الشعوبيين ألّفوا كتبًا في النَّيل من العرب واحتقار شأنهم، وقد سجّل صاحب الفهرست عناوين لبعض هذه الكتب، مثل كتاب فضل العجم على العرب وافتخارها لسعيد بن حميد بن النْختكان.
ونشطت الحركة العلمية في هذا العصر نشاطًا كبيرًا، تمثل في العناية بالتعليم، لا فرق في ذلك بين الخلفاء وولاتهم، وبين العامة. وكانت المساجد مراكز نشطة للتعليم، فضلاً عن الكتاتيب وقصور الخلفاء والولاة، الذين كانوا يجزلون المكافأة للعلماء القائمين على تعليم أبنائهم، كما كثرت المكتبات وحوانيت الوراقين التي كانت تتكفل ببيع الكتب وشرائها فضلاً عن نسخها وتجليدها. كما نشطت حركة الرواية والرحلة في طلب العلم وبخاصة الحديث، كما تزايدت حركة النقل والترجمة ورعاية الخلفاء لها، ومن أشهر مترجمي هذا العصر إسحاق بن حنين وحنين بن إسحاق ولده وثابت بن قرة. وكانت حركة الترجمة شاملة للعلوم والفنون والآداب.
وكان من البدهيّ أن تنشط، أيضًا حركة التأليف في مختلف العلوم والفنون والآداب، وخاصة التأليف في العلوم الإسلامية عقيدة وشريعة، إذ شهد هذا العصر أوثق مدوَّنات الحديث وأشهرها، مثل الكتب الستة، وهي صحيحا البخاري ومسلم وسنن ابن ماجة وأبي داود والترمذي والنَّسائي. كما شهد تآليف فقهية في المذاهب الأربعة، وتآليف كلامية خاصة في الاعتزال. كما ظهرت عقليات علمية فذّة لها دورها في تاريخ العلوم على مستوى العالم بأسره، ومن هؤلاء الخوارزمي في الرياضيات وواضع علم الجبر، والكِنْدي العالم الفيلسوف، والجاحظ الأديب المتكلم. وبدا واضحًا أن العقل العربي المسلم استطاع أن يستوعب ثقافات الأمم وأن يتمثلها، ثم يشارك مشاركة فعالة في الجهود الإنسانية الحضارية، فضلاً عن تميزه وابتكاره.
الشعر. وأبرز أعلامه، لهذا العصر البحتري وابن الرومي وابن المعتز، وهؤلاء أشهر شعراء هذه الحقبة، ولكن الذين لم يحظوا بشهرة كشهرتهم كثير، منهم على سبيل المثال علي بن يحيى المنجِّم وأبو بكر الصولي، وابن دريد والحسين بن الضحّاك والناشئ الأكبر والخُبز أُرْزي.

ونظرة عامة إلى ساحة الشعر في هذا العصر، توضح أن حركة التجديد والتطوير قد اقتصرت على التفنن والاتساع في الأغراض التقليدية، أو تلك التي استحدثت في حقبة العصر العباسي الأول، فالمديح والهجاء والغزل والوصف اتسع الشعراء في معانيها، تحليلاً وغوصًا في المعاني. ورثاء المدن والأماكن ـ وهو من مستحدثات العصر الماضي ـ ظلَّ قائمًا إلى هذا العصر، فتناول البحتري في سينيته المشهورة إيوان كسرى، يرثيه ويصف أطلاله ويحلل لوحاته ونقوشه في تصوير دقيق رائع. ويتجه الشعراء بالوصف إلى الطبيعة، ويتوسَّعون أيّما اتساع، وخاصة في وصف الورود والأزاهير والأشجار والثمار وجداول المياه، وينتج عن توسّعهم في هذا الوصف باب جديد لفن الوصف. وأشهر الشعراء الواصفين للطبيعة: ابن المعتز وابن الرومي والصَّنَوْبري. وابن الرومي -غير مدافَع- أبرع الواصفين المصورين للطبيعة ولغير الطبيعة من المشاهد البشرية والحسية الأخرى.
النثر. ضعفت الخطابة السياسية والحفلية في هذا العصر، وقويت الخطابة الدينية على أيدي الوعاظ والقُصّاص كما كان الحال في العصر السابق. وفي هذا العصر نشأت طائفة جديدة من الوعاظ، هم المذكّرون أي المتصوفة. ومنهم على سبيل المثال: يحيى بن معاذ الرازي، وأبو حمزة الصوفي. ويؤخذ على أفراد من هذه الطائفة أنهم أدخلوا في مواعظهم ما ليس من الإسلام مثل فكرة التناسخ وفكرة الحلول. ومن هؤلاء: أبو يزيد البسطامي، والحلاّج.
أما المناظرات ـ وقد نشأت وازدهرت منذ العصر العباسي الأول ـ فقد تزايد الاهتمام بها، ولم تعد قاصرة على طائفة المتكلمين، بل تجاوزتها إلى الفقهاء واللغويين والنحاة. ومن أشهر المناظرات ما دار بين أبي علي الجبّائي المعتزلي وشيخه أبي الحسن الأشعري، وما دار بين أبي العباس بن سُريج الفقيه الشافعي وداود الظاهري، ثم محمد بن داود من بعده، وما دار بين أبي العباس المبرِّد النحوي البصري وأبي العباس ثعلب النحوي الكوفي، وما كان بين السيرافي النّحوى ومَتَّى بن يونس المترجم المتفلسف. وكل هذا كان ثمرة طبيعية لتيارات الثقافات الواسعة والمتباينة، وبخاصة الثقافة الفلسفية.
أما الرسائل الديوانية فقد ظلت على نشاطها، وأبرز كُتّابها إبراهيم بن العبّاس الصّولي كاتب المتوكل وأحمد ابن الخصيب كاتب المنتصر. انظر: الرسائل.
النقد الأدبي. حقق النقد الأدبي تقدمًا واسعًا شهده العصر مُمثلاً في كثرة النقاد وتنوع مناهجهم وشمولية النظرة للأدب. وأبرز نقاد هذا العصر ابن قتيبة في كتابه الشعر والشعراء. انظر: الشعر والشعراء. كما شهد هذا العصر، أيضًا، نضجًا في التأليف البلاغي الذي لا يعدم صلته بالنقد الأدبي. وأبرز الأعمال البلاغية النقدية كتاب البديع لعبد الله بن المعتز مع نثار نقدي قليل ومتفرّق في كتابه طبقات الشعراء المحدثين، كما لايخلو كتاب الكامل لأبي العباس المبرد من نظرات نقدية بلاغية. انظر: الكامل في اللغة والأدب. هذا إلى ما للجاحظ من جهود رائدة في تأسيس البلاغة الممزوجة بنظرات نقدية صائبة. وبالجملة فإن القرن الثالث الهجري شهد ظهور أمهات كتب النقد الأدبي، التي غَدَت مصادر نقدية أساسية للعصور اللاحقة.
العصر العباسي الثالث. من قيام الدولة البويهية إلى سقوط بغداد، (334 - 656هـ ، 945 - 1258م). بدا واضحًا في هذا العصر أن الدول والإمارات التي انقسمت إليها الخلافة العباسية كانت، بحكم ما بينها من تنافس، سببًا في الازدهار الأدبي والحضاري، وإن كانت عامل ضعف سياسي في بناء الخلافة. وإذا كانت حركة الترجمة والاتصال بالثقافات الأجنبية قد بدأت تؤتي ثمارها في العصر السابق، فقد تأكدت نتائج هذا الاتصال بظهور مواهب فنية وعقلية فذّة، كما اتسعت فنون الأدب، شعره ونثره.
ففي مجال الشعر ظهر المتنبي والمعري والشريف الرضيّ. وفي مجال النثر ظهر أبو حيان التوحيدي وبديع الزمان الهمذاني. وفي مجال التأليف ظهر أبو الفرج الأصفهاني بموسوعته الكبرى الأغاني.انظر: الأغاني، كتاب. وبرز أبو منصور الثعالبي بمؤلفه يتيمة الدهر الذي كان مدرسة في التأريخ الأدبي احتذاها كثير من المشارقة والمغاربة، هذا إلى كتب أبي علي التنوخي مثل نشوار المحاضرة، والفرج بعد الشِّدّة.
اتسعت حركة التأليف اللغوي، فشهد هذا العصر لونًا جديدًا من البحث اللغوي تمثل في كتاب الخصائص لابن جِنِّي، وظهور أنماط شتى من المعاجم اللغوية. كما تمثل في حركة التأليف في التاريخ الإسلامي والجغرافيا والعلوم الإسلامية، والفلسفة والعلوم البحتة والتطبيقية، إلى غير ذلك من العلوم. ويعكس هذا النشاط التأليفي هضم العقل العربي للثقافات هضمًا جعله قادرًا على الابتكار والإسهام في الحضارة الإنسانية بجهد متميز.

أما الفنون الأدبية، فأبرزها ما اصطُلح حديثًا على تسميته بالأدب الشعبي، مثل ألف ليلة وليلة ذات التأثير الواسع والعميق في الآداب العالمية، وسيرة عنترة، ثم هذا النوع من القصص الابتكاري، ومن أبرز نماذجه رسالة الغفران لأبي العلاء المعري. انظر: رسالة الغفران. كما ظهرت في مجال الشعر فنون شعبية مستحدثة، منها الموشح والزجل والمواليا. وهكذا، فإن الصورة العامة لهذا العصر أدبًا وعلمًا، تدل على ازدهار متميز حقق به الإبداع العربي نبوغه ومقدرته الفذة على الابتكار.
ولم يعد الابتكار الفني والعقلي قاصرًا على بيئة دون أخرى،بل اتسعت رقعة هذا الابتكار ليشمل شتى الحواضر العربية، ثم يتجاوزها إلى ديار الأعاجم الذين شاركوا ـ بعمق ـ في حركة الابتكار الفني والعقلي.

الشعر اصطبغ بصبغ فكري جعله قادرًا على تجسيد قضايا الإنسان والكون والحياة، دون أن يفقد نبضه الوجداني ومقدرته الفذة على التخييل والتصوير، وقد ظهر أبو الطيب المتنبي نموذجًا للشاعر الذي تمثل في عمق شتَّى الثقافات، مع موهبة فنية نادرة النظير وثروة لغوية وارتكاز على التراث الأصيل، وهو يعبّر عن هموم عصره من خلال ذاته وفكره. انظر: المتنبي. وإذا كان المتـنبي والمعري يمثلان النموذج المتفرد في التعبير الإنساني، فقد كان من الطبيعي أن يظهر إلى جوارهما عشرات الشعراء، ممن كانوا دونهما نبوغًا وعبقرية، لكنهم، على كل حال، كانوا يمثلون اتجاهات شعرية متباينة ومستويات شعرية مختلفة. ومن هؤلاء الشعراء: أبو فراس الحمداني، وكشاجم والوأواء الدِّمشقي والشريف الرضِي ومهيار الدَّيـْلمي وابن نباتة السَّعْدي. ويزخر كتاب يتيمة الدهر للثعالبي بجمهور كبير من هؤلاء الشعراء الذين ظهروا في بيئات عربية وأعجمية مختلفة. وإذا كان الأندلس يفاخر المشرق بفن الموشح، فإن المشرق، في محاولة للتميز، حاول أن يتفرد بدراسة هذا الفن المستحدث واستخلاص قواعده وأوزانه، فظهر ابن سناء الملك بكتابه دار الطراز في عمل الموشحات. ولئن عجز ابن سناء الملك عن استخلاص أعاريض الموشح وحصر أوزانه في كتابه المتقدم فإنه وفق إلى استخلاص سائر قواعده من خلال منهج سديد جمع بين النظرية والتطبيق.
ونطالع في مرحلة متأخرة من هذا العصر أسماء شعراء مثل البهاء زهير وابن مطروح، وهما من أصدق الشعراء تمثيلاً لروح العصر، إذ اتسمت أشعارهما بالرّقة والعفوية، فضلاً عن تلك اللغة السهلة التي تقترب كثيرًا من لغة الحياة الدارجة، إلى ما لدى البهاء زهير من نزوع إلى الغزل الذي، وإن لم يعبر عن معاناة حقيقية، يعكس روح الدعابة وخفة الظل لديه.
كما نطالع شعر التصوف لعمر بن الفارض ولغيره من الشعراء، إذ كان الشعر الصوفي صدىً لتيار التصوف في هذا العصر.
وإذا كان الغزو الصليبي يشكل لهذا العصر أعمق الأحداث أثرًا في حياة الناس، خاصة في ديار الشام ومصر، فمن البدهي أن يترك هذا الغزو تأثيره على الشعر، إذ راح الشعراء يعبرون عن أحزانهم بهزيمة أو أفراحهم بنصر، مع رثاء المدن أو مدح السلاطين من بني أيوب. ولكن ينبغي الاعتراف بأن الشعر العربي، لهذه الحقبة، كان من الضعف بحيث لا نجد شاعرًا فحلاً في مستوى أبي تمام والمتنبي، وهما يعبران في قصائدهما الحماسية عن حركة النـضال ضد الروم.
النثر. أبرز أشكال النثر في هذا العصر الفن القصصي، وقد حقق تقدمًا ملحوظًا، فلم يعد مجرد حكايات تراثية يرويها الأديب، ويُحدث فيها بعض التعديل، بل ظهر القصص الابتكاري. وتُعدّ مقامات بديع الزمان الهمذاني وتلميذه الحريري أوضح نماذج القصص الابتكاري الواقعي، ممزوجًا بصبغ تعليمي يتمثل فيما حوته المقامات من ألفاظ اللغة والألغاز والثروة البلاغية والنقدية. انظر: المقامات. وإذا كان أدباء المتصوفة شاركوا في هذا العصر بأشعارهم، فقد شاركوا أيضًا بكتاباتهم التي تمثلت في تلك الابتهالات التي نجدها لدى أمثال أبي الحسن الشاذلي وتلميذه ابن عطاء الله السكندري.
وإلى جانب القصص الشعبي عرف هذا العصر النثر الفكاهي الذي دار حول النقد الاجتماعي للعادات والتقاليد والنقد السياسي لممارسات بعض الحكام. وكتاب الفاشوش في حكم قراقوش نموذج لهذا اللون من القصص الفكاهي، الساخر من قراقوش قائد صلاح الدين الأيوبي ونائبه بمصر إبان الحروب الصليبية. فقد كان الرجل جادًا ملتزمًا في عمله إلى حد القسوة أحيانًا، مما جعل ابن ممّاتي يحمل عليه ويصوّره، في هذا الكتاب، بصورة ساخرة مبالغ فيها.
النقد الأدبي. ازدهر النقد الأدبي ازدهارًا كبيرًا في هذا العصر منتفعًا بما سبق من جهود النقاد. وأهم النقاد في هذا العصر أبو هلال العسكري والقاضي الجرجاني والآمدي، وابن رشيق القيرواني وابن الأثير.
وإذا كان أبو هلال العسكري يمثل الاتجاه النظري في النقد، متأثرًا بشيخه قدامة بن جعفر، فإن القاضي الجرجاني في الوساطة، والآمدي في الموازنة، يمثلان الاتجاه التطبيقي في النقد الأدبي.
أما كتاب العمدة لابن رشيق القيرواني، فيعد أشمل مؤلف في دراسة الشعر، إذ لا يقتصر على النقد بل يتجاوزه إلى البلاغة وبعض الثقافات التراثية التي تُعدّ، بحق، مفتاحًا لدراسة الشعر العربي القديم، وبخاصة الجاهلي.
كما أن كتاب المثل السائر في أدب الشاعر والناثر لضياء الدين بن الأثير يُعدُّ نموذجًا للنقد الأدبي الذي يجمع بين الشعر والنثر.

من سقوط بغـداد (656هـ) إلى مطالع العصرالحديث

وهو ما عرف في تاريخ الأدب بعصر الانحطاط، وهي تسمية جائرة. فقد واجهت الأمة الإسلامية في هذا العصر موجات ثلاثًا من الغزو: موجة الغزو الصليبي، وموجة الغزو المغولي الأولى بقيادة هولاكو، التي أسقطت بغداد، ثم بدأت تعد العدة لغزو مصر والشام لولا هزيمتها في عين جالوت، والموجة الثالثة هي موجة الغزو المغولي الثانية، وقائدها تيمورلنْك من سلالة جنكيزخان، الذي مضى يخرّب غالب مدن العراق، كما خرّب حلب وأحرق دمشق. وقد كان لهذه الموجات الثلاث صداها البعيد في الأدب شعره ونثره.
ظل للماليك في مصر دولة حاكمة من سنة 648هـ ، 1250م إلى الفتح العثماني عام 922هـ، 1516م. وكان للماليك جولات عظيمة في الجهاد، كما لقُطز والظاهر بيبرس في معركة عين جالوت، فضلاً عن بطولات الظاهر بيبرس في حرب الصليبيين، وكذا بطولات خلفائه من بعده، كما شهد العصر المملوكي ازدهارًا في إنشاء المدارس وتأليف الموسوعات وازدهارًا في العلوم والفن المعماري، بينما ضعف الأدب شعرًا ونثرًا.
ثم كانت الخلافة العثمانية منذ عام 922هـ ، 1516م وزوال دولة المماليك بمصر إلى العصر الحديث، مع نهاية القرن الثاني عشر ومطالع القرن الثالث عشر الهجري، وانبثاق النهضة الفكرية والأدبية في العالم العربي على تفاوت ـ في ذلك ـ بين أقطاره المختلفة. أما الأدب خلال تلك الحقبة فكان من أبرز معالمه ظهور تيارين: الأول، تيار الأدب الديني والثاني، تيار الأدب الشعبي.
أما في تيار الأدب الديني، فقد ازدهرت المدائح النبوية، موصولةً بجذورها في صدر الإسلام. ومع تيار المدائح النبوية يظهر أيضًا تيار الشعر الصوفي المتدثر بالتصوف الفلسفي على طريقة ابن عربي وابن الفارض، وممن يمثل هذا التيار عبد الغني النابلسي (ت1143هـ).
وفي النثر تطالعنا حكم ابن عطاء الله السكندري (ت709 هـ) متأثرةً هي الأخرى بالتصوف، كما تطالعنا كتب ابن تيمية ورسائله، وكتب تلميذه ابن قيم الجوزية، وهي تمثل التيار السَّلفي للأدب الإسلامي في هذا العصر. وكان من البدهي أن يعكس كل من الأدبين، الصوفي والسلفي، حركة الصراع بين هذين الاتجاهين.
أما في تيار الأدب الشعبي فقد انتشرت أشكال شعبية كالزجل الذي اتخذ من الدارجة لغةً له. ويبدو أن انشغال المشارقة بفن الزجل وتشقيقهم منه أشكالاً متعددة التلاوين، كل ذلك قد لفت انتباه ابن سعيد المغربي الأندلسي في رحلته إلى المشرق، فراح يسجل ألوانًا منه في كتابه المُشْرق في حُليِّ أَهْل المَشْرق. وتستوقفنا في هذا العصر شخصية ابن سودون الذي عدّه الباحثون أهم شخصية شعبية في القرن التاسع الهجري، وله كتاب بعنوان نزهة النفوس ومضحك العبوس، جعله في خمسة أبواب، الباب الأول في القصائد والتصاديق، أي المقدمات، وهي قصائد بالفصحى لم تخْلُ من اللفظ العامي يسوقه للفكاهة، والباب الثاني، في الحكايات البيداء الملافيق، والثالث في الموشحات الهبالية، كتبها بالعامية، والرابع في الزجل والمواليا، والخامس في الطُرف العجيبة والتحف الغريبة. واللافت للنظر أن الشعر الفصيح نفسه عند ابن سودون مثير للضحك بمعانيه وصوره، وببعض ما تخللت لغته الفصيحة من تعابير عامية.
أما النثر فلعله فاق الشعر أو ساواه في طابعه الشعبي، فما زالت سيرة عنترة شائعة سيارة بين الطبقات الشعبية في أسمارهم ومحافلهم. انظر: السيرة الشعبية.
ومن صور النثر الشعبي في هذه الحقبة كتاب عنوانه: هزّ القحوف في شرح قصيدة أبي شادوف لمؤلفه يوسف الشربيني، وهو لون من النثر الشعبي الساخر يتناول واقع الريف المصري في هذه الحقبة بما تخلله من جهلٍ وفقر.
وبينما يكون نثر السيرة الشعبية بطوليًا خياليًا،كان هز القحوف وأمثاله فكاهيًا واقعيًا.
تناولت هذه العجالة أبرز تيارين أدبيين في الشعر والنثر، ولكن ذلك لا يعني اقتصار الأدب عليهما، فإلى جانب تياري الشعر الديني والشعبي، عرف الأدب سائر الأغراض التقليدية للشعر، وبخاصة شعر الحماسة، الذي عبّر عن وجدان الإنسان العربي ومشاعره تجاه الأحداث الجسام ممثلة في تيارات الحروب الصليبية والغزو المغولي. ولكن الشعر العربي لم يستطع، لضعفه، أن ينهض بعبء التعبير عن هذه الأحداث، كما أن النثر التقليدي ظل موجودًا إلى جانب النثر الشعبي، إذ ظلت الخطابة والمقامة والرسالة قائمة في هذا العصر في لغة مسجوعة مصنوعة.
ولكن ينبغي أن نشير هنا ـ ونحن بصدد الحديث عن النثر، إلى حقيقتين مهمتين: الأولى: ازدهار فَنَّيْ السيرة الذاتية والرحلة. انظر: السيرة؛ الرحلات، أدب. والثانية: أن كتب التاريخ والجغرافيا لم تخْل مواضع منها من النثر الإبداعي الوصفي الذي ينبض بالتجربة وقوة التأثير وجمال الصياغة، مما يدخلها في صميم النثر الإبداعي. وتُعدّ هذه المواضع مع ما ذكرناه من كتب السيرة الذاتية والرحلة، نقاط ضوءٍ ساطع في نثر هذا العصر الذي خَيَّمت عليه الصنعة والضعف.

الأدب في الأندلس

فتح المسلمون الأندلس عام 92 للهجرة، وظلت تحت راية الإسلام أكثر من ثمانية قرون حتى عام 898هـ، تاريخ خروج المسلمين منها. وتُعدُّ الأندلس جسرًا ثقافيًا بين الشرق والغرب، فعن طريقها تنسَّم الغرب النصراني نفحات الحضارة العربية الإسلامية. وهي حضارة حلقت بجناحين: جناح العقيدة وهي الدين الإسلامي، وجناح اللغة العربية. ومن ثَمَّ كان الأدب في الأندلس عربيًا في لغته وبلاغته وأساليبه. وقد امتزج كل ذلك بكثير من طبيعة البيئة الأندلسية التي نشأ في أحضانها.
الحياة السياسية، وآثارها الفكرية والأدبية. عرفت الأندلس ستة عصور سياسية هي:
عصر الولاة (95-138هـ). حكم الأندلس خلال هذه الفترة ثمانية عشر واليًا؛ يعيَّنهم تارة الخلفاء الأمويون في دمشق وأخرى عُمالهم في إفريقيا، وأول هؤلاء الولاة، عبد العزيز بن موسى بن نُصَيْر وآخرهم يوسف بن عبد الرحمن الفِهْرِي.
امتاز هذا العصر بالصراع القبلي بين العرب والبربر الذين كانوا يفخرون بأنفسهم، لأن فتح الأندلس تم على يد رجل منهم هو طارق بن زياد، ولذلك كانت ثورات البربر لا تهدأ في الأندلس خلال هذه الفترة. ثم ظهر نزاع قبلي آخر بين من عرفوا بالبلديين والشاميين؛ فالبلديون هم عرب الأندلس في حركة الفتح الأولى والشاميون هم الأفواج اللاحقة، وقد دار صراع بين الفريقين. وكذلك كان ثمة صراع قبلي ثالث بين المُضريَّة واليمنية ترك بصماته على هذه الفترة.
لم يكن هذا العصر مهيئًا لنهضة أدبية أو علمية بسبب عدم الاستقرار السياسي الذي كان يمور فيه، ومن ثم لا نجد خطوطًا أدبية مميزة لهذه الفترة.
الدولة الأموية. ينقسم هذا العصر إلى قسمين: الأول إمارة قرطبة (138 - 300هـ)، وتأسست على يد عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبدالملك بن مروان الذي عرف بعبد الرحمن الداخل. وقد استطاع الداخل بعد سقوط الخلافة الأموية في دمشق وقضاء العباسيين على كثير من الأمويين أن ينجو بنفسه ويخوض مغامرات كثيرة جعلت منه صقر قريش الذي أسس مجدًا للأمويين في الأندلس، حيث تناوب على حكم إمارة قرطبة من بعده ستة من أبنائه وأحفاده.
وفي هذا العصر نمت قوة المسلمين بالأندلس وانعكس أثرها في سياستهم الخارجية، على حين أن النشاط الداخلي شهد حركة من البناء والعمران جعل من قرطبة العاصمة درة بين العواصم المشرقية والغربية. كما كان الأمير الحكم بن هشام مؤثرًا للعلماء والفقهاء، وإن كان عبد الرحمن الأوسط هو أشهر أمراء قرطبة في رعاية العلوم والآداب والفنون.
نهضت الحركة الأدبية في هذا العصر، إذ كان حكامه بحكم طبيعتهم العربية يعنون بالشعر والنثر وفصيح القول؛ فجعلوا بلاطهم عامرًا بأهل العلم والأدب. كما كان عبد الرحمن الداخل نفسه شاعرًا وأديـبًا. ومن أشهر مقطوعاته الشعرية وصفه للنخلة التي أهاجت شجنه وذكرته بوطنه حين يقول:
تَبَدَّتْ لنا وسط الرَّصافة نخلةٌ تناءت بأرض الغرب عن وطن النخل
فقلت شبيهي في التغرُّبِ والنَّوى وطول التنائي عن بَنِيَّ وعن أهلي
نَشَأْتِ بأرض أنت فيها غريبةٌ فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي
وكذلك كان الحكم بن هشام بليغًا فصيحًا شاعرًا مجيدًا، ومن شعره يفخر بإقرار الأمن في البلاد:
رأبت صدوع الأرض بالسيف راقعًا وقِدمًا لأمت الشَّعب مُذْ كنتُ يافعًا
فسائل ثغوري هل بها الآن ثغرةٌ أبادرها مُسْتَنْضِيَ السيف دارعًا
تُـنَـبِّيك أني لم أكن عن قِرَاعِهم بِوَانٍ وأني كنت بالسيف قارعًا
ومن قوله يتغزل:
ظل من فرطِ حبه مملوكا ولقد كان قبل ذاك مليكا
إن بكى أو شكا زِيْدَ ظُلْماً وبعادًا يدني حِماماً وشيكا
تركته جآذرُ القصر صَبا مستهاماً على الصعيد تريكا
ولا نستثني من زمرة الأمراء الشعراء عبد الرحمن الأوسط في مثل قوله:
إذا ما بدت ليَ شمس النهار طالعة ذكرتني طروبا
أنا ابن الميامين من غالب أشُبُّ حروبًا وأطفي حروبا
وكذلك آخر أمراء قرطبة عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن وكان شاعرًا مطبوعًا ومن رقيق غزله قوله:
يامهجة المشتاق ما أَوْجَعَك ويا أسير الحب ما أخْضَعَكْ
ويارسول العين من لحظها بالرد والتبليغ ما أَسْرَعَكْ
ومن شعراء الإمارة من غير الأمراء عاصم بن زيد العبادي، الذي جعل من محنة العمى موضوعًا لشعره، ومن أجمل تصويره لمحنته قوله:
ورأت أعمى ضريرًا إنما مَشْيُهُ في الأرض لمسٌ بالعصا
فبكت وجدًا وقالت قولة وهي حَرَّى بلغت منّي المدى
ففؤادي قرِح من قولها مامن الأدواء داء كالعمى
أما الشاعرات فتعد حَسانة التميمة سيدة شواعر عصرها غير منازعة، ومن جميل قولها مدحها للحكم بن هشام:
أنت الإمام الذي انقاد الأنام له وملَّكَتْهُ مقاليد النُّهى الأمم
لا شيء أخشى إذا ماكنت لي كنفًا آوي إليه ولايعرونِيَ العدم
وقد كان الشعر في هذه الفترة يسير على الاتجاه المحافظ في المدرسة المشرقية ويتبع منهج القدماء في بناء القصيدة واستيحاء صورها من عالم البادية وترسم موضوعات الشعر التقليدي في مدحه وفخره وهجائه، كل ذلك في عبارات فخمة وألفاظ جزلة وبحور طويلة وقوافٍ رنَّانة.
وعلى كلٍ فقد نهض الأدب في هذا العصر نهضة واسعة بسبب عناية الحكام بالأدباء والعلماء وتيسير سبل حياتهم.
أما القسم الثاني فهو عهد خلافة قرطبة (300 - 422هـ). حيث تحولت إمارة قرطبة إلى خلافة عظيمة على يد عبد الرحمن الثالث، وهو عبدالرحمن بن محمد بن عبدالله بن محمد بن عبدالرحمن الأوسط، وعرف بعبدالرحمن الناصر. وهو أول من تسمى من أمراء الأمويين في الأندلس بأمير المؤمنين وأعلن نفسه خليفة بالأندلس وتلقب بالناصر لدين الله.
لم تشهد الأندلس عصرًا بلغ ذروة ازدهاره في مختلف مجالات الحياة، مابلغته الأندلس في هذا العصر. فقد نهضت الآداب والعلوم والفنون نهضة واسعة. وكان عبد الرحمن الناصر كثير العناية بالشعراء والكتاب، وأصبح بلاطه قبلة لأهل العلم والأدب. انظر: الناصر الأموي.
ويُعد ابن عبدربه الأندلسي صاحب العقد الفريد وأحمد بن عبدالملك بن شهيد صاحب التوابع والزوابع وعبد الملك بن جَهْوَر من أشهر شعراء هذا العصر.
انتقلت الخلافة بعد عبد الرحمن الناصر إلى ابنه الحكم وكان أمره كأبيه، فواصلت الأندلس مسيرتها العطرة في مختلف المجالات. وكان الحكم قد عهد في حياته بأمر الإشراف على ابنه هشام إلى محمد بن أبي عامر الذي استولى بعد موت الحَكَم على الحُكْم، حين حجب هشامًا الحَاكِم الشرعي وأصبح هو الحاكم الفعلي للأندلس ولقب نفسه بالحاجب المنصور.
وفي عصر المنصور اتصلت نهضة الأندلس السياسية، وإن فقدت شيئًا من رحابة الصدر التي كانت للخلفاء السابقين. وكان الحاجب المنصور أديبًا شاعرًا محبًا للعلوم مؤثرًا للأدب، فنهض الأدب في جوانبه المختلفة، وكان من أشهر شعراء العصر الرَّمادي وابن درّاج القسطلي وابن هانئ وغيرهم.
وبموت المنصور بن أبي عامر (392هـ) دخلت الأندلس في الفتن والصراعات التي أدت إلى انقطاع الدولة الأموية وموتها بانتثار عقد الخلافة، وكان ذلك بداية النهاية في الأندلس. انظر: المنصور بن أبي عامر .
عصر ملوك الطوائف (400 - 536هـ). تقسَّمت الأندلس عقب سقوط الخلافة الأموية إلى عدد من الدويلات والطوائف، وكان كل من يأنس في نفسه القدرة من رؤساء الطوائف عربًا أو موالي يستقل بالإمارة التي يحكمها ويتخذ من أهم مدينة فيها عاصمة له. ومن أهم هذه الدويلات: أ- الدولة الزيرية. ب- الدولة الحمودية. جـ- الدولة الهودية. د- الدولة العامرية. هـ- الدولة العبادية. و- دولة بني الأفطس. ز- الدولة الجهورية. ح- دولة ذي النون.
وقد نشأت بين حكام هذه الممالك وملوكها حروب متصلة، بلغ الأمر فيها استعانة بعضهم بملوك الفرنجة. كما تجاوز التنافس السياسي بينهم إلى التنافس في مجالات العمران والأدب والفن ومجالس الطرب والغناء وتشجيع الكتاب والشعراء. وبالرغم من ذلك شُغِل فريق بالبهرج والترف والتهافت على الصغائر والتلقب بنعوت الخلفاء، مما جعل سخرية الشاعر ابن عمار صادقة في حقهم حين يقول:
مما يُزَهِّدني في أرض أندلس أسماءُ معتضد فيها ومعتمد
ألقاب مملكة في غير موضعها كالهِرِّ يحكي انتفاخًا صولةَ الأسد
وعلى كل حال حظيت الحركة الأدبية برعاية فائقة على يد عدد من هؤلاء الحكام الذين كانوا أنفسهم شعراء وأدباء، كالمعتمد بن عَبَّاد في أشبيليا والمظفر وابنه المتوكّل في بَطْلَيَوْس. كما أصبحت مراكز الأدب وإشعاعاته ليست في قرطبة وحدها كما كان الحال في عصر الدولة الأموية، ولكن تعددت مراكز الثقافة بتعدد العواصم، وقد أخذ العلماء والأدباء والشعراء يقصدون كل بلاط رغبة في نيل الحظوة وتكريم الحكّام لهم. ومن ثم فليس عدلاً أن نحكم على عصر الطوائف حكمًا أدبيًا من منظور فرقته وضعفه السياسيين، فالعصر وإن تردَّى سياسيًا، فقد نهض نهضة أدبية واسعة.
دولة المرابطين (495 - 555هـ). نشأت دولة المرابطين في المغرب على يد أحد زعماء قبائل صنهاجة، وكان أساسها دينيًا. وبعد موت مؤسسها آل أمرها إلى أسرة بني تاشفين، وكان يوسف بن تاشفين هو المقدم في هذه الدولة التي أقامها على قاعدة من الجهاد الديني العريض.
ا
وفي هذه الفترة جمع الأسبان قوتهم تحت راية الصليب، وهاجموا الدويلات الأندلسية وقضوا عليها واحدة تلو الأخرى، حتى بلغوا مدينة أشبيليا عاصمة ابن عبَّاد، فاضطر حاكم أشبيليا المعتمد بن عباد إلى طلب النجدة من أمير المرابطين بالمغرب وعندما روجع في ذلك قال قولته المشهورة (رعي الجمال خير من رعي الخنازير). وكان أنْ لَـبَّى يوسف بن تاشفين استغاثة الأندلس وعبر إلى نجدتهم وانتصر على الفرنجة في الموقعة المشهورة بالزَّلاقة (479هـ) وعاد إلى المغرب منصورًا مظفرًا. انظر: الزلاقة، موقعة.
وتنقضي ثلاث سنوات ويناوش الفرنجة المعتمد مرة أخرى، فيستعين ثانية بابن تاشفين الذي عبر إلى الأندلس وقضى على الأعداء (484هـ) ولكنه في هذه المرة قضى على ملوك الطوائف معهم وضمّ الأندلس إلى ملكه وبدأ حكم المرابطين عليها. وتوفي يوسف سنة 500هـ وقام ابنه عليٌ بالأمر من بعده.
كان حكم المرابطين في الأندلس يرتكز على قاعدة من الجهاد الديني، ومن ثم نعم العلماء والفقهاء في عصرهم بتكرمة وتجلة، وقلّ حظ الشعراء والأدباء، إذ لم يكن حس حكام المرابطين باللغة العربية في شفافية حس من سبقهم من الحكام العرب.
بدأ المرابطون ينغمسون في حياة الأندلس وما فيها من دعة وترف ومجون، ويفقدون سَمْتَهُم الحربي، ونتيجة لذلك مُنيَت جيوشهم بهزائم متلاحقة من جيوش الفرنجة. ثم ثار في عام 540هـ أهل أشبيليا عليهم وخرجوا عن طاعتهم وبايعوا عبد المؤمن بن علي خليفة المهدي بن تومرت مؤسس دولة الموحدين بالمغرب.
دولة الموحدين (524 - 567هـ). دولة إفريقية قبلية دينية، نشأت في المغرب في أعقاب دولة المرابطين. وترجع في نشأتها إلى قبائل المصامدة. وجوهر دعوتها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكان مؤسسها ابن تومرت صاحب ورع ونسك وغيرة على الدين وفصاحة وبيان.
وفي أعقاب ثورة أهل الأندلس على المرابطين وخلع طاعتهم تردت الأندلس إلى مثل حالها في عهد ملوك الطوائف وعاد الفرنجة يهاجمون المدن الإسلامية. فالتمس أهل الأندلس النجدة من الموحدين. فعبر عبد المؤمن بن علي سنة 525هـ إلى الأندلس وفتح كثيرًا من مدنها وضمها إلى مُلكه، وجعل أشبيليا عاصمة له، وكان ذلك نهاية دولة المرابطين وقيام دولة الموحدين بها.
اهتم الموحدون بأمور الدين والعقيدة اهتمامًا عظيمًا، وحظيت العلوم والآداب بتشجيعهم، كما اهتموا بالبناء والمعمار. وبلغت هذه الدولة أوج مجدها في عهد أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، ثم في عهد ولده أبي يوسف. وقد دام حكم الموحدين للأندلس حوالي مائة وثلاثين سنة. ومن معاركهم المشهودة الأرك سنة 591هـ، وهي تماثل موقعة الزَّلاقة في شهرتها. ولكنهم هُزموا في معركة العقاب هزيمة كانت قاصمة الظهر للمسلمين في الأندلس، إذ تمكن ملوك النصارى من بعدها من استرداد المدن واحدة فأخرى فيما عرف بحرب الاسترداد، فسقطت أشبيليا وقرطبة وبلنسية ومرسية، وانحصرت دولة الأندلس في رقعة صغيرة في الجنوب هي ماعُرف بدولة بني الأحمر.
دولة بني الأحمر (635 - 898هـ). بعد سقوط دولة الموحدين في الأندلس تمكّن محمد بن هود صاحب بطليوس من مدِّ نفوذه على عدد من المدن الأندلسية. وفي هذه الفترة ظهر محمد بن يوسف بن نصر من بني الأحمر وهم آخر ملوك العرب في الأندلس، وأخذ يتصدى لقتال النصارى، مشكلاً مع ابن هود النَفَس الأخير في شرارة الجهاد، غير أنَّ كليهما كان أضعف من أن يرد النصارى عن ملكه أو أن يحمي مملكته. فاستطاع الإفرنج الاستيلاء على ألمريَّة وقتل ابن هود ولم يبق للمسلمين في الأندلس سوى غرناطة يتولى أمرها بنو الأحمر. وقد استطاعت هذه الدويلة الصغيرة أن تؤخر خروج المسلمين من الأندلس نحو قرنين ونصف من الزمان.
أقام بنو الأحمر مملكة غرناطة في هذه الظروف الصعبة. فمن الناحية السياسية كان عصرهم عصر فتن وانقلابات، وعصر حروب متصلة بين المسلمين والنَّصارى، تارة يمدهم ملوك المغرب بنجدتهم وأخرى ينصرفون عنهم. وكما عَرف هذا العصر سلاطين أقوياء من بني الأحمر عَرف سلاطين ضعفاء تخاذلوا أمام العدو ودخلوا في طاعته. وبلغ الأمر ذروته في الصراع الدائر بين السلطان أبي الحسن علي بن سعد وابنه أبي عبدالله محمد من ناحية، ثم بين الأخير وعمه أبي عبدالله بن سعد من ناحية أخرى. وانتهى الأمر بعد صراع طويل بين الأب وابنه بفرار الابن إلى قرطبة، مستغيثًَا بالملك فرديناند والملكة إيزابللا.
وبينما كان نصارى أوروبا يتجمعون في أسبانيا للقضاء على المسلمين في الأندلس، كانت الحرب على أشدها بين السلطانين، وانتهى الأمر بالانقسامات الداخلية، وقد بلغ النصارى مشارف غرناطة. فعقد مجلس أشار الأعيان فيه بتسليم المدينة وكان ذلك آخر أمر المسلمين في الأندلس، فسلّم أبو عبد الله آخر ملوك غرناطة مفاتيحها إلى فرديناند وإيزابللا، وانطوت عام 898هـ صفحة من تاريخ الإسلام في الأندلس بعد قرون ثمانية خلفوا فيها زخمًا من الآثار والحضارة في مختلف المناحي.
وفي هذا العصر عرفت غرناطة نهضة في المباني والعمران وكذلك نهضة في الآداب والفنون، ولعل التوجس من الخطر القريب دفع أهل غرناطة إلى مجالات من التنفيس، اتخذت من الأدب شعرًا ونثرًا منافذ للطاقات المكبوتة.
تقييم العصور السياسية والأدبية في الأندلس. اتسمت هذه العصور بسمات خاصة، فإن كان عصر تأسيس الإمارة هو بداية الطريق في وضع اللبنات الأولى لما أعقبه من نهضة عمرانية وعلمية وأدبية، فإن العصر الأموي يمثل ذروة مابلغته الأندلس من نهضة مزدهرة. أما عصر ملوك الطوائف، فبالرغم من ترديه السياسي، تميّز بازدهار الحركة الأدبية وكثرة الشعر والشعراء وازدهار فن الموشح، مع تأسيس لمكانة العلماء والأدباء، لما وجدوه من حفاوة في بلاط الحكام المختلفين. أما عصر المرابطين فكان عصرًا دينيًا ضعفت فيه الحركة الأدبية شيئًا، وظهر فيه فن الزجل ولقي رواجًا كبيرًا. ومثله كان عصر الموحدين الذي أدى التأمل الديني فيه إلى نشاط الحركة الفلسفية وما تبع ذلك من التفكير الفلسفي الحر. ويبقى عصر بني الأحمر أو عصر الجلاء بما فيه من حياة قلق وتوجس وترف ورخاء يفيض بشعر كثير، فهو تارة يصف النكبة وأخرى يصور حــياة الدعة والمجون، فقد نضجت الفنون الأدبية على نار هادئة من المحن والكوارث، فنهض الموشح والزجل والشعر نهضة واسعة.
الفنون الأدبية في الأندلس. تشمل الفنون الأدبية الشعر بأنواعه: التقليدي والموشحات والزجل وكذلك النثر من ترسل ومقامات وتوقيعات وخلافه، كما سيلي تفصيله.
الشعر. يلفت النظر شيوع الشعر في المجتمع الأندلسي، إذ لم يكن الشعر وقفًا على الشعراء المحترفين وإنما شاركهم في ذلك الأمراء والوزراء والكتاب والفقهاء والفلاسفة والأطباء وأهل النحو واللغة وغيرهم. فالمجتمع الأندلسي بسبب تكوينه الثقافي القائم على علوم العربية وآدابها، ثم طبيعة الأندلس التي تستثير العواطف وتحرك الخيال، كل ذلك جعل المجتمع يتنفس الشعر طبعًا وسليقة وكأنما تحول معظم أهله إلى شعراء.
اتجاهات الشعر الأندلسي. ينقسم الشعر في الأندلس إلى ثلاثة اتجاهات: 1- الاتجاه المحافظ، ويهتم هذا الاتجاه بالموضوعات التقليدية ويتبع منهج القدماء في بناء القصيدة، وأسلوبه بدوي، وفي ألفاظه جزالة وعبارات لا تخلو من خشونة وحوشيّة، وأما بحوره فطويلة وقوافيه غنائية. هذا الاتجاه يحتذي نماذج المشرق وإن كان في واقع الأندلس في تلك الفترة، وهي فترة تأسيس الإمارة، ما يسوِّغ غلبة الموضوعات التقليدية وهي سمة الشعر المحافظ. فالفترة كانت فترة صراعات وحروب تتطلب شعرًا يعبِّر عن الفخر والحماسة. كما كان الحكام عربًا تهزهم أريحية المدح والكرم. أما الغزل فكان يعبّر عن الحب الصادق فلا مجال إلا لفارس عاشق أو عاشق فارس يُذكر بعنترة بن شداد. ولعل أهل الأندلس كانوا يتمثلون عالم الآباء والأجداد، حيث الصحراء والكثبان والواحات، وهم في عالم الأندلس الذي يبعد عن ذلك العالم، وكأنهم يستلهمون العالم المثالي. وقد فطن ابن بسام لتقليد الأندلس للمشرق، فأطلق العبارة التي أصبحت مثلاً، وهي قوله: ¸إن أهل هذا الأفق أبوا إلا متابعة أهل المشرق، يرجعون إلى أخبارهم المعتادة رجوع الحديث إلى قتادة، حتى لو نعق بتلك الآفاق غراب أو طَنَّ بأقصى الشام والعراق ذباب، لجثوا على هذا صنمًا وتلوا ذلك كتابًا محكمًا·. وبالرغم من ذلك كان لهذا الاتجاه سماته الخاصة في الشعر الأندلسي، وقد جعلت تلك السمات لهذا الشعر ذاتية مستقلة، وطبعت الملامح الأولى للشعر الأندلسي وميزته عن الشعر المشرقي. ومن أشهر شعراء هذا الاتجاه: عبد الرحمن الداخل وأبو المخشى والحكم بن هشام وعباس بن ناصح وغيرهم من شعراء الفترة الباكرة. 2- الاتجاه المحدث، وهو الاتجاه الذي حمل لواءه بالمشرق أبو نواس ومسلم بن الوليد وأبوالعتاهية ومن إليهم من دعاة التجديد، حيث ثاروا على الاتجاه المحافظ وطرقوا موضوعات جديدة بأسلوب جديد، خالفوا فيه طريقة القدماء في بناء القصيدة.
عرف الأندلس هذا الاتجاه على يد عباس بن ناصح حيث نقله من المشرق. وتمثل الاتجاه المحدث في الأندلس باهتمامه بأغراض لم تكن قائمة بذاتها في القصيدة من قبل. فظهرت الخمريات والغزل الشاذ والمجون والزهد، كل ذلك في أسلوب قصصي لا يخلو من روح الدعابة والسخرية. أما صوره فتتألّف من عناصر حضرية في لغة يسيرة الألفاظ وإيقاع يميل إلى البحور القصيرة والقوافي الرقيقة.
وجد هذا الاتجاه صدى واسعًا في الأندلس، إذ إن حياة الأندلس انفتحت على لون من الترف ودعة العيش، فكثرت مجالس الموسيقى والغناء بفضل ما أدخله زرياب من ألحان وآلات، ثم بفضل مالقيه من الحكام من تشجيع وعناية. فتلقى الشعراء هذا الاتجاه بالإعجاب لأنه أصدق في التعبير عن واقعهم وعن حياتهم التي غمرها الترف ورقة العيش. ويعد الشاعر يحيى بن حكم الغزال من أشهر رواد الاتجاه المحدث. 3- الاتجاه المحافظ الجديد. ظهر هذا الاتجاه في المشرق بسبب تطرف الاتجاه المحدث ومن ثم هو محاولة لإعادة الشعر العربي إلى طبيعته وإلى موروثه دون جمود أو بداوة. عمد هذا الاتجاه إلى الإفادة من رقي العقل العربي بما بَلَغَتْه الثقافة العربية الإسلامية من نهضة واسعة في مجتمع توفرت له أسباب الحضارة. وكان هذا الاتجاه محافظًا في منهج بناء القصيدة ولغتها وموسيقاها، وكذلك في قيمها وأخلاقها وروحها، ولكنه مجدد في المضمون وفي معاني الشعر وصوره، وكذلك في أسلوبه. ويمثل أبو تمام والبحتري والمتنبي دعائم هذا الاتجاه في المشرق. وقد عرفت الأندلس هذا الاتجاه على يد نفر من الأندلسيين رحلوا للمشرق وعادوا للأندلس بأشعار البحتري وأبي تمام. وكانت فترة الخلافة هي ذروة نضجه، إذ كان المجتمع الأندلسي في هذه الفترة قد تجاوز الانبهار بالمستحدثات الحضارية التي بهرت شعراء القرن الثاني، فعبروا عنها في لهو ومجون وتمرد. ولكن في القرن الثالث كان المجتمع الأندلسي أكثر استقرارًا وتعقلاً ومن ثم وجد الاتجاه المحافظ قبولاً وأصبح هو الصورة المثلى للشعر الفصيح متجاوزًا الاتجاهين القديم والمحدث.
تأثرت أشعار الأندلس منذ القرن الثالث بهذا الاتجاه في المنهج والروح والأفكار واللغة والموسيقى والصياغة والأسلوب. وأضحى شعر أعلام المشارقة هو النموذج الذي يحتذى. ومن أعلام هذا الاتجاه في الأندلس ابن عبد ربه وابن هانئ والرمادي وغيرهم.
أغراض الشعر الأندلسي. عالج شعراء الأندلس مختلف أغراض الشعر وإن تميزت بعض الأغراض باهتمام أكثر من غيرها. ويمثل الشعر خاصة أحد جوانب الحضارة العربية الأندلسية، فقد عبر عن قوالب تلك الحضارة وعن مضمونها، كما عبر عن طبيعة الصراعات السياسية والتغيّرات الاجتماعية في الأندلس.
ومن أهم الأغراض التي عالجها الشعر الأندلسي الغزل، وأوضح سماته تلك الرقة في العواطف المعبّر عنها في رقة البيان. وكان للحياة الأندلسية دور إيجابي في طبيعة شعر الغزل، فهو غزل حسّي يقف عند حدود الوصف المادي مستعيرًا، أوصاف المحبوب من البيئة حوله. وبالرغم من ذلك فهناك من اتخذوا الغزل العفيف مذهبًا لهم، كابن فرج الجياني الذي يقول:
وطالعة الوصال صددت عنها وما الشيطان فيها بالمطاع
بدت في الليل سافرة فباتت دياجي الليل سافرة القناع
فملّكت الهوى جمحات قلبي لأجري في العفاف على طباعي
ومن أهم سمات الغزل الأندلسي ارتباطه بمجالس اللهو والخمر وتعبيره عن تلك الحياة اللاهية. ومن ثم لم يسلم الغزل من ألفاظ نابية، خاصة في عصر ملوك الطوائف حين أسَفَّ في معانيه معبّرًا عن مستوى ماجن.
كما كان الغزل الشاذ غرضًا شعريًا له رواده، وإن لم يكثروا منه، كأبي نواس في المشرق مثلاً. وبالمثل يبدو تأثير البيئة في الغزل بالفتيات النصرانيات وذكر الكنائس والأديرة والرهبان والصلبان وما إلى ذلك من معطيات البيئة الأندلسيّة.
وأجمل مافي الغزل الأندلسي بجانب لطف التعبير، أن الصادق منه شديد التأثير خاصة حين يبكي الشاعر ويحن في إيقاع غير متكلف. ويمثل ابن زيدون قمة هذا الاتجاه خاصة في قصائده إلى وَلادَة بنت المستكفي، ومن أجملها قوله في نونيّته:
تكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
حالت لفقدكم أيامنا فغدت سُودًا وكانت بكم بيضًا ليالينا
ومن أشهر شعراء الغزل في الأندلس ابن زيدون وابن سهل الإسرائيلي وابن شُهَيْدِ، وإن كان كل الشعراء قد أدلوا بدلوهم في شعر الغزل.
أما شعر المدح فكان موجهًا إلى الأمراء والخلفاء والحكام. ويتناول جانبين من حياتهم: أولهما الصفات التي يخلعها الشاعر على ممدوحه من شجاعة ووفاء وكرم، والجانب الثاني انتصارات الممدوح التي هي نصر وعزٌ للإسلام والمسلمين، ثم وصف لمعاركهم الحربية.
ويتراوح أسلوب المدح بين الجزالة والسهولة، والفخامة والرقة، وفقًا لطبيعة المعاني المعبّر عنها. ولكنه بوجه عام يميل إلى التأنق في العبارة والصياغة. وقد تختلف طريقة بناء قصائد المدح بين شاعر وآخر. فبعضها كان ينهج نهج الأقدمين، فيبدأ بمقدمة طللية ونسيبٍ ووصف للرحلة ثم يتخلص إلى المدح، بينما نجد من الشعراء من يعمد إلى موضوعه مباشرة دون مقدمات. ويقدم صنف ثالث بين يدي ممدوحه شيئًا من الغزل أو وصف الطبيعة أو مجالس الخمر أو الشكوى والعتاب، وعقب ذلك ينتقل إلى المدح.
ومن أشهر شعراء الأندلس في هذا الغرض الشعري ابن حمديس وابن هانئ وابن زيدون وابن دراج القسطلي. ولا نجد من الشعراء المحترفين شاعرًا لم يعالج هذا الغرض.
يقول ابن حمديس مادحًا الأمير أبا الحسن علي بن يحيى:
تُفشي يداك سرائر الأغماد لقطاف هام واختلاء هوادي
إلاّ على غزوٍ يبيد به العِدى لله من غزو له وجهاد
ما صونُ دين محمد من ضَيْمِه إلاّ بسيفك يوم كلِّ جلاد
وطلوع راياتٍ وقود جحافل وقراع أبطال وكرِّ جياد
ويقول ابن هانئ مادحًا إبراهيم بن جعفر:
لا أرى كابن جعفر بن عليّ ملكًا لابسًا جلالة مُلْك
مثلُ ماء الغمام يندي شبابًا وهو في حُلّتي تَوَقٍّ ونُسك
يطأ الأرض فالثرى لؤلؤ رطـ ـب وماء الثرى مُجَاجة مسك
ويقول ابن زيدون للوليد بن جهور:
للجهوريِّ أبي الوليد خلائق كالروض أضحَكه الـغمام الباكي
مَلِكٌ يسوس الدهرَ منه مهذبٌ تدبيره للمُلك خيرُ مِلاك
جارى أباه بعد ما فات المدى فتلاه بين الفوت والإدراك
أما شعر الرثاء في الأندلس، في معناه التقليدي، فلم يكن من الأغراض الرائجة، وظل يحذو حذو نماذج الشعر المشرقي حين يستهلّ برد الفواجع ووصف المصيبة التي حلت بموت الفقيد. وعادة تستهل القصيدة بالحِكَم وتختتم بالعظات والعبر.
أما رثاء المدن والممالك فهو الغرض الأندلسي الذي نبعت سماته وأفكاره من طبيعة الاضطراب السياسي في الأندلس. وكان مجال إبداعٍ في الشعر الأندلسي. وقد ظلت قصيدة أبي البقاء الرَّنْدِي التي مطلعها:
لكل شيء إذا ماتم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان
ورائية ابن عبدون:
الدهر يفجع بعد العين بالأثر فما البكاء على الأشباح والصور
وسينية ابن الأبَّار:
أدرك بخيلك خيل الله أندلسا إن الطريق إلى منجاتها درسا
عدا ما قيل في مراثي بني عبّاد ووزيرهم المعتمد، ظل كل ذلك من عيون الشعر العربي عامة والأندلسي خاصة.
تبع الشعر الأندلسي الشعر المشرقي في هذا اللون من التعبير، وإن كان شعراء الأندلس، لعناية الأندلس بالفلسفة، قد حققوا قدرًا ملحوظًا من العمق في المعنى والبراعة في التصوير حين يتناولون موضوعات في الحكمة. فقد كان من شعراء الأندلس من طوعوا الفلسفة للشعر والشعر للفلسفة، فصوروا الخواطر النفسية والتأملات الفكرية مما يُعد مجال إبداع في هذا اللون من الشعر. ونمثل لهذا الغرض بقول أمية بن عبد العزيز:
وما غربة الإنسان في غير داره ولكنها في قرب من لايشاكله
أو قول الآخر:
تفكر في نقصان مالك دائمًا وتغفل عن نقصان جسمك والعمر
ويقول الشاعر الغزال:
أرى أهل اليسار إذا تُوُفُّوا بَنوا تلك المقابر بالصخور
أبوْا إلاّ مُبَاهاة وفخرًا على الفقراء حتى في القبور
إذا أكل الثرى هذا وهذا فما فضل الغنيّ على الفقير
أما الزهد والتصوف والمدائح النبوية؛ فلعل حياة الدعة والترف والمجون التي غرق فيها المجتمع الأندلسي، أدت إلى اتجاه معاكس، يفسر نزعة الزهد والتصوف التي راجت في الشعر الأندلسي. فالأندلسيون تفوقوا على الـمَشَاِرقَة في هذا الغرض، غزارةً في الإنتاج وتوليدًا للمعاني ورسمًا للصور المؤثرة القوية. ويلفت النظر أن عددًا من شعراء الأندلس أدركتهم التوبة بعد طول حياة لاهية، فوجهوا طاقتهم الشعرية في آخر أيامهم إلى طلب مغفرة الله ومرضاته وإلى ذم حياة اللهو والمجون والدعوة إلى الزهد والتقشف. ومن أشهرهم في هذا المقام ابن عبدربه وابن حمديس والغزال. يقول ابن عبدربه:
إنّ الذين اشتروا دنيا بآخرة وشقوة بنعيم، ساءَ ما تجروا
يامن تلهىَّ وشيب الرأس يندبه ماذا الذي بعد وَخْطِ الشيب تنتظر
لو لم يكن لك غير الموت موعظة لكان فيه عن اللذات مزدجر
وأما التصوف فقد اشتهر به من شعراء الأندلس أعلام على رأسهم شيخ المتصوفين ابن عربي وابن سبعين وابن العريف والشستري وغيرهم.
وقد وجه الشعر الأندلسي طاقة كبيرة للتغني بمدائح الرسول ³، وكان أهل الأندلس قاطبة يحنون إلى الحجاز وإلى مهبط الوحي وإلى المدينة المنورة. وقد اتسع المديح النبوي منذ القرن السادس الهجري وأصبح من أغراض الشعر الأندلسي المقدَّمة، وكان من أسباب ذلك إحساس أهل الأندلس بضيعة الإسلام، عندما تكاثرت عليهم جيوش النصارى، فاتخذوا من الشعر أداة للاستغاثة بالرسول الكريم وكانوا يرسلون القصائد إلى القبر النّبوي الشريف واصفين محنهم وأذاهم.
ومن أشهر هؤلاء الشعراء أبو زيد الفازازي وابن جابر الأندلسي وأبو الحسن الرُّعَيْني وغيرهم من شعراء الأندلس.
وكثر شعر الطبيعة والخمر، وكان لطبيعة الأندلس الأثر الحاسم في جعل هذا الغرض من أميز أغراض الشعر الأندلسي. وتمثل طبيعة الأندلس الملهم الأول لشعراء الأندلس، خاصة أن مجالس الخمر واللهو والغناء كانت تقام في أحضان هذه الطبيعة. وقد عبّر ابن خفاجة، أشهر شعراء الطبيعة في الأندلس، عن هذه الصلة، فقال:
يا أهل أندلس لله درُّكمُ ماءٌ وظلٌ وأنهار وأشجار
ما جنة الخلد إلاّ في دياركمُ ولو تخيرت هذا كنت أختار
ويتَّسِم هذا اللون من الشعر بإغراقه في التشبيهات والاستعارات وتشخيص مظاهر الطبيعة وسمو الخيال. كما كان يقوم غرضًا مستقلاً بذاته ولا يمتزج بأغراض أخرى، وإن امتزج بها لم يتجاوز الغزل أو مقدمات قصائد المدح.
ويعد معظم شعراء الأندلس من شعراء الطبيعة. فكل منهم أدلى بدلوه في هذا المجال، إما متغنيًا بجمال طبيعة الأندلس، أو واصفًا لمجالس الأنس والطرب المنعقدة فيها، وإما واصفًا القصور والحدائق التي شُيدت بين أحضان الطبيعة. ولذلك كان كل شعراء الأندلس ممن وصفوا الطبيعة.
ويُعدُّ الشاعر ابن خفاجة الأندلسي المقدَّم بين هؤلاء الشعراء، إذ وقف نفسه وشعره على التغني بالطبيعة لا يتجاوزها وجعل أغراض شعره الأخرى تدور حولها.
النثر. تماثل حالة النثر في الأندلس حالته في المشرق إلى حد بعيد. فالتأثير الفكري والفني بين الأندلس والمشرق كان متبادلاً. وكانت رحلة العلماء والأدباء ضرورة علمية يُحرص عليها. ومن ثم اتفق المشرق والأندلس في طبيعة الموضوعات والأساليب فعرف الأندلس طريقة الجاحظ في الكتابة، وبديع الزمان الهمذاني والحريري في المقامات، وابن العميد والقاضي الفاضل في الترسل. ونحاول في إيجاز التَّعريف بأهم الفنون النثرية التي راجت في الأدب الأندلسي.
الرسائل الديوانية. احتاجت الدولة الأندلسية إلى هذا اللون من الرسائل الذي عُني بالمضامين السياسية والإدارية والتشريعية والاقتصادية والاجتماعية وما إليها من مهام تتطلبها الدولة وهي تصدر من ديوان الحكم، يكتبها الحاكم بنفسه أو يكتبها عنه كاتبه، وتمثل المنشورات الرسمية التي ترسم سياسة الدولة ومن هنا كانت مادتها تشمل مختلف أمور الدولة ونظمها.
وهي عندما تصدر عن الكتاب المحترفين تتخذ أسلوبًا لا يخلو من الصنعة والتأنق والمحسنات، أما عندما يكتبها الأمراء أنفسهم فتكون عادة مباشرة تخلو من الزخرفة والصنعة.
وتُعد العهود من باب الرسائل الديوانية. وقد برع ابن برد الأكبر في هذا اللّون من الترسل، وبلغ عددٌ من كتاب الأندلس ذروة فنية بسبب هذا اللون من الرسائل. وكان التنافس بينهم حادًا. كما كان الأمراء يحرصون على أن يكون في بلاطهم أهل البلاغة والفصاحة من الكُتَّاب. وعلى كلٍّ فقد كانت الرسائل الديوانية من أوسع أغراض النثر في الأندلس، وأدت ببعض الكتاب ممن عرفوا بذوي الوزارتين، إلى تسنم مرتبة الوزارة والحكم.
الرسائل الإخوانية. هي ذلك اللون المتبادل بين الكتاب بعيدًا عن الطابع الرسمي، أو يعالج أغراضًا تحمل الطابع الذاتي من تهنئة وتعزية وشكر واعتذار وعتاب وما إلى ذلك من العلاقات الاجتماعية بين الإخوان. وهي تعكس جانبًا من الحياة الاجتماعية والفكرية والأدبية في الأندلس. وقد حفل كتاب الذخيرة بطائفة منها وهي لا تختلف كثيرًا عن نمط رصيفتها في المشرق.
الرسالة الأدبية. هي ذلك اللون من الترسل الذي يؤدي موضوعات كانت من قبلُ وقفًا على الشعر. وأسلوبها لا يخلو من سخرية أو وصف أو عاطفة، كما ينقل إلى النثر أهم أدوات الشعر من خيال وتصوير. هذه الرسائل تحتوي على نظرات في الحياة والأحياء وحكم عن النفس وموقف من المجتمع.
وتُعد رسالة التوابع والزوابع لابن شهيد، بما فيها من خيط قصصي، من أهم الرسائل الأدبية في الأندلس. انظر: التوابع والزوابع. وكذلك رسالتا ابن زيدون الرسالة الجدية و الرسالة الهزلية، ثم رسالة ابن برد الأصغر البديعة في تفضيل أُهُب الشاة.
هذا اللون من الرسائل جاء متأثرًا برسالة الجاحظ التربيع والتدوير، وكذلك بكتابه البخلاء حيث يضفي على الموضوع اليسير روحًا من الجد والوقار.
رسائل المناظرات والمفاضلات. هي تلك الرسائل التي تُعنى بطرح الأدلة والجدل والحوار داخل إطار من الفلسفة والمنطق والاستدراك، وغرض الكاتب إظهار براعته مستفيدًا من ثقافته، وقدرته على الصياغة والاستدلال. وتُعد رسالة ابن برد الأصغر رسالة السيف والقلم من أميز هذه النماذج في النثر الأندلسي. وموضوعها مناظرة بين دعامتي الدولة: المحارب والكاتب. كل منهما يرى أنه المُقدم في تدعيم أركان الدولة، وكل فريق يؤيّد وجهة نظره بما يلتمسه من الأدلة والبراهين.
وتُعد أيضًا رسائل الورود التي جاءت على ألسنة الكتاب كلٌ يفضّل وردًا أو زهرًا بعينه، من هذا اللون من رسائل المناظرات. وقد كتب عدد من كتاب الأندلس في هذا النهج، ومن أهمهم أبو الوليد حبيب الحميري وابن برد الأصغر وأبو عمر الباجي وأبو مروان الجزيري. وكل من هؤلاء الكتاب اتخذ من ورد أو زهر معين رمزًا لأميره أو لولي نعمته، وجعل من تفرّد هذا الورد بين الورود نظيرًا لتفرد أميره بين الأمراء. كما تشف هذه الرسائل عن الصراع والحسد في بلاط الأمراء، ولها من المعاني الرمزية ما يحتمل مختلف التفسيرات. وهي في كل أحوالها تدل على قدرة النثر الأندلسي حين اتخذ كُتابه من الطبيعة ومظاهرها موضوعًا للجدل بدلاً من الجدل حول شؤون القصيدة كما كان الأمر في المشرق.
ولعل استغراق الطبيعة لأهل الأندلس وحبّهم لمظاهرها جعل من الموضوع منافسة أدبية، وظّف الكتّاب في شأنها براعتهم بأساليب الجدل والمناظرة. وقد تأتي رسائل المناظرات على نحو سياسي أو شعوبي مثل رسالة ابن غرسيه التي يفضل فيها العجم على العرب. وقد أثارت ردودًا كثيرة وأضحت من أشهر الرسائل الأدبية في الأندلس، فرد عليها ابن البلنسي و ابن من الله القروي وغيرهما.
ومن رسائل المناظرات والمفاخرات تلك التي كانت بين المدن الأندلسية. ومن أهم هذا النمط من الرسائل ماكتبه لسان الدين بن الخطيب، وكذلك رسالة ابن حزم الأندلسي في فضل علماء الأندلس، ورسالة أبي بحر بن إدريس بين المدن الأندلسية.
المقامات. تنقسم المقامات الأندلسية إلى نمطين: النمط التقليدي وهو حكايات قصيرة يسودها شبه حوار، وقوامها بطل وراو وعقدة، ويتبع نموذج بديع الزمان الهمذاني في المشرق. انظر: المقامات. والنمط الثاني غير تقليدي، وهو أقرب للرسالة، وقد يأتي في قالب قصصي أو غير قصصي، وقد يكون فيه بطل وراوٍ وعقدة أو لايكون.
عرفت الأندلس المقامة من خلال حركة المد الثقافي بين المشرق والأندلس. فانتقلت المقامة إلى الأندلس في عهد ملوك الطوائف وعارضها عدد من أدباء الأندلس مقلدين بديع الزمان الهمذاني. ثم انتشرت مقامات الحريري في الأندلس وعُني بها علماء الأندلس وأهل الأدب عناية واسعة، وقام أبو العباس الشريشي الأندلسي بشرح مقامات الحريري في أهم شروحها الثلاثة المسماة الكبرى والوسطى والصغرى.
وأهم كاتب أندلسي حذا حذو المقامة المشرقية التقليدية أبو طاهر محمد التميمي السرقسطي بمقاماته المسماة المقامات اللزومية، نسبة إلى كاتبها. وقد عالجت هذه المقامات مختلف الأغراض والموضوعات سياسيّها واجتماعيّها وخلقيّها وأدبيّها. وكان لها راوٍ وبطل مثل مقامات الهمذاني والحريري. وتُعد مقامة ابن شرف القيرواني التي عالج فيها الحياة الأدبية في المغرب والأندلس على نهج المقامة التقليدية، من أهم هذا اللون من المقامات، وقد بنيت على سياق هرمي من العصر الجاهلي حتى القرن الرابع، وذكر فيها مايربو على الأربعين شاعرًا، وكان يقارن بين شعراء المغرب والمشرق. كما نجد مقامة عبد الرحمن بن فتوح وهي نص قصير أورده صاحب الذخيرة مبتسرًا، ويُعد موضوعها من موضوعات النقد الأدبي.
أما المقامات غير التقليدية، وهي التي تفتقد البطل والراوي، فكان من أهم موضوعاتها المدح الخالص، مثل مقامة أبي عامر بن أرقم في الأمير تميم بن يوسف بن تاشفين حاكم المرابطين، وكذلك مقامة الوزير أبي الوليد محمد بن عبد العزيز المعلم، والأرجح أنها في مدح المعتـضد ابن عباد. هذه المقامات أقرب ما تكون إلى قصائد مدح منثورة تحل الشعر تارة وتعقد النثر أخرى، ولا تحفل بعقدة أو حيلة أو بطل أو راوٍ، ولكنها تهتم بإظهار براعة كاتبها في المدح وتلتزم دائمًا اللغة المسجوعة المزخرفة، وتظهر حظ كاتبها من البلاغة والبيان. وهي تمدح القواد والرؤساء ورجال العلم والأدب، كما مدحت الأمراء والحكام. ومن هذا الضرب مقامة أبي بكر يحيى بن محمد الأركشي المسماة قسطاس البيان في مراتب الأعيان، وهي مدح للعلماء وأصحاب المعارف.
وكما اختصت المقامة غير التقليدية في الأندلس بالمدح اختصت كذلك بالهجاء؛ هجاءٌ سافر مرة وفاحش مقذع مرة أخرى. وتُعد المقامة القرطبية المنسوبة إلى الفتح بن خاقان في هجاء الأديب البطليوسي من أشهر مقامات الهجاء في الأدب الأندلسي؛ إذ أثارت حولها جدلاً وتبرأ من كتابتها كل من نسبت إليه. فقد نسبت إلى عبدالله بن أبي الخصال وتبرأ منها، كما نسبت إلى ابن خاقان فتبرأ منها. وكتب الوزير أبو جعفر بن علي رسالة سمّاها رسالة الانتصار في الرد على صاحب المقامة القرطبية، وهي رسالة تسلك مسلك مقامات الهجاء. ولعل الغريب في أمر هذه المقامة القرطبية أن البطليوسي نفسه لم يرد عليها. وأعجب من ذلك أن أبا الحسن المرسي كتب مقامة هجاء قائمة بذاتها في البطليوسي، ويبدو أن البطليوسي اختص بعداء أهل زمانه. أما المقامة التي يُجهل كاتبها وهي في ثلب بن الرياحي فتعد أقذع مقامات الهجاء في الأندلس، ففيها إسفاف وفحش في القول وسلاطة لسان.
ومن أغراض المقامات غير التقليدية غرض المشاهدات ووصف الطبيعة في الأندلس. وكان لسان الدين بن الخطيب أشهر كتاب المشاهدات في مقامته خطرة الطيف في رحلة الشتاء والصيف، فهي تصف الطبيعة في أحوالها المتقلبة، كما تقف على المدن الأندلسية وتصفها وصفًا يتجاوزها إلى عادات الناس وأخلاقهم ومأكلهم وملبسهم. وأهمية مقامات المشاهدات أنها تعطي صورة صادقة للحياة الاجتماعية في الأندلس، فتصف الأعياد والاحتفالات ومشاركة المرأة للرجل، كما تتحدث عن قسوة الحياة في بعض الأقاليم ورخائها في أخرى، ثم فن العمارة وحضارة الأندلس. وقد تتناول ترجمات لمشاهير الفقهاء والعلماء والقضاة ورجال الأدب. وقد كتب ابن الخطيب مقامة أخرى على هذا النسق هي معيار الاختيار في ذكر المعاهد والديار. ومثلها مقامة طيّ المراحل التي كتبها أبو عبد الله محمد بن مسلم.
أما مقامات المفاخرات فكانت تتخذ من المدن أكثر موضوعاتها، وقد تتخذ موضوعات من غير المدن، وإن كانت مفاخرات المدن هي أشهرها، مثل مشاهدات ابن الخطيب في مفاخرات ملقا وسلا، ومقامة الفقيه عمر الزجال مقامة في أمر الوباء، وهي مفاخرة بين مدينتي الحمراء وملقا، ثم مقامة أبي الحسن علي بن عبد الله النباهي المسماة المقامة النخلية، وهي مفاخرة هذه المرة بين نخلة وكرمة، يتخذ فيها النخلة رمزًا للعرب والإسلام والكرمة لليهود وغير المسلمين، مبينًا هَوَانَ أمر العرب والإسلام أيام دولة الأندلس بغرناطة حين صارت الأمور بأيدٍ غير عربية.
حفلت فترة ملوك الطوائف بألوان من هذه الصراعات بين رجال السيف والقلم كما عبر عنها ابن برد، أو حين اتخذت الأزهار والورود لمعانٍ رمزية. ولكن الأمر بلغ ذروته حين اكتسى ثوبًا شعوبيًا صريحًا في رسالة ابن غرسيه التي ذم فيها العرب وفخر بقومه العجم، فرد عليه أبو جعفر البلنسي و ابن من الله القروي و عبدالله بن أبي الخصال، وإن كانت هذه الردود أدخل في دنيا الرسائل الأدبية منها في دنيا المقامات.

العصر الحديث

رواد الأدب العربي
تطور الأدب وازدهاره. بلغ الأدب العربي في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي أدنى مستوياته شعرًا ونثرًا إذا قيس بما كان عليه منذ العصر الجاهلي وخلال العصور الإسلامية المتتالية. وظهرت منذ نهاية القرن الثامن عشر الميلادي عدة عوامل، أدَّت دورًا في تطور الأدب ونهضته، فأخذ يخرج من تلك الوهدة وينفض غبار التخلف ويستوي قويًا مرة أخرى. ويمكن حصر تلك العوامل التي ساعدت على نهضة الأدب العربي في العصر الحديث في الآتي:
الحركات الدينية. نهضت حركات الإصلاح الدينية الحديثة قبل أن يتصل العالم الإسلامي بأوروبا وحضارتها. فخلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بدأ عددٌ من رواد الإصلاح الديني يدركون أن الأمر لن يعود إلى ما كان عليه إلا إذا رد للإسلام اعتباره وعاد مسلمو العصر الحديث إلى جوهر عقيدتهم. واجتمع هؤلاء الرواد عند الشعور بضعف حال المسلمين وفرقتهم وخلافهم وأدركوا أن العلاج في التمسُّك بكتاب الله وتعاليم دينهم وتنقية الدين من الشوائب والبدع وإحياء الإسلام الصحيح.
وكان على رأس هذه الدعوات الإصلاحية دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب في نجد، والشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني في مصر والشيخ عبدالرحمن الكواكبي في الشام، والدعوة السنوسية في شمال إفريقيا والدعوة المهديّة في السودان وغيرها. وقد التقت تلك الدَّعوات في الهدف والغاية، وإن اختلفت أساليبها. فجميع أولئك الدُّعاة، سعوا إلى إصلاح أمر المسلمين ورفع راية الإسلام.
ظهر أثر تلك الدعوات في الأدب العربي الحديث في موضوعات الشعر ونثره، فلم يخلُ ديوان شاعر من شعراء تلك الفترة، بين النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، من الدعوة إلى جمع شمل المسلمين وإعلاء كلمة الإسلام ونبذ الفرقة. وكانوا يرون أن الخليفة العثماني هو الرمز لوحدة المسلمين، والقادر على إعلاء كلمة الدين. وعلى كل فقد استطاعت هذه الحركات الدينية المعاصرة إيقاظ الشعور الديني والوطني وبث دماء جديدة في شرايين الأدب العربي.
الاتصال بالغرب. اتخذ الاتصال بين الشرق والغرب صورًا متعددة، وكان أول الهزات العنيفة التي أيقظت العرب والمسلمين غزو فرنسا لمصر، الذي كان بداية الاتصال بين الشرق والغرب، وتجلت صوره في التعليم، حيث حظي بجهود من حملة نابليون على مصر والشام، فأرسل بعض العلماء المصريين لفرنسا وعادوا للعمل بالتدريس. وأنشأ محمد علي والي مصر عددًا من المدارس المدنية التي أخذت تزداد وتتنوع تخصصاتها ويُبعث خريجوها إلى أوروبا. وأخذ النشاط التعليمي الطراز الأوروبي، فأُنشئت الجامعة الأهلية المصرية عام 1908م. وامتدت حركة التعليم ومؤسساته من لبنان ومصر إلى تونس وليبيا والجزائر والمغرب، ولكن ظل التأثير الثقافي الأوسع مدى محصورًا في الشام ومصر. كما تجلت صوره أيضًا في الترجمة، التي كانت جزءًا لا ينفصل عن حركة التعليم، حيث أدت دورًا مقدرًا في نقل ثقافة الغرب إلى اللغة العربية. وكان للبعثات التي أرسلها محمد علي أثر في ازدهار هذه الحركة. وكان إنشاء مدرسة الألسن لتخريج المترجمين عام 1836م عملاً مهمًا. كما أنشئت مدارس للعلوم والزراعة والفنون والصنائع وغيرها.
استطاعت حركة التعليم والترجمة أن تسهم في بعث الأدب العربي الحديث حين ترجمت أعمال أدبية غربية، من مسرحيات موليير و وولتر سكوت وفيكتور هوجو وشكسبير وغيرهم، فاتصل ذلك النشاط ببدايات القصة والمسرحية في الأدب العربي، كما عرف الشعر اتجاهات فنية غربية جديدة ونظريات نقدية. وبذلك قدم المترجمون روائع الأدب الغربي؛ شعره ونثره ونقده، إلى قراء الأدب العربي. ومن صور الاتصال بين الشرق والغرب أيضًا حركة الطباعة والصحافة، حيث عرفت البلاد العربية المطبعة في عهد نابليون، ثم أنشأت بعض بعثات التنصير في لبنان مطابع خاصة بها. ولكن مطبعة بولاق التي أنشأها محمد علي في مصر عام 1821م والمطبعة الأمريكية في بيروت عام 1834م وكذلك اليسوعية ببيروت عام 1848م، هذه المطابع كان لها أعظم الأثر في نشر الثقافة الحديثة مترجمة ومؤلفة في العالم العربي. وقد اختصت مطبعة بولاق بنشر روائع التراث العربي الإسلامي، فقللت التكلفة الباهظة للكتب، وجعلها في متناول اليد، وبأسعار زهيدة.
وكان من أثر تأسيس المطابع ظهور الصحف والمجلات، فصدرت الوقائع المصرية (1822م) وغيرها من الصحف والمجلات اليومية والدورية. ولمّا بدأت الأحزاب السياسية في الظهور، أدَّت الصحافة والفن الصحفي دورًا كبيرًا في ذلك، وأصبح لكل حزب منبر صحفي يُعنى بالسياسة، كما يقدم المعرفة في المجالات الأدبية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية.
وكانت تلك الصحف المنبر الحقيقي لبعث الحركة الفكرية والأدبية في الأدب العربي الحديث. وكان من فرسانها طه حسين والعقاد والمازني، ومن الشعراء أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وخليل مطران. وما تزال مجلات مثل المقتطف والهلال والرسالة والثقافة من وسائل الوعي الثقافي ونهضته في البلاد العربية.
حركة إحياء التراث العربي الإسلامي. تكوَّنت جمعيات أهلية بنهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين الميلاديين، جعلت مهمتها إحياء التراث العربي ونشره. فأشرفت مجموعة من علماء الأزهر على مطبعة بولاق واختاروا طائفة من مخطوطات التراث، وعملوا على نشرها. فظهر لسان العرب لابن منظور وكتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ودواوين الحماسة ودواوين شعراء فحول العصر الأموي والعباسي وغير ذلك من عيون مؤلفات المكتبة العربية.
ولما تأسست لجنة التأليف والنشر والترجمة بالقاهرة ساهمت في حركة إحياء التراث ونشره. وكذلك أسهمت مطبعة الجوائب التي أنشأها أحمد فارس الشدياق في نشر كتب التراث.
المجامع العلمية اللغوية. أدت هذه المجامع منذ إنشائها دورًا كبيرًا في مدّ الجسور العلمية بين الحضارة العربية والحضارة الغربية. وكان أول مجمع علمي ذلك الذي أسَّسه نابليون أثناء حملته، وجعل فيه فروعًا للرياضيات والفيزياء والآداب والفنون، وجعل أهم أهدافه نشر علوم أوروبا وفنونها في مصر. انظر: المجامع اللغوية. وفي عام 1835م تأسست الجمعية المصرية وغايتها إنشاء مكتبة ضخمة، وحين جُمّد نشاطها أسَّست مجموعة من علماء الإسكندرية مجلس المعارف المصري بالإسكندرية عام 1859م، وبعد ذلك تتابع تأسيس هذه الجماعات والمجامع، وكان من أشهرها جمعية مصر الفتاة، وفي بيروت قامت جمعية المقاصد الإسلامية عام 1880م.
وهدف هذه الجمعيات توحيد جهود العلماء والأدباء وتنظيمها بجعلهم يتعاونون في مجال التخصص الواحد ويتبادلون الآراء، وكان من ثمار هذه الجمعيات جماعات أدبية وفكرية جديدة من أهمها جماعة أبولو 1932م. انظر: الشعر.
حركة الاستشراق. رغم أن حركة الاستشراق بدأت أول أمرها لتمكن المستعمر من تدبير شؤونه في البلاد المستعمرة، عن طريق اتصاله بأدبها ولغتها ونفسيات أهلها، إلا أن هذه الحركة انتهت بإنشاء جمعيات علمية يقوم على أمرها علماء متخصصون في مجال التاريخ والاقتصاد واللغات والأدب.
وتعد الجمعية الآسيوية الملكية بلندن (1722م) ونظيرتها الفرنسية (1820م) أشهر هذه الجمعيات، وكان لكل منهما مجلة مشهورة وجهود في نشر المخطوطات وترجمة عيون الكتب العربية إلى اللغات الأوروبية.
تبع حركة الاستشراق تأسيس معاهد اللغات الشرقية التي من أشهرها مدرسة اللغات الشرقية بلندن وباريس وبرلين. كما اهتمَّت حركة الاستشراق بإنشاء المكتبات ومراكز المخطوطات.
وأدت تلك العوامل الإيجابية، من نشاط ثقافي وعلمي واتصال بالغرب عن طريق التعليم والترجمة والطباعة والنشر، ثم حركة إحياء التراث العربي والإسلامي، بجانب إنشاء المجامع العلمية واللغوية، ثم دور حركة الاستشراق، دورًا مهمًا في تطور الأدب وازدهاره، شعرًا ونثرًا، في العصر الحديث.
شعراء العصر الحديث
الشعر في العصر الحديث. ظل الشعر في العالم العربي قبل عصر النهضة، يحذو حذو تلك النماذج التي كانت سائدة خلال العصر العثماني، سواءٌ في صياغته الركيكة، أو أساليبه المتكلفة المثقلة بقيود الصنعة، أو في موضوعاته التافهة، أو في أفكاره المتهافتة، أو في معانيه المبتذلة. وعلى الرغم من ظهور بعض الشعراء أصحاب الصوت الشعري القوي المعبِّر، إلا أنهم كانوا قلة في خضم الضحالة السائدة في مملكة الشعر. ومن هذه الأصوات الشعرية القوية حسن العطار في مصر (1766 - 1835م) وبطرس البستاني في لبنان (1774- 1851م) وشهاب الدين الألوسي في العراق (1802 - 1854م) وغيرهم.
وظهرت مع النصف الثاني من القرن التاسع عشر بدايات نهضة فنية في الشعر العربي الحديث، واستمرت هذه الحركة في القوة والاندفاع حتى سادت خلال القرن العشرين. وانتقل الشعر نقلة كبرى خرجت به إلى عوالم أرحب وأوسع، فتنوعت اتجاهاته ومدارسه، وأدَّت مدارس الشعر في العصر الحديث مثل مدرسة الإحياء والديوان وأبولو والمهجر والمدرسة الحديثة دورًا مقدرًا في بلورة اتجاهات الشعر والخروج بها من التجريب والتنظير إلى التطبيق والانطلاق. انظر: الشعر.
ويُعد الشاعر محمود سامي البارودي (1839 - 1904م) رائد حركة الإحياء في الشعر العربي الحديث غير منازع. وأدى تلاميذه من بعده، أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وأحمد محرم ومن سلك مسلكهم، دورًا كبيرًا في بعث الحياة والفن معًا في بنية القصيدة العربية. وكانت ريادة هؤلاء النفر العامل الفاعل في تطور الشعر العربي في العصر الحديث وإعادته لعصره الذهبي، فهم بعدوا بالشعر عن تلك الأساليب الركيكة المبتذلة، حين نفثوا فيه قوة وإشراقًا، هي صنو لإشراق اللغة العربية وقوتها بعد جمودها، قبل عصر النهضة في تلك القوالب ذات الصيغ المزركشة المصطنعة.
وفق هذا الجيل إلى مد جسر فكري فني شعري يربط الماضي بالحاضر. فكان بعثهم للقصيدة العربية لايخلو من محافظة على موروثها وقيمها وإيقاعها وأوزانها. فالقصيدة لديهم فخمة الإيقاع، جزلة الألفاظ، قوية التعبير، رصينة المعنى، مواكبة متطلبات العصر وأحداثه.
وجد شعر هذه الفئة من رواد الإحياء والبعث صدى طيبًا في نفوس الشباب، وكان معظم هؤلاء الشباب ممن تفتحت عيونهم وعقولهم على ثقافات أجنبية. ويمثل أحمد شوقي اللبنة الثانية بعد البارودي في نهضة الشعر الحديث. فقد كان متصلاً اتصالاً واعيًا بالأدب العربي القديم، واستطاع أن يحيي نماذجه الرصينة كأشعار البحتري وأبي نواس وغيرهم. ومن هنا كان بعثه للقصيدة العربية الحديثة مستمدًا من إحيائه لنماذج الشعر القديم، وكوّن لنفسه أسلوبًا شعريًا أصيلاً جعله يجمع بين القديم والحديث، ومن ثمّ جاء أسلوبه جزلاً قويًا، فيه رصانة وحلاوة شعرية، وقدرةٌ على احتواء متطلبات عصره والتعبير عنها.
وهكذا حافظ شعراء مدرسة الإحياء على صورة القصيدة العربية من ناحية، كما جعلوها مقبولة ومعبرة عن عصرهم من ناحية أخرى. لكل ذلك استقطب شعرهم اهتمام معاصريهم، فنشرته الصحف، وذاع بين الناس، فتذوقوه لخلُّوه من الغريب والحوشي من اللفظ والزركشة والصنعة في الصياغة فأسر العقول والقلوب. وكان كل ذلك من عوامل تطور الشعر في العصر الحديث وبعثه.
ويظهر مع النصف الأول من القرن العشرين جيل جديد اتصل بالثقافة الأوروبية، والإنجليزية منها بوجه خاص، اتصالاً أعمق من اتصال الجيل الأول. ومن ثم اختلفت رؤيتهم لمهمة الشعر عن تلك التي كانت للجيل السابق، فعابوا على من سبقهم معالجتهم للموضوعات التقليدية التي لا يتجاوزونها. أما جيلهم فيرى أن الشعر تعبير ورصد لحركة الكون وأثرها في الذات الشاعرة، وهو تعبير عن النفس بمعناها الإنساني العام، وتعبير عن الطبيعة وأسرارها، وتصوير للعواطف الإنسانية التي تثور بها نفس الشاعر.
التف هذا الجيل حول حركة نقدية عرفت بجماعة الديوان. وكان أشهر روادها عباس محمود العقاد وعبد الرحمن شكري وإبراهيم عبد القادر المازني. وقد اتخذت مدرسة الديوان من شعر أحمد شوقي ميدانًا لتطبيق نظريتهم النقدية، كما جعلوا من أشعارهم ميدانًا لبث آرائهم ودعوتهم في كتابة الشعر وقيمه وصياغته وأشكاله.
أخذ تأثير الأدب الغربي على الأدب العربي يزداد وضوحًا منذ الثلاثينيات من القرن العشرين حين ظهرت مدرسة نقدية شعرية عرفت باسم جماعة أبولو، أسسها أحمد زكي أبو شادي وكان الشاعر علي محمود طه من أبرز أعضائها.
هذه الجماعة كانت أكثر مناداة بتطوير القصيدة العربية من مدرسة الإحياء ومدرسة الديوان، ويعزى ذلك إلى تأثرها بالمذهب الرومانسي في الشعر الغربي. كما تأثروا بشعراء المهجر أمثال إيليا أبي ماضي وميخائيل نعيمة ونسيب عريضة. وقد تركت مدرسة أبولو أثرًا لا ينكر في عدد من شعراء العالم العربي، فتأثر بها أبو القاسم الشابي من تونس والتيّجانيّ يوسف بشير من السودان وحسن القرشي من المملكة العربية السعودية وإلياس أبو شبكة من لبنان وغيرهم. وعلى يد هذه المدرسة أضحت القصيدة العربية تمتاز بسهولة في التعبير وبساطة في اللغة وتدفّق في الموسيقى، كما غلب على موضوعاتها التأمل والامتزاج بالطبيعة وشعر الحب والغناء بالمشاعر مع نزعة الألم والشكوى.
ويمثل الشعر العربي في المهجر امتدادًا لهذا الاتجاه الرومانسي في الشعر الحديث. فقد قامت في المهجر الأمريكي الشمالي الرابطة القلمية وفي الجنوبي العصبة الأندلسية. وظل شعرهم مثقلاً بهموم الوطن والمناجاة الفكرية والنفسية والتهويمات الصوفية. ومن أشهر شعرائهم إيليا أبو ماضي وميخائيل نعيمة وإلياس فرحات ورشيد أيوب.
أما في الأربعينيات من القرن العشرين فقد أخذت القصيدة العربية شكلها الذي استقرت عليه في قوالب الشعر الحُر، فانتقلت في صياغتها وأفكارها وموضوعاتها، وتعددت أصوات الشعراء، وتنوعت مدارسهم، وكثر عددهم. وكان من فرسان القصيدة الحديثة صلاح عبد الصبور في مصر والسياب والبياتي في العراق، ونزار قباني ونازك الملائكة في سوريا، ومحمد المهدي المجذوب والفيتوري في السودان.
يحمل الشعر الحديث أنماطًا من التعبير في مدرسة الحداثة، ويكتب الشاعران أدونيس ومحمود درويش ألوانًا من الشعر تختلف اختلافًا كبيرًا عما كانت عليه بدايات تطور القصيدة العربية في العصر الحديث، وإذا بالمسافة تبتعد تمامًا بين البارودي وشوقي وبين بلند الحيدري ويوسف الخال ونذير العظمة وأضرابهم.
كتاب العصر الحديث
الـنـثر في العصر الحديث. ظل النثر العربي يعاني حالة من التردي والقصور بدأت منذ عصور الدول الإسلامية المتتابعة وبلغت أوجها في العصر العثماني. وصار اهتمام الأدب والأدباء محصورًا في الصنعة اللفظية، فأكثروا من المحسنات البديعية ووجهوا لها عناية خاصة. وزاد الأمر سوءًا أن تسربت الألفاظ التُّركية إلى اللغة الفصحى، فانحصرت اللغة الفصحى بين طائفة المتأدبين وأهل العلم من شيوخ الأزهر، حين ضعف الحس بالعربية بين فئات المجتمع الأخرى.
ثم بدأت بنهاية القرن الثامن عشر حركة انبعاث في الأدب العربي الحديث أثّرت على الشعر والنثر معًا، وأدت إلى لون من النضج والازدهار. وكان من أظهر عوامل هذه النهضة في النثر الحديث ظهور لون جديد من الكتابة المرسلة المتحررة من إسار السجع وصنعة الجناس وقيود البديع. ويُعد المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي من رواد هذا اللون من النثر. وقد تأثّر بالجبرتي جيل من الكتاب الشباب تخلصوا من ضروب البديع وعمدوا إلى التعبير المرسل وكان من أشهرهم ناصيف اليازجي، وأحمد فارس الشدياق.
نهض النثر عقب ذلك نهضة واسعة، وتحرر تمامًا من تلك القيود البديعية، فسادت بين الكتاب والخطباء أساليب من الفصاحة والبلاغة والبيان تبعد عن التكلف والصنعة، وكان من أقطاب هذه المدرسة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رسائله المشهورة والشيخ محمد عبده في مقالاته الاجتماعية والدينية، ومصطفى كامل في خطبه الوطنية السياسية، والأديب شكيب أرسلان في موضوعاته الأدبية. ويعقب هذا الجيل جيل آخر كان أشد تأثرًا بعوامل النهضة الفكرية والثقافية التي تركت سماتها في الأدب العربي الحديث. وينهض على عاتق هذا الجيل بناء جديد في النثر العربي الحديث كان من أشهر رجاله محمد حُسَيْن هيكل وعباس محمود العقاد وطه حسين وأضرابهم.
ومن العوامل الحاسمة في تطور النثر العربي الحديث وخروجه من وهدة التخلف والركاكة ما صاحب النهضة الأدبية في العصر الحديث من مد جسور الاتصال الفكري والثقافي بين الشرق والغرب عن طريق التعليم والبعثات والترجمة ودور الطباعة ومنشآت الصحف والمكتبات وما إلى ذلك من وسائل ثقافية وفكرية كان النثر فارس ميدانها غير منازع.
ومن أبرز فنون النثر في الأدب العربي الحديث ظهرت ألوان في التعبير ما كان للنثر سابق عهد بها، ومن أهم هذه الفنون:
المقالة. عرف العرب في تاريخهم الأدبي الرسائل الديوانية والإخوانية والأدبية فنًا نثريًا يعالج تارة قضايا سياسية أو اجتماعية أو أدبية، ويعبر بأخرى عن مشاعر ذاتية خاصة. وهذه الرسائل قد تطول في بعض منها وتصبح كتابًا قائمًا بذاته.
ولعلّ فن الرسالة في الأدب القديم هو أقرب الأشكال النثرية إلى فن المقالة في النثر الحديث، إلا أن نشأة المقالة في الأدب العربي الحديث ارتبطت أول أمرها بالصحافة، فتنوعت موضوعاتها بين أدبية ووطنية واجتماعية، ثم اتسع مجالها ليشارك في شؤون المجتمع وأحداثه المختلفة.
كان أسلوب المقالة أول أمره لا يخلو من الصنعة البديعية المتكلفة، ثم أخذ يتحرر من هذه القيود، ويميل إلى البساطة في التعبير، والتركيز على الفكرة، والعمق في المعالجة، مع الموضوعية والبعد عن الذاتية. كما أخذ يميل إلى الاختصار مراعاة لحيّز النشر وعجلة القارئ. أما موضوعاته فقد تنوعت بين السياسة والموضوعات العامة والعلاقات الاجتماعية والأحوال الاقتصادية والقضايا الأدبية والنقدية والنواحي التربوية والجوانب الدينية. وأصبحت المقالة هي المسيطرة على أعمدة النشر في مجالاته المختلفة ولها روادها وجمهورها. فلا غرو أن ذاع صيت معظم أدباء العصر بسبب مقالاتهم التي رفعت مكانتهم الأدبية. ومن أشهر كتَّابها محمد حُسَيْن هيكل وأحمد حسن الزيات والعقاد وطه حسين والمنفلوطي وغيرهم.
القصة والرواية. لم يعرف الأدب العربي القديم القصة أو الرواية شكلين فنيين قائمين بذاتهما. وكانت الأخبار الممتزجة بالخيال والتاريخ والأُسطورة أو قصص الأمثال أو أخبار الرواة تقوم مقام ذلك. ثم كانت كتب الجاحظ وما تحفل به في ثناياها من نوادر قصصية، إلى أن ظهر بديع الزمان الهمذاني في القرن الرابع الهجري، وعلى يديه ظهر فن المقامة الذي يحمل طابعًا قصصيًا لاينكر. وقد بلغت المقامة ذروتها الفنية على يد الحريري. انظر: المقامات.
وعندما تطلّع أدباء عصر النهضة في الأدب الحديث إلى التراث العربي يستلهمونه، كتب ناصيف اليازجي كتابه مجمع البحرين، وجعل منه طرائف أدبية وذخيرة لغوية وألوانًا بديعية في قالب قصصي يماثل ماكان يفعله بطل المقامات الأديب المكدي.
ثم كان كتاب حديث عيسى بن هشام لمحمد المويلحي وهو أهم مؤلف في العصر الحديث قرّب الشقة بين شكل المقامة القديم والرواية في شكلها الحديث. وقد صوّر المويلحي، في قالب روائي، جوانب متعددة من التغيير الاجتماعي الذي أصاب مصر حين تأثرت بالمدنية الغربية. وعبر عن هذا التغيير من وجهة نظر شخصية متخيّلة لقائد من قواد جيش محمد علي بعث من قبره بعد موته. وكان يصاحبه الراوي عيسى بن هشام وهو الكاتب نفسه. واتصلت حوادث حديث عيسى بن هشام في شكل مغامرات يسعى البطل من خلالها إلى أن يجد لنفسه مكانًا في هذه الحياة التي تبدلت عما كانت عليه. وكان كل فصل من فصول الكتاب يحمل صورة من صور تلك الحياة، يقربه من أسلوب القصة القصيرة وقالبها.
كما كانت الروايات المترجمة عن الفرنسية والإنجليزية تحظى بإقبال متزايد من القراء. أما الروايات التاريخية على يد جرجي زيدان فاستأثرت بنصيب وافر من اهتمام طبقة من قراء تلك الفترة.
وفي عام 1912م صدرت رواية زينب لمحمد حُسَيْن هيكل، وهي أول عمل يعكس فهمًا ونضجًا لأساليب الرواية الفنية الحديثة، وتعد باكورة لما أتى بعدها من روايات في الأدب العربي الحديث. ولكن الإبداع الروائي الجاد ظل قليلاً ونادرًا عقب رواية زينب حتى ظهر جيل من الكتاب المجيدين. وكان أشهرهم محمد فريد أبو حديد و علي أحمد باكثير والطيب صالح و محمد عبد الحليم عبد الله وسهيل إدريس فضلاً عن ذروة هذا الفن في الأدب الروائي نجيب محفوظ. انظر: الرواية.
أعلام الأدب العربي
أما القصة القصيرة بمفهومها الحديث فقد تأخرت بضع سنوات في نضجها الفني عن الرواية. فجذورها ترجع إلى الرُّبع الأول من القرن العشرين، وكان من روادها محمود تيمور ويحيى حقي. ثم دخل عدد من الكتاب عالم القصة القصيرة، وأصبحت فن العصر غير منازع، وحظيت بجمهور لا يقل عن جمهور الرواية، كما ناقشت كثيرًا من القضايا الاجتماعية والسياسية والفكرية، مستفيدة من قصرها وسرعة إيقاعها وعجلة الجمهور. فأضحت القصة أكثر جرأة وأشد تأثيرًا في حياة الناس ومجتمعاتهم من الرواية ذات النفس الطويل الهادئ. انظر: القصة القصيرة.
المسرحية. إن كان الأدب العربي القديم لم يعرف المسرحية لأسباب اختلف الدارسون حولها، فإن الأدب في العصر الحديث عرف شيئًا من بواكير الحركة المسرحية خلال الحملة الفرنسية على مصر والشام، ولكن الحياة الأدبية لم تتأثر كثيرًا بتلك المسرحيات التي كانت تقدم باللغة الفرنسية. وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر أنشئت دار الأوبرا في القاهرة لتعرض عليها الفرق الأجنبية مسرحياتها التمثيلية والغنائية. أما في لبنان فقد سبق الفن التمثيلي مصر بسنوات حين أسس مارون النقاش فرقة من الهواة تولى أمرها بعد وفاته أخوه سليم النقاش الذي انتقل بفرقته من بيروت للإسكندرية.
وخلال تلك الفترة تعددت الفرق المسرحية في مصر وكان من أشهرها فرقة يعقوب صنوع وفرقة سليمان القرداحي وفرقة أبي خليل القباني وفرقة إسكندر فرح. وكانت هذه الفرق تقدم روايات فرنسية مترجمة أو ممصرة حتى تناسب ذوق الجمهور. وأكثر تلك المسرحيات نقد للحياة الاجتماعية والأخلاقية.
وفي أوائل القرن العشرين نهض فن المسرح في مصر نهضة عظيمة على يد عزيز عيد و جورج أبيض. ففي عام 1912م ظهرت جمعية أنصار التمثيل وقدمت مسرحًا يقوم على قواعد علمية صحيحة، ازدهر فيه نشاط التمثيل والتأليف. ويعد محمد عثمان جلال رائدًا من رواد الفن المسرحي، حيث قام بتعريب مسرحيات موليير الهزلية بأسلوب صحيح.
بدأ فن التأليف للمسرح على يد فرسان ثلاثة هم: فرح أنطوان، الذي كتب مسرحية مصر الجديدة ومصر القديمة (1913م)، وهي رؤية اجتماعية عن عيوب المجتمع بسبب مساوئ الحضارة الغربية ومفاسدها. وبعدها بعام كتب مسرحية تاريخية هي السلطان صلاح الدين ومملكة أورشليم، وهي أفضل من سابقتها في دقة رسم شخوصها، وحيوية حوارها وتصميمها المسرحي، وتحكي عن الصراع الحاد بين شجاعة الشرق المسلم ومكر الاستعمار الغربي. وثاني هؤلاء الرواد هو إبراهيم رمزي الذي كتب أبطال المنصورة (1915م)، وهي مسرحية تاريخية تصوّر جانبًا من حياة البطولة العربية الإسلامية أثناء الحروب الصليبية. والثالث هو محمد تيمور، الذي درس التمثيل في فرنسا بعد تخرجه في كلية الحقوق، فكتب أربع مسرحيات هي العصفور في قفص؛ عبد السَّتار أفندي؛ الهاوية؛ العشْرَة الطيبة.
وازدهرت الحركة المسرحية حين كثرت الفرق والجمعيات القائمة على دراسة التمثيل والتأليف المسرحي. وارتبط أدباء العرب بأصول هذا الفن في الغرب، فترسخ أسسه في العالم العربي تمثيلاً وتأليفًا، إلى أن ظهر رائد المسرح العربي الحديث توفيق الحكيم الذي يعد أقوى دعائم المسرح العربي الحديث، إذ تخصص في الكتابة له وكان شغوفًا بالأعمال المسرحية، كما نقل اتجاهات المسرح الحديث في الغرب إلى مسرحنا العربي، وأربت مسرحياته على الأربعين.
انفتح مجال التأليف المسرحي فدخل إلى حلبته عدد كبير من الكتّاب العرب، وتجاوز نطاقه مصر وبيروت، كما تنوعت لغته بين النثر والشعر، ووجدت المسرحية الشعرية مكانها اللائق بها. أما من ناحية الأفكار والموضوعات فقد تنوعت دلالاتها بين السياسية والاجتماعية والفكرية والفلسفية والصوفية. وأصبح المسرح، بحق، أبًا لكل الفنون، كما وجد من الجمهور إقبالاً واحتفالاً لا يقل عن الاحتفال بدُنْيا القصص والروايات.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق