| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
حياتـهأسرته. في هذه المدينة استقرت أسرة المعري التي ترجع بأصولها إلى قبيلة عربية مشهورة هي تنوخ التي ينتهي نسبها إلى قضاعة ثم إلى يعرب بن قحطان. وسميت بذلك لأنها تنخت بالشام قديمًا أي أقامت، وقد عمر المعرة منهم بطن لبني ساطع الجمال وهو النعمان بن عدي ولقب "بالساطع" لجماله وبهائه وكان جوادًا شجاعًا. وبيت أبي العلاء في بني سليمان بن داود بن المطهر وفيهم العلم والرئاسة يقول ابن العديم "وأكثر قضاة المعرة وفضلائها وعلمائها وشعرائها من بني سليمان". وتولى أجداد أبي العلاء قضاء المعرة وضم إليها جده أبوالحسن سليمان قضاء حمص أيضًا، وعرف بالفضل وكرم النفس، ومات سنة 290 هـ، فولي بعده ابنه أبوبكر محمد بن سليمان عم أبي العلاء الذي قصده الشعراء بالمدح. يقول الصنوبري فيه:
وجدته لأبيه هي أم سلمة بنت أبي سعيد الحسن بن إسحاق المعري، كانت تروي الحديث وعُدّت من شيوخ أبي العلاء الذين سمع الحديث عنهم. وأمه من بيت معروف من بيوتات حلب الشهباء. وجده لأمه هو محمد بن سبيكة. وخالاه هما أبوالقاسم علي وأبو طاهر المشرف، وكانا من ذوي الشرف والمروءة والكرم، ومن أرباب الأسفار طلبًا للمجد والجاه. يقول أبو العلاء في رثاء أمه:
بدأ أبوالعلاء صغيرًا في تلقي العلم على أبيه، وأول ما بدأ به علوم اللسان والدين على دأب الناس في ذلك العصر، وتُلمح الفائدة التي جناها من هذه الدروس إذ بدأ يقرض الشعر وله إحدى عشرة سنة ثم ارتحل إلى حلب ليسمع اللغة والآداب من علمائها تلاميذ ابن خالويه. وكانت حلب في ذلك العصر إحدى حواضر العالم الإسلامي الكبرى تضم جمعًا من العلماء ممن استدعاهم سيف الدولة إبان عنفوان دولته، ولم تذهب نهضتها بموته بل استمرت بعده. وفي حلب شهر تبريز المعري وروايته للأدب والشعر. فقد روي أنه صحّح رواية شيخه ابن سعد لبيت المتنبي:
ولما وصل أبو العلاء إلى طرابلس وجد بها مكتبة كبيرة ـ وقفها أهل اليسار ـ درس منها ثم عاد إلى المعرة. تردد في طور لاحق في مكتبات بغداد ودور العلم بها. كان استعداده للعلم عظيمًا وذكاؤه ملتهبًا. روى الثعالبي عن أبي الحسن المصيصي الشاعر قوله: " لقيت بمعرة النعمان عجبًا من العجب، رأيت أعمى شاعرًا ظريفًا يلعب بالشطرنج والنرد ويدخل في كل فن من الجد والهزل يكنى أبا العلاء، وسمعته يقول: "أنا أحمد الله على العمى، كما يحمده غيري على البصر، فقد صنع لي وأحسن بي إذ كفاني رؤية الثقلاء البغضاء". أشار ابن العديم إلى قوة حفظ أبي العلاء برواية حكاية عن ابن منقذ ذكر فيها أنه يقرأ عليه الكراسة والكراستين مرة واحدة فيحفظهما، ولم يعلم له من شيوخ بعد سن العشرين، وذكر هو نفسه أنه لم يحتج إليهم بعدها. وفاة أبيه. اختلف المؤرخون في السنة التي مات فيها أبوه، فيذكر ياقوت أنه توفي سنة 377هـ بحمص، وبهذه الرواية يأخذ بعضهم ويبني عليها رأيه في نبوغ أبي العلاء الباكر وعبقريته الفذة. ويقول ابن العديم: إنه توفي سنة 395هـ بمعرة النعمان. ويؤيد جمع من الدارسين روايته لأسباب منها أنه كان يذكر أسانيد رواياته، وأغلب رواته من بني سليمان أو من تلاميذ المعري ومعاصريه، ويذكر طرق الرواية قراءة أو سماعًا أو مكاتبة، هذا فضلاً عن تخصصه واقتصاره على أخبار أبي العلاء بخلاف ياقوت في كتابه الجامع المانع. ومنها أن القصيدة التي رثى بها أباه شديدة الأسر محكمة التركيب فيها درجة من النضج الفني والفكري يصعب أن يتصف به ابن أربع عشرة سنة، وقد وصفت بأنها من عيون الشعر في الديباجة والأغراض والمعاني. وقد خلفت وفاة والده جراحًا غائرة وأسى عميقًا في نفسه لعظم عطاء الوالد البر الذي كان اعتماد أبي العلاء عليه كبيرًا في كثير من شؤونه، فأحس بعده بأنه مهيض الجناح ضائع أو شبه ضائع، وهذا الحدث أمده بكثير من الآراء التي عظمت عنده من سوء رأيه في الحياة ويقينه بفسادها. رحلته إلى بغداد. كان أبوالعلاء فقيرًا، وكان لايتكسب بشعره، وكان له ثروة ضئيلة لا تتجاوز ثلاثين دينارًا في السنة جعل نصفها لخادمه. ويرى بعضهم أن الذي منعه من التكسب أمران: أولهما أن عزة النفس التي ورثها عن أسرته تمنعه من إراقة ماء وجهه، وتصده عن ذل السؤال، وثانيهما فطرته السليمة ودراسته الفلسفية اللتان صانتاه من الابتذال وصوغ الأكاذيب في الأمراء. والكذب عنده بشع قبيح، ثم إن المال الذي يأخذه عن طريق التكسب مال حرام استحل ظلمًا وأولى به شيخ كبير وعجوز فانية وأرملة مهيضة الجناح وأطفال زغب. كانت أمه تمانع في سفره أول الأمر، ولكنه أقنعها فأذنت له، وأعد له خاله أبو طاهر سفينة انحدر بها إلى الفرات حتى بلغ القادسية، وهناك لقيه عمال السلطان فاغتصبوا سفينته واضطروه إلى أن يسلك طريقًا مخوفة إلى بغداد، وعند وصوله نظم قصيدة قدمها إلى أبي حامد الأسفراييني واصفًا سفره وجور عمال السلطان طالبًا مودة أبي حامد ومساعدته في رد سفينته. ويتظرف فيها واصفًا سفره البري باصطلاح الفقهاء:
أما المعري فينفي أن يكون خروجه طلبًا لدنيا أو التماسًا لرزق:
كما نفى نفيًا قاطعًا أن يكون خروجه ليستزيد من العلم: "ومنذ فارقت العشرين من العمر ما حدثت نفسي باجتداء العلم من عراقي ولا شامي. وانصرفت وماء وجهي في سقاء غير سرب، لم أرق قطرة منه في طلب أدب ولا مال. "مع أنه كان أمرًا مألوفًا في عصره أن يرحل الرجل ليستكثر من لقاء الشيوخ وكانت بغداد مما يقصد إليها الشعراء واللغويون والفقهاء والمحدثون. وقد صرح أبو العلاء بسبب سفره في بعض رسائله أنه أتاها قاصدًا دار الكتب بها، وكان يسميها دار العلم. ويذكر أنه لما دخل بغداد طلب أن تعرض عليه الكتب التي في خزائنها. وأنه حضر إلى خزانة الكتب التي بيد عبدالسلام البصري وعرض عليه أسماءها فلم يستغرب شيئًا لم يره من قبل بدور العلم بطرابلس إلا ديوان تيم اللات فاستعاره. كان خروج المعري إلى بغداد في أواخر سنة 398هـ ودخلها في أوائل سنة 399هـ، ولم يأت بغداد مغمورًا بل سبقته شهرته إليها، ولكن أهل العاصمة الكبرى لم يكونوا ليسلموا بعبقرية الوافد قبل امتحانه. وقد أعدوا له امتحانًا عسيرًا اجتازه بنجاح، ذكره ابن فضل الله العمري في مسالك الأبصار: "احضروا دستور الخراج الذي في الديوان، وجعلوا يوردون عليه ما فيه مياومة وهو يسمع إلى أن فرغوا، فابتدأ أبو العلاء وسرد عليهم كل ما أوردوه له". وأقروا له بالحفظ والعلم، والشعر معًا إذ قرأوا عليه ديوان سقط الزند. حضر المعري كثيرًا من مجالس العلماء ببغداد واشترك في دروسهم ومناظراتهم فكان يحضر مجمع سابور بن أردشير وفيه يقول:
ورغم هذا الحضور وتلك المشاركات العلمية الاجتماعية الحافلة إلا أن المقام لم يطب له ببغداد، وحدث له من الحوادث ما آلمه وزهده فيها. من تلك الحوادث ما يروى من أنه عثر يوم إنشاده المرثية في الشريف الطاهر برجل لا يعرفه، فقال له الرجل إلى أين يا كلب؟ فأجابه: الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسمًا. وأشد من هذا وقعًا على نفسه موقف الشريف المرتضي منه لما جرى ذكر المتنبي في مجلسه، وكان المرتضي يكرهه ويتعصب عليه ويتتبع عيوبه، فقال المعري: "لو لم يكن له إلا قوله: "لك يا منازل في القلوب منازل". لكفاه، فغضب المرتضي وأمر بإخراجه فسحب برجله وأخرج، ثم قال المرتضي لجلسائه: أتدرون لم اختار الأعمى هذه القصيدة دون غيرها من غرر المتنبي؟ قالوا: لا. قال: إنما عرض بقوله:
ويذكر بعضهم أنه فارق بغداد كارهًا لها، زاهدًا فيها، ولكن رسائله تبين أنه أحبها حبًا جمًا وفارقها مكرهًا، وكان يتمنى المقام بها وكأن مقامه بها كان يقتضيه أن يبذل ما لا يستطيع بذله من خلقه وعزته وأنفته، وما كان باستطاعته تغيير طبعه وقد شب عن الطوق. وتبين التائية شيئًا من عاطفته تجاه بغداد:
خرج أبوالعلاء من بغداد لست ليال بقين من رمضان عام 400هـ، وحدد طريق عودته من بغداد إلى الموصل وميافارقين، ثم نزل بالحسنية ووصل بعدها إلى آمد، وقد مر في طريقه بطرف حلب ولم يدخلها تنفيذًا لقرار العزلة. عزلته. توفيت أمه وهو في الطريق من بغداد راجعًا، فرثاها بقصيدتين وكثير من النثر، وأضاف موتها إلى فواجعه ما ملأ نفسه ظلامًا وحبًا في العزلة التي اختارها، وظل يذكرها طوال عمره ولا يرى عزاء إلا في لحاقه بها حيث يؤنسه أن يدفن إلى جوارها.
قرر أبو العلاء الانقطاع عن الدنيا ومفارقة لذائذها، فكان يصوم النهار ويسرد الصيام سردًا لا يفطر إلا العيدين، ويقيم الليل ولا يأكل اللحوم والبيض والألبان ولايتزوج، وكان يكتفي بما يخرج من الأرض من بقل وفاكهة:
كتابه وتلاميذه. قال ابن فضل العمري: "أخذ عنه خلق لا يعلمهم إلا الله،كلهم قضاة وخطباء وأهل تبحر واستفادوا منه، ولم يذكره أحد منهم بطعن ولم ينسب حديثه إلى ضعف أو وهن". ومن أشهر تلاميذه أبو زكريا الخطيب التبريزي وعلي بن المحسن بن علي التنوخي القاضي. وله كتاب يملي عليهم مصنفاته، منهم أبو محمد عبدالله بن محمد القاضي ابن أخيه، وكان برًا بعمه وفيه يقول أبو العلاء:
وفاته. عمر أبو العلاء طويلاً وأصابته الشيخوخة بالوهن ووصفها بقوله: "الآن علت السن، وضعف الجسم، وتقارب الخطو، وساء الخلق". ولكنها إن أصابت جسمه فما أصابت عقله وصفاءه وقريحته وتوقدها وحافظته وقوتها، فما نسي شيئًا مما حصَّل. وفي اليوم العاشر من ربيع الأول سنة 449هـ اعتل أبو العلاء وعاده الطبيب المشهور أبو الحسن مختار بن بطلان، وكان ممن يتردد عليه للزيارة والسماع أثناء مقامه بديار الشام، ووصف له كأسًا من شراب أتاه به ابن أخيه القاضي فامتنع عن شرابه وأنشد:
"استضعفوك فوصفوك هلا وصفوا شبل الأسد". وتوفي بعد ثلاثة أيام وأوصى أن يُكتب على قبره:
شخصية المعريأخلاقه. كان المعري رغم عزلته ذا صلة حسنة بالناس. وكان مع فقره كريمًا ذا مروءة يعين طلاب الحاجات وينفق على من يقصده من الطلاب يهدي ويُهدى إليه، ويكرم زائريه. ومن مروءته وكرمه أنه لم يقبل من تلميذه الخطيب التبريزي ذهبًا كان قد دفعه إليه ثمنًا لإقامته عنده. لم يرده إليه في حينه حتى لا يؤذي نفسه ويوقعه في مشقة الحرج، ولكنه احتفظ له به حتى تجهز قافلاً فودعه ورد إليه ما دفع.وكان رقيق القلب رحيمًا عطوفًا على الضعفاء حتى شملت رقة قلبه الحيوان فلا يذبح ولا يروع بولده وبيضه. وكان وفيًا لأصدقائه وأهله. وتفيض رسائله إلى أهل بغداد والمعرة وإلى أخواله بهذا الوفاء. ومن أهم خصاله الحياء الذي يكلفه ضروبًا من المشقة والأذى، وكثيرًا ما كتب كتبًا ورسائل لأناس طلبوا منه ذلك، وكتب يستشفع لأناس عند الأمراء، وهو كاره لذلك ولكنه لفرط حيائه لا يستطيع لهم ردًا. وكان سيئ الظن بالناس يعتقد فيهم الشرور والأسواء ويمقت فيهم خصال الكذب والنفاق والرياء. وانتهى أخيرًا إلى أن الإنسان شرير بطبعه، وأن الفساد غريزة فيه ولا يُرجى برؤه من أدوائه:
اتهامه بالزندقة. اتهم المعري بالزندقة والإلحاد من بعض معاصريه، ولا شك أنه كان يناقش في مجالسه قضايا الفلسفة ويشرح للطلاب أشعاره ويفسر لهم ما صعب منها. وربما قاده الشرح إلى الحديث عن مختلف الآراء الفلسفية التي لا يرتضيها عامة الناس. يضاف إلى هذا تبتله وتركه الزواج وامتناعه عن اللحم وما أشبه ذلك، وفيه ما فيه من مجانبة لسنن الدين ولحوق بفلسفات برهمية هندية. وقد استند متهموه إلى ما في رسالة الغفران من أخبار الزنادقة وأشعارهم. أما أشعاره فيبين في بعضها الشك والإنكار. ولكنه وجد من يدافع عنه نافيًا هذه التهمة. ومن هؤلاء القفطي وابن العديم، وسمى الأخير كتابه: كتاب الإنصاف والتحري في دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري وقال في مقدمته متحدثًا عن حساده وشانئيه: "رموه بالإلحاد والتعطيل، والعدول عن سواء السبيل، فمنهم من وضع على لسانه أقوال ملحدة ومنهم من حمل كلامه على غير المعنى الذي قصده فجعلوا محاسنه عيوبًا وحسناته ذنوبًا وعقله حمقًا وزهده فسقًا، ورشقوه بأليم السهام وأخرجوه عن الدين والإسلام". ومن أحسن الشهادات في حقه شهادة الإمام الذهبي المتوفي سنة 747هـ، 1346م، حيث قال: "وفي الجملة فكان من أهل الفضل الوافر والأدب الباهر والمعرفة بالنسب وأيام العرب. وله في التوحيد وإثبات النبوة وما يحض على الزهد وإحياء طرق الفتوة والمروءة، شعر كثير والمشكل منه فله ـ على زعمه ـ تفسير". مؤلفاته النثريةأشهر مؤلفاته. ألف أبو العلاء مصنفات جمة ضاع أكثرها ولم يصل إلينا منها إلا النزر اليسير. يقول القفطي والذهبي إن أكثر كتبه باد ولم يخرج من المعرة، وحرقها الصليبيون فيما حرقوا من المعرة، وأحصيا له من الكتب خمسة وخمسين كتابًا في أربعة آلاف كراسة، تشمل الشعر والنثر فقد ذكر له كتاب اسمه استغفر واستغفري فيه عشرة آلاف بيت ضاع مع ما ضاع. ويذكر الرحالة الفارسي ناصر خسرو أن أبا العلاء نظم مائة ألف بيت من الشعر وذلك سنة 438هـ قبل موته بإحدى عشرة سنة. وعد ياقوت من مصنفاته اثنين وسبعين مصنفًا. وبقي من شعره ثلاثة دواوين: سقط الزند، والدرعيات، وهو ديوان صغير طبع ملحقًا بالسقط، واللزوميات.ومن أشهر مؤلفاته النثرية رسالة الغفران التي أملاها ردًا على رسالة الأديب الحلبي علي بن منصور بن القارح، وكانت أكثر كتبه يؤلفها ردًا على طلب طالب وكان بعض الأمراء يسألونه أن يصنف لهم. ومن ذلك: كتاب تضمين الرأي، وهو عظات وعبر وحث على تقوى الله يُختم كل فصل منها بآية؛ وتاج الحرة، وهو خاص بوعظ النساء ومقداره أربعمائة كراسة، كما يقول ابن العديم؛ سجع الحمائم، في العظة والحث على الزهد أيضًا؛ اللامع العزيزي، في تفسير شعر المتنبي؛ جامع الأوزان في العروض والقوافي؛ الصاهل والشاحج، ولسان الصاهل والشاحج والقائف، وهذه الثلاثة ألفها للأمير عزيز الدولة شجاع بن فاتك والي حلب من قبل المصريين؛ الفصول والغايات؛ شرف السيف؛ معجز أحمد، في شرح شعر المتنبي؛ ذكرى حبيب في شعر أبي تمام؛ عبث الوليد، في شرح شعر البحتري؛ رسالة الملائكة، وغيرها كثير. لكن آخر ما أملى من الكتب كتابا المختصر الفتحي وعون الجُمل، ألفهما لابن كاتبه الشيخ أبي الحسن علي بن عبدالله بن أبي هاشم. وكان المعري شديد الاهتمام بكتبه وعلمه وأدبه يجمعها ويفسرها ويدافع عنها. شرح ديوانه سقط الزند بكتاب ضوء السقط، كما شرح اللزوميات بكتابين ودافع عنها بثالث. وشرح الفصول والغايات بكتابين، وشرح الرسائل بكتاب سماه خادم الرسائل. وهذا الجهد ـ فضلاً عن عنايته بها ـ يدل على غزارة علمه وثقته بنفسه، كما يدل على خوفه من التأويل والكذب عليه. وتدل أسماء كتبه على ذوق رفيع. نثر المعري. بقي من نثره رسالة الغفران ورسالة الملائكة، وهي صغيرة، وأجزاء من الفصول والغايات وطائفة من الرسائل كان يوجهها إلى أصدقائه. ويمتاز نثره بالغريب وكثرة الغموض واللجوء إلى السجع مثل أهل عصره. وقد طرق في نثره موضوعات مختلفة مثل المدح والعزاء والوصف. رسالة الغفران. كتبها المعري ردًا على رسالة بعث بها إليه ابن القارح، وهو صديق له من حلب عنوانها في تقبل الشرع وذم من ترك الوقوف عنده، وهي رسالة طويلة ـ أي رسالة الغفران ـ وفيها يمازح المعري صديقه ويعبث به ويشير من طرف خفي إلى أنه كان مشككًا غير قوي الإيمان. وفيها يطوف ابن القارح في الجنة وتظهر فيها مقدرة المعري اللغوية كما تبدو فيها مقدرته على السخرية والنقد. انظر: رسالة الغفران. الفصول والغايات. صورة أخرى للزوميات، فقد أورد فيه كثيرًا من الآراء التي أوردها هناك، وألفه المعري تقربًا إلى الله وتمجيدًا وتسبيحًا له قال: "علم ربنا ما علم.. أني ألفت الكلم، آمل رضاه المسلم وأتقي سخطه المؤلم"، وقد التزم أن يختم كل فصل بكلمة يلتزم آخرها في جملة من الفصول، ثم رتب هذه الكلمات على حروف المعجم كلها فيلتزم الهمزة في بعض الغايات ثم الباء إلى آخر الحروف. وتكون الغاية ساكنة قبلها ألف، وأحيانًا يلتزم حرفًا قبل الألف، ويلتزم السجع أحيانًا ويضيف إليه قيدًا آخر بحيث يلتزم حرفين أو أكثر على نحو ما فعل في اللزوميات، وقد يضيف إلى السجع التزامًا آخر فيجري السجع على حروف المعجم. وتطول الفصول وتقصر بلا ضابط معين، وتكون مستقلة أحيانًا ومرتبطة ببعضها أحيانًا أخرى. وكان الشائع المشهور أنه ألف هذه الفصول متأثرًا ببلاغة القرآن الذي هو المثل الأعلى للبلاغة والبيان، وما وجد أديب وشاعر إلا فتن بأسلوب القرآن. شعر المعريمكانته الشعرية ورأي النقاد فيه كان القدماء، إلا أقلهم، يعترفون بشاعرية المعري، ويعرفون تقدمه، وينشد الناس أشعاره ويتظرف بها الظرفاء. أما المحدثون فمنهم من جعل المعري فيلسوفًا وجرده من الشعر، وعده آخرون شاعرًا مجردًا من الفلسفة، وجمع له فريق ثالث بين الحسنيين.فبينما يرى بعضهم فيه شاعرًا فيلسوفًا حقًا لم يعهد المسلمون في قديمهم وحديثهم فيلسوفًا مثله؛ يرى آخرون أن ليس له مذهب فلسفي، بل له اتجاهات تخل بالمنهج الفلسفي إخلالاً واضحًا، فهو رجل وجدان، دقيق الحس، عميق الإدراك، صادق التعبير، جريء التعرض للمعاني والخواطر. بينما جعله فريق ثالث مع سقراط والقديس أوغسطين والغزالي وتوما الأكويني وشوبنهاور في طبقة واحدة، فضلاً عن من عده فيلسوفًا له نظراته في الفلسفة أو مجددًا لأصول الفلسفة أو هو الفيلسوف الأكبر. ولكن أكثر النقاد يرونه شاعرًا إنسانيًا متأملاً في المحل الأرفع بين شعراء العربية، له مقام فريد لامن حيث أسلوبه وفنه فحسب، ولكن من حيث روحه ونظرته إلى الحياة والأحياء من حوله. كما أدلى المستشرقون بدلوهم في هذا الشأن، فعدوه شاعرًا عالميًا سبق زمانه بآرائه العقلية والأخلاقية والسياسية والدينية. دواوينه. بقي من شعر المعري ثلاثة دواوين: سقط الزند والدرعيات واللزوميات. سقط الزند. يضم أكثر شعر صباه وشيئًا من شعر الكهولة. وقد رتبه أبو العلاء ووضع له مقدمة. ويظهر في شعر صباه المبالغة والتكلف والمحاكاة. وكلما تقدم به العمر اكتسب شعره صفات تجعله متفردًا. فتبدو فيه ظاهرة استعمال الاصطلاحات والإشارات العلمية، كما في قصيدة توديع بغداد. أما الشعر الذي نظمه في كهولته ففيه نضج في الفكر وإتقان للمعاني وبعد عن الضرورات والمبالغات. ويلجأ فيه للقوافي الصعبة ويطيل فيها مثل الطائية التي بعث بها إلى خازن دار العلم ببغداد. وفي هذا الديوان تأثر واضح بالمتنبي، وكان به مغرمًا ولأشعاره دارسًا، وبينهما صفات مشتركة أهمها التفوق والنبوغ والشعور بالامتياز والطموح والشعور بفساد الحياة والأحياء في عصريهما. ويأتي تباينهما من اختلاف طباع كليهما وظروفه. فبينما آثر المتنبي الحرب والثورة وسيلة للإصلاح آثر المعري النقد السلبي والاعتزال وتصوير القبائح والسخرية منها، وهذا الذي جعل له التفرد والأصالة. ويحوي ديوانه أغراضًا مختلفة كثيرة من أهمها: المدح. لم يمدح أبو العلاء أميرًا طلبًا لنواله، وقد سطر في مقدمة هذا الديوان: "ولم أطرق مسامع الرؤساء بالنشيد، ولا مدحت طلبًا للثواب، وإنما كان بغرض الرياضة وامتحان القريحة" وسلوك الطريق التي سلكها الشعراء قبله، وإن كان له مدائح نظمها في أناس من أصحابه، أو أجاب بها نفرًا من الشعراء أرسلوا إليه قصائد. ولهذا السبب جاء مدحه مختلفًا عن مدائح من سبقوه. فليس هو محتاجًا لأن يتزلف الممدوح أو يسبغ عليه صفات مبالغة. ومن هذا النوع النونية التي بعث بها إلى الشريف أبي إبراهيم العلوي، وكان قد بعث إليه بقصيدة:
الوصف. يحاول المعري وصف الأشياء المحسوسة، ويزين لفظه حتى يعوض ما يحس به من نقص تجاه وصف المبصرين، ولعله كان يعمد إلى الوصف الحسي ليثبت أنه لا يقل قدرة عن المبصرين في الوصف. ومن جميل شعره في الوصف قوله:
لم يكن المعري أول من ابتكر هذا الفن، فلكثير عزة تائية التزم فيها اللام قبل التاء ومطلعها:
ويرى بعض النقاد أن المقطوعة أو القصيدة في اللزوميات تطول وتقصُر تبعًا لصعوبة القافية وسهولتها، فقد تساعده القافية السهلة فيمتد نفسه الشعري، فيكثر من الأبيات وإن استوفى المعنى المراد، وقد ينقطع نفسه عند البيتين والأبيات القليلة، وإن كان في المعنى متسع لأن القافية تضطره إلى ذلك. ومثال واحد من الديوان يكفي للرد على هذا القول وهو اللزومية:
أثر علمه وثقافته في شعرهيعد عصر المعري عصرًا ذهبيًا في نضج العلوم وانتشارها على اختلاف مشاربها، فالعلوم الشرعية وعلوم القرآن من تفسير وقراءات وإعجاز، وعلوم الأدب والنقد ثم الفلسفات المنقولة كانت قد استوت على سوقها، وكان للمعري مشاركات جادة فيها، وهو مع هذا يتواضع ويضع من شخصه وعلمه:
وفي التورية:
فلسفة المعـريتأثر المعري بمختلف الفلسفات التي سادت في عصره وأضاف إليها تجربته الشخصية وآراءه التي استقاها واختارها لنفسه. وأكثر آرائه الفلسفية حوتها اللزوميات. وكان يرى قدم المادة الكونية والزمان، وهذا أثر من أثار أرسطو، كما كان يرى خلودها وبقاءها:
ومن آرائه الاجتماعية أنه كان يبغض انقسام الناس إلى أغنياء وفقراء، ولذلك حث على أداء الزكاة وحمدها:
وهي عنده لا تقول شيئًا أو تفعله إلا بقصد الإغواء والفتنة، وتسخر جسدها لتثير حواس الرجال وتفسد عقولهم. وهي إن أعطت البنين فإن مصيرهم للعقوق أو الموت فيشقى الأب بالثكل، وإن أعطت البنات، فتبعات وإرهاق يردن الزواج والحلي وقد يترملن فيشقى الأب بهن. وليس للمرأة عقل ولا اتزان وأولى بها أن تأخذ مغزلها وتهتم بشؤون بيتها. ثم يرى أن الزواج أفضل شيء لها:
ومدح النبي ³ بقصيدة في اللزوميات:
|
الأربعاء، 5 ديسمبر 2012
نبذة موسعة عن الضرير المبصر أبي العلاء المعري
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق