الأربعاء، 5 ديسمبر 2012

تعريف بيت المال بما يوافق المذاهب الأربعة


بيت المال


التّعريف

1 - بيت المال لغةً : هو المكان المعدّ لحفظ المال ، خاصّاً كان أو عامّاً.
وأمّا في الاصطلاح : فقد استعمل لفظ « بيت مال المسلمين ، أو » بيت مال اللّه « في صدر الإسلام للدّلالة على المبنى والمكان الّذي تحفظ فيه الأموال العامّة للدّولة الإسلاميّة من المنقولات ، كالفيء وخمس الغنائم ونحوها ، إلى أن تصرف في وجوهها.
ثمّ اكتفي بكلمة »
بيت المال « للدّلالة على ذلك ، حتّى أصبح عند الإطلاق ينصرف إليه.
وتطوّر لفظ »
بيت المال « في العصور الإسلاميّة اللّاحقة إلى أن أصبح يطلق على الجهة الّتي تملك المال العامّ للمسلمين ، من النّقود والعروض والأراضي الإسلاميّة وغيرها.
والمال العامّ هنا : هو كلّ مالٍ ثبتت عليه اليد في بلاد المسلمين ، ولم يتعيّن مالكه ، بل هو لهم جميعاً.
قال القاضي الماورديّ والقاضي أبو يعلى : كلّ مالٍ استحقّه المسلمون ، ولم يتعيّن مالكه منهم ، فهو من حقوق بيت المال.
ثمّ قال : وبيت المال عبارة عن الجهة لا عن المكان.
أمّا خزائن الأموال الخاصّة للخليفة أو غيره فكانت تسمّى »
بيت مال الخاصّة ".
2 - وينبغي عدم الخلط بين « ديوان بيت المال » « وبيت المال » فإنّ ديوان بيت المال هو الإدارة الخاصّة بتسجيل الدّخل والخرج والأموال العامّة.
وهو عند الماورديّ وأبي يعلى أحد دواوين الدّولة ، فقد كانت في عهدهما أربعة دواوين : ديوان يختصّ بالجيش.
وديوان يختصّ بالأعمال ، وديوان يختصّ بالعمّال ، وديوان يختصّ ببيت المال.
وليس للدّيوان سلطة التّصرّف في أموال بيت المال ، وإنّما عمله قاصر على التّسجيل فقط.
والدّيوان في الأصل بمعنى « السّجلّ » أو « الدّفتر » وكان في أوّل الإسلام عبارةً عن الدّفتر الّذي تثبت فيه أسماء المرتزقة « من لهم رزق في بيت المال » ثمّ تنوّع بعد ذلك ، كما سبق.
ومن واجبات كاتب الدّيوان أن يحفظ قوانين بيت المال على الرّسوم العادلة ، من غير زيادةٍ تتحيّف بها الرّعيّة ، أو نقصانٍ ينثلم به حقّ بيت المال.
وعليه فيما يختصّ ببيت المال أن يحفظ قوانينه ورسومه ، وقد حصر القاضيان الماورديّ وأبو يعلى أعماله في ستّة أمورٍ ،
«نذكرها باختصار»
أ - تحديد العمل بما يتميّز به عن غيره ، وتفصيل نواحيه الّتي تختلف أحكامها.
ب - أن يذكر حال البلد ، هل فتحت عنوةً أو صلحاً ، وما استقرّ عليه حكم أرضها من عشرٍ أو خراجٍ بالتّفصيل.
ج - أن يذكر أحكام خراج البلد وما استقرّ على أراضيه ، هل هو خراج مقاسمةٍ ، أم خراج وظيفةٍ « دراهم معلومة موظّفة على الأرض » .
د - أن يذكر ما في كلّ ناحيةٍ من أهل الذّمّة ، وما استقرّ عليهم في عقد الجزية.
هـ - إن كان البلد من بلدان المعادن ، يذكر أجناس معادنه ، وعدد كلّ جنسٍ ، ليعلم ما يؤخذ ممّا ينال منه.
و - إن كان البلد يتاخم دار الحرب ، وكانت أموالهم إذا دخلت دار الإسلام تعشّر عن صلحٍ استقرّ معهم ، أثبت في الدّيوان عقد صلحهم وقدر المأخوذ منهم.
نشأة بيت المال في الإسلام.
3 - تشير بعض المصادر إلى أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه كان أوّل من اتّخذ بيت المال.
نقل ذلك ابن الأثير.
غير أنّ كثيراً من المصادر تذكر أنّ أبا بكرٍ رضي الله عنه كان قد اتّخذ بيت مالٍ للمسلمين.
ففي الاستيعاب لابن عبد البرّ وتهذيب التّهذيب لابن حجرٍ في ترجمة معيقيبٍ بن أبي فاطمة : استعمله أبو بكرٍ وعمر على بيت المال.
بل ذكر ابن الأثير في موضعٍ آخر : أنّ أبا بكرٍ رضي الله عنه كان له بيت مالٍ بالسّنح « من ضواحي المدينة » وكان يسكنه إلى أن انتقل إلى المدينة.
فقيل له : ألا نجعل عليه من يحرسه ؟ قال : لا.
فكان ينفق ما فيه على المسلمين ، فلا يبقى فيه شيء ، فلمّا انتقل إلى المدينة جعل بيت المال في داره.
ولمّا توفّي أبو بكرٍ جمع عمر الأمناء ، وفتح بيت المال ، فلم يجدوا فيه غير دينارٍ سقط من غرارةٍ ، فترحموا عليه.
وقال : وأمر أبو بكرٍ أن يردّ جميع ما أخذ من بيت المال لنفقته بعد وفاته.
وفي كتاب الخراج لأبي يوسف أنّ خالد بن الوليد - في عهده لأهل الحيرة زمن أبي بكرٍ رضي الله عنه - كتب لهم : وجعلت لهم أيّما شيخٍ ضعف عن العمل ، أو أصابته آفة ، أو كان غنيّاً فافتقر وصار أهل دينه يتصدّقون عليه ، طرحت جزيته ، وعيل من بيت مال المسلمين وعياله ما أقام بدار الهجرة ودار الإسلام
وشرطت عليهم جباية ما صالحتهم عليه ، حتّى يؤدّوه إلى بيت مال المسلمين عمّا لهم منهم.
4 - أمّا النّبيّ صلى الله عليه وسلم فلا تذكر السّنّة وغيرها من المراجع - فيما اطّلعنا عليه - استعمال هذه التّسمية « بيت المال » في عهده صلى الله عليه وسلم.
ولكن يظهر من كثيرٍ من الأحاديث الواردة أنّ بعض وظائف بيت المال كانت قائمةً ، فإنّ الأموال العامّة من الفيء ، وأخماس الغنائم ، وأموال الصّدقات ، وما يهيّأ للجيش من السّلاح والعتاد ونحو ذلك ، كلّ ذلك كان يضبطه الكتّاب وكان يخزّن إلى أن يحين موعد إخراجه.
أمّا فيما بعد عهد عمر رضي الله عنه فقد استمرّ بيت المال يؤدّي دوره طيلة العهود الإسلاميّة إلى أن جاءت النّظم المعاصرة ، فاقتصر دوره في الوقت الحاضر - في بعض البلاد الإسلاميّة - على حفظ الأموال الضّائعة ومال من لا وارث له ، وقام بدوره في غير ذلك وزارات الماليّة والخزانة.
«سلطة التّصرّف في أموال بيت المال»
5 - سلطة التّصرّف في بيت مال المسلمين للخليفة وحده أو من ينيبه.
وذلك لأنّ الإمام نائب عن المسلمين فيما لم يتعيّن المتصرّف فيه منهم.
وكلّ من يتصرّف في شيءٍ من حقوق بيت المال فلا بدّ أن يستمدّ سلطته في ذلك من سلطة الإمام.
ويجب - وهو ما جرت عليه العادة - أن يولّي الخليفة على بيت المال رجلاً من أهل الأمانة والقدرة.
وكان المتصرّف في بيت المال بإنابة الخليفة يسمّى « صاحب بيت المال » وإنّما يتصرّف فيه طبقاً لما يحدّده الخليفة من طرق الصّرف.
وكون الحقّ في التّصرّف في أموال بيت المال للخليفة ليس معناه أن يتصرّف فيها طبقاً لما يشتهي ، كما يتصرّف في ماله الخاصّ ، فإن كان يفعل ذلك قيل : إنّ بيت المال قد فسد ، أو أصبح غير منتظمٍ ، ويستتبع ذلك أحكاماً خاصّةً يأتي بيانها ، بل ينبغي أن يكون تصرّفه في تلك الأموال كتصرّف وليّ اليتيم في مال اليتيم ، كما قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه : إنّي أنزلت نفسي من هذا المال بمنزلة وليّ اليتيم ، إن استغنيت استعففت ، وإن افتقرت أكلت بالمعروف ، فإذا أيسرت قضيت.
ويعني ذلك أن يتصرّف في المال بالّذي يرى أنّه خير للمسلمين وأصلح لأمرهم ، دون التّصرّف بالتّشهّي والهوى والأثرة.
وبيّن القاضي أبو يعلى أنّ ما يلزم الإمام من أمور الأمّة عشرة أشياء ، منها : جباية الفيء والصّدقات على ما أوجبه الشّرع.
ومنها تقدير العطاء وما يستحقّ في بيت المال من غير سرفٍ ولا تقصيرٍ ، ودفعه في وقتٍ لا تقديم فيه ولا تأخير.
وله أن يعطي الجوائز من بيت المال لمن كان فيه نفع ظاهر للمسلمين ، وقوّة على العدوّ ، ونحو ذلك ممّا فيه المصلحة.
وقد كانت العادة في صدر الدّولة الإسلاميّة أنّ العامل « أي الوالي » على بلدٍ أو إقليمٍ ، ينوب عن الإمام بتفويضٍ منه في الجباية لبيت المال والإنفاق منه ، وكان المفترض فيه أن يتصرّف على الوجه الشّرعيّ المعتبر.
ولم يكن ذلك للقضاة.
وربّما كان صاحب بيت المال في بعض الأمصار يتّبع الخليفة مباشرةً ، مستقلّاً عن عامل المصر.
«موارد بيت المال»
6 - موارد بيت المال الأصناف التّالية ، وأمّا صفة اليد على كلٍّ منها فإنّها مختلفة ، كما سنبيّنه فيما بعد.
أ - الزّكاة بأنواعها ، الّتي يأخذها الإمام سواء أكانت زكاة أموالٍ ظاهرةٍ أم باطنةٍ ، من السّوائم والزّروع والنّقود والعروض ، ومنها عشور تجّار المسلمين إذا مرّوا بتجارتهم على العاشر.
ب - خمس الغنائم المنقولة.
والغنيمة هي كلّ مالٍ أخذ من الكفّار بالقتال ، ما عدا الأراضي والعقارات ، فيورّد خمسها لبيت المال ، ليصرف في مصارفه.
قال اللّه تعالى : «واعلموا أنّما غنمتم من شيءٍ فأنّ للّه خمسه وللرّسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السّبيل» الآية.
ج - خمس الخارج من الأرض من المعادن من الذّهب والفضّة والحديد وغيرها ، وقيل مثلها المستخرج من البحر من لؤلؤٍ وعنبرٍ وسواهما.
د - خمس الرّكاز « الكنوز » وهو كلّ مالٍ دفن في الأرض بفعل الإنسان ، والمراد هنا كنوز أهل الجاهليّة والكفر إذا وجده مسلم ، فخمسه لبيت المال ، وباقيه بعد الخمس لواجده.
هـ - الفيء : وهو كلّ مالٍ منقولٍ أخذ من الكفّار بغير قتالٍ ، وبلا إيجاف خيلٍ ولا ركابٍ.
والفيء أنواع :
« 1 » ما جلا عنه الكفّار خوفاً من المسلمين من الأراضي والعقارات ، وهي توقف كالأراضي المغنومة بالقتال ، وتقسّم غلّاتها كلّ سنةٍ ، نصّ عليه الشّافعيّة.
وفي ذلك خلاف « انظر : فيء » .
« 2 » ما تركوه وجلوا عنه من المنقولات.
وهو يقسّم في الحال ولا يوقف.
« 3 » ما أخذ من الكفّار من خراجٍ أو أجرةٍ عن الأراضي الّتي ملكها المسلمون ، ودفعت بالإجارة لمسلمٍ أو ذمّيٍّ ، أو عن الأراضي الّتي أقرّت بأيدي أصحابها من أهل الذّمّة صلحاً أو عنوةً على أنّها لهم ، ولنا عليها الخراج.
« 4 » الجزية وهي : ما يضرب على رقاب الكفّار لإقامتهم في بلاد المسلمين.
فيفرض على كلّ رأسٍ من الرّجال البالغين القادرين مبلغ من المال ، أو يضرب على البلد كلّها أن تؤدّي مبلغاً معلوماً.
ولو أدّاها من لا تجب عليه كانت هبةً لا جزيةً.
« 5 » عشور أهل الذّمّة ، وهي : ضريبة تؤخذ منهم عن أموالهم الّتي يتردّدون بها متاجرين إلى دار الحرب ، أو يدخلون بها من دار الحرب إلى دار الإسلام ، أو ينتقلون بها من بلدٍ في دار الإسلام إلى بلدٍ آخر ، تؤخذ منهم في السّنة مرّةً ، ما لم يخرجوا من دار الإسلام ، ثمّ يعودوا إليها.
ومثلها عشور أهل الحرب من التّجّار كذلك ، إذا دخلوا بتجارتهم إلينا مستأمنين.
« 6 » ما صولح عليه الحربيّون من مالٍ يؤدّونه إلى المسلمين.
« 7 » مال المرتدّ إن قتل أو مات ، ومال الزّنديق إن قتل أو مات ، فلا يورث مالهما بل هو فيء ، وعند الحنفيّة في مال المرتدّ تفصيل.
« 8 » مال الذّمّيّ إن مات ولا وارث له ، وما فضل من ماله عن وارثه فهو فيء كذلك.
« 9 » الأراضي المغنومة بالقتال ، وهي الأراضي الزّراعيّة عند من يرى عدم تقسيمها بين الغانمين.
و - غلّات أراضي بيت المال وأملاكه ونتاج المتاجرة والمعاملة.
ز - الهبات والتّبرّعات والوصايا الّتي تقدّم لبيت المال للجهاد أو غيره من المصالح العامّة.
ح - الهدايا الّتي تقدّم إلى القضاة ممّن لم يكن يهدى لهم قبل الولاية ، أو كان يهدى لهم لكن له عند القاضي خصومة ، فإنّها إن لم تردّ إلى مهديها تردّ إلى بيت المال.
لأنّ «النّبيّ صلى الله عليه وسلم أخذ من ابن اللّتبيّة ما أهدي إليه» .
وكذلك الهدايا الّتي تقدّم إلى الإمام من أهل الحرب ، والهدايا الّتي تقدّم إلى عمّال الدّولة ، وهذا إن لم يعط الآخذ مقابلها من ماله الخاصّ.
ط - الضّرائب الموظّفة على الرّعيّة لمصلحتهم ، سواء أكان ذلك للجهاد أم لغيره ، ولا تضرب عليهم إلاّ إذا لم يكن في بيت المال ما يكفي لذلك ، وكان لضرورةٍ ، وإلاّ كانت مورداً غير شرعيٍّ.
ي - الأموال الضّائعة ، وهي مال وجد ولم يمكن معرفة صاحبه ، من لقطةٍ أو وديعةٍ أو رهنٍ ، ومنه ما يوجد مع اللّصوص ونحوهم ممّا لا طالب له ، فيورّد إلى بيت المال.
ك - مواريث من مات من المسلمين بلا وارثٍ ، أو له وارث لا يرث كلّ المال - عند من لا يرى الرّدّ - ومن قتل وكان بلا وارثٍ فإنّ ديته تورّد إلى بيت المال ، ويصرف هذا في مصارف الفيء.
وحقّ بيت المال في هذا النّوع هو على سبيل الميراث عند الشّافعيّة والمالكيّة أي على سبيل العصوبة.
وقال الحنابلة والحنفيّة : يردّ إلى بيت المال فيئاً لا إرثاً « ر : إرث » .
ل - الغرامات والمصادرات : وقد ورد في السّنّة تغريم مانع الزّكاة بأخذ شطر ماله ، وبهذا يقول إسحاق بن راهويه وأبو بكرٍ عبد العزيز ، وورد تغريم من أخذ من الثّمر المعلّق وخرج به ضعف قيمته ، وبهذا يقول الحنابلة وإسحاق بن راهويه : والظّاهر أنّ مثل هذه الغرامات إذا أخذت تنفق في المصالح العامّة ، فتكون بذلك من حقوق بيت المال.
وورد أنّ عمر رضي الله عنه صادر شطر أموال بعض الولاة ، لمّا ظهر عليهم الإثراء بسبب أعمالهم ، فيرجع مثل ذلك إلى بيت المال أيضاً.
«أقسام بيت المال ومصارف كلّ قسمٍ»
7 - الأموال الّتي تدخل بيت المال متنوّعة المصارف ، وكثير من أصنافها لا يجوز صرفه في الوجوه الّتي تصرف فيها الأصناف الأخرى.
ومن أجل ذلك احتيج إلى فصل أموال بيت المال بحسب مصارفها ، لأجل سهولة التّصرّف فيها ، وقد نصّ أبو يوسف على فصل الزّكاة عن الخراج في بيت المال ، فقال : مال الصّدقة والعشور لا ينبغي أن يجمع إلى مال الخراج ، لأنّ الخراج فيء لجميع المسلمين ، والصّدقات لمن سمّى اللّه في كتابه.
وقد نصّ الحنفيّة على أنّه يجب على الإمام توزيع موجودات بيت المال على أربعة بيوتٍ ، ولا تأبى قواعد المذاهب الأخرى التّقسيم من حيث الجملة.
وقد قال الحنفيّة : للإمام أن يستقرض من أحد البيوت الأربعة ليصرفه في مصارف البيوت الأخرى ، ويجب ردّه إلى البيت المستقرض منه ، ما لم يكن ما صرفه إليه يجوز صرفه من هذا البيت الآخر.
والبيوت الأربعة هي : البيت
«الأوّل : بيت الزّكاة»
8 - من حقوقه : زكاة السّوائم ، وعشور الأراضي الزّكويّة ، والعشور الّتي تؤخذ من التّجّار المسلمين إذا مرّوا على العاشر ، وزكاة الأموال الباطنة إن أخذها الإمام.
ومصرف هذا النّوع المصارف الثّمانية الّتي نصّ عليها القرآن العظيم.
وفي ذلك تفصيل وخلاف يرجع إليه في مصطلح « زكاة » .
وقد نقل الماورديّ الخلاف بين الفقهاء في صفة اليد على هذه الأموال ، فنقل أنّ قول أبي حنيفة : إنّها من حقوق بيت المال ، أي أملاكه الّتي يرجع التّصرّف فيها إلى رأي الإمام واجتهاده ، كمال الفيء.
ولذا يجوز صرفه في المصالح العامّة كالفيء ، وإن رأى الشّافعيّ أنّ بيت المال مجرّد حرزٍ للزّكاة يحرّزها لأصحابها ، فإن وجدوا وجب الدّفع إليهم ، وإن لم يوجدوا أحرزها لبيت المال ، وجوباً على مذهبه القديم ، وجوازاً على مذهبه الجديد ، بناءً على وجوب دفع الزّكاة إلى الإمام ، أو جواز ذلك.
ونقل أبو يعلى الحنبليّ أنّ قول أحمد كقول الشّافعيّ في ذلك وخرّج وجهاً في زكاة الأموال الظّاهرة كقول أبي حنيفة.
«البيت الثّاني : بيت الأخماس»
9 - والمراد بالأخماس
أ - خمس الغنائم المنقولة ، وقيل : وخمس العقارات الّتي غنمت أيضاً.
ب - خمس ما يوجد من كنوز الجاهليّة وقيل هو زكاة.
ج - خمس أموال الفيء على قول الشّافعيّ ، وإحدى روايتين عن أحمد.
وعلى الرّواية الأخرى ومذهب الحنفيّة والمالكيّة : لا يخمّس الفيء.
ومصرف هذا النّوع خمسة أسهمٍ : سهم للّه ورسوله ، وسهم لذوي القربى ، وسهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لابن السّبيل ، على ما قال اللّه تعالى : «واعلموا أنّما غنمتم من شيءٍ فأنّ للّه خمسه وللرّسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السّبيل» وكان السّهم الأوّل يأخذه النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حياته ، وبعده يصرف في مصالح المسلمين على رأي الإمام ، فينقل لبيت مال الفيء الآتي ذكره.
وسائر الأسهم الأربعة تحرّز لأصحابها في بيت المال ، حتّى تقسّم عليهم ، وليس للإمام أن يصرفها في المصالح.
«البيت الثّالث : بيت الضّوائع»
10 - وهي الأموال الضّائعة ونحوها من لقطةٍ لا يعرف صاحبها ، أو مسروقٍ لا يعلم صاحبه ونحوهما على ما تقدّم ، فتحفظ في هذا البيت محرّزةً لأصحابها ، فإن حصل اليأس من معرفتهم صرف في وجهه.
ومصرف أموال هذا البيت - على ما نقله ابن عابدين عن الزّيلعيّ ، وقال : إنّه المشهور عند الحنفيّة - هو اللّقيط الفقير ، والفقراء الّذين لا أولياء لهم ، فيعطون منه نفقتهم وأدويتهم وتكاليف أكفانهم ودية جناياتهم.
وقال الماورديّ : عند أبي حنيفة يصرف لهؤلاء صدقةً عمّن المال له ، أو من خلّف المال.
ولم نعثر لغير الحنفيّة على تخصيص هذا النّوع من الأموال بمصرفٍ خاصٍّ ، فالظّاهر أنّها عندهم تصرف في المصالح العامّة كالفيء ، وهو ما صرّح به أبو يعلى والماورديّ في مال من مات بلا وارثٍ ، وبناءً على ذلك تكون البيوت عندهم ثلاثةً لا أربعةً.
«البيت الرّابع : وهو بيت مال الفيء»
11 - أهمّ موارد هذا البيت ما يلي
أ - أنواع الفيء الّتي تقدّم ذكرها.
ب - سهم اللّه ورسوله من الأخماس.
ج - الأراضي الّتي غنمها المسلمون على القول بأنّها لا تقسّم ، وأنّها ليست من الوقف المصطلح عليه.
د - خراج الأرض الّتي غنمها المسلمون ، سواء اعتبرت وقفاً أم غير وقفٍ.
هـ - خمس الكنوز الّتي لم يعلم صاحبها ، أو تطاول عليها الزّمن.
و - خمس الخارج من الأرض من معدنٍ أو نفطٍ أو نحو ذلك.
وقيل : ما يؤخذ من ذلك هو زكاة مقدارها ربع العشر ، ويصرف في مصارف الزّكاة.
ز - مال من مات بلا وارثٍ من المسلمين ، ومن ذلك ديته.
ح - الضّرائب الموظّفة على الرّعيّة ، الّتي لم توظّف لغرضٍ معيّنٍ.
ط - الهدايا إلى القضاة والعمّال والإمام.
ى - أموال البيت السّابق على قول غير الحنفيّة.
«مصارف بيت مال الفيء»
12 - مصرف أموال هذا البيت المصالح العامّة للمسلمين ، فيكون تحت يد الإمام ، ويصرف منه بحسب نظره واجتهاده في المصلحة العامّة.
والفقهاء إذا أطلقوا القول بأنّ نفقة كذا هي في بيت المال ، يقصدون هذا البيت الرّابع ، لأنّه وحده المخصّص للمصالح العامّة ، بخلاف ما عداه ، فالحقّ فيه لجهاتٍ محدّدةٍ ، يصرف لها لا لغيرها.
وفيما يلي بيان بعض المصالح الّتي تصرف فيها أموال هذا البيت ممّا ورد في كلام الفقهاء ، لا على سبيل الحصر والاستقصاء ، فإنّ أبواب المصالح لا تنحصر ، وهي تختلف من عصرٍ إلى عصرٍ ، ومن بلدٍ إلى بلدٍ.
13 - ومن أهمّ المصالح الّتي تصرف فيها أموال هذا البيت ما يلي
أ - العطاء ، وهو نصيب من بيت مال المسلمين يعطى لكلّ مسلمٍ ، سواء أكان من أهل القتال أم لم يكن.
وهذا أحد قولين للحنابلة قدّمه صاحب المغني ، وهو كذلك أحد قولين للشّافعيّة هو خلاف الأظهر عندهم.
قال الإمام أحمد : في الفيء حقّ لكلّ المسلمين ، وهو بين الغنيّ والفقير.
ومن الحجّة لهذا القول قول اللّه تعالى : «ما أفاء اللّه على رسوله من أهل القرى فللّه وللرّسول» الآية.
ثمّ قال : «للفقراء المهاجرين الّذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من اللّه ورضواناً وينصرون اللّه ورسوله أولئك هم الصّادقون» ثمّ قال : «والّذين تبوّءوا الدّار والإيمان من قبلهم يحبّون من هاجر إليهم» ثمّ قال : «والّذين جاءوا من بعدهم» فاستوعب كلّ المسلمين.
ولهذا قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه بعد أن قرأ الآيات من سورة الحشر : هذه - يعني الآية الأخيرة - استوعبت المسلمين عامّةً ، ولإن عشت ليأتينّ الرّاعي بسرو حمير نصيبه منها ، لم يعرق فيه جبينه.
والقول الثّاني للحنابلة ، وهو الأظهر عند الشّافعيّة : أنّ أهل الفيء هم أهل الجهاد المرابطون في الثّغور ، وجند المسلمين ، ومن يقوم بمصالحهم - أي بالإضافة إلى أبواب المصالح الآتي بيانها.
وأمّا الأعراب ونحوهم ممّن لا يعدّ نفسه للقتال في سبيل اللّه فلا حقّ لهم فيه ، ما لم يجاهدوا فعلاً.
ومن الحجّة لهذا القول ما في صحيح مسلمٍ وغيره من حديث بريدة «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أمّر أميراً على جيشٍ أو سريّةٍ أوصاه في خاصّته بتقوى اللّه» إلى أن قال : «ثمّ ادعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم ، ثمّ ادعهم إلى التّحوّل من دارهم إلى دار المهاجرين ، وأخبرهم أنّهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين ، وعليهم ما على المهاجرين.
فإن أبوا أن يتحوّلوا منها ، فأخبرهم أنّهم يكونون كأعراب المسلمين ، يجري عليهم حكم اللّه الّذي يجري على المؤمنين ، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء ، إلاّ أن يجاهدوا مع المسلمين»
.
وقيل عند الشّافعيّة : إنّ الفيء كلّه يجب قسمه بين من له رزق في بيت المال في عامه ، ولا يبقى منه شيء ولا يوفّر شيء للمصالح ما عدا خمس الخمس « أي الّذي للّه ورسوله » والتّحقيق عندهم : إعطاء من لهم رزق في بيت المال كفايتهم ، وصرف ما يتبقّى من مال الفيء للمصالح.
ب - الأسلحة والمعدّات والتّحصينات وتكاليف الجهاد والدّفاع عن أوطان المسلمين.
ج - رواتب الموظّفين الّذين يحتاج إليهم المسلمون في أمورهم العامّة ، من القضاة والمحتسبين ، ومن ينفّذون الحدود ، والمفتين والأئمّة والمؤذّنين والمدرّسين ، ونحوهم من كلّ من فرّغ نفسه لمصلحة المسلمين ، فيستحقّ الكفاية من بيت المال له ولمن يعوله.
ويختلف ذلك باختلاف الأعصار والبلدان لاختلاف الأحوال والأسعار.
وليست هذه الرّواتب أجرةً للموظّفين من كلّ وجهٍ ، بل هي كالأجرة ، لأنّ القضاء ونحوه من الطّاعات لا يجوز أخذ الأجرة عليه أصلاً.
ثمّ إن سمّي للموظّف مقدار معلوم استحقّه ، وإلاّ استحقّ ما يجري لأمثاله إن كان ممّن لا يعمل إلاّ بمرتّبٍ.
وأرزاق هؤلاء ، وأرزاق الجند إن لم توجد في بيت المال ، تبقى ديناً عليه ، ووجب إنظاره ، كالدّيون مع الإعسار.
بخلاف سائر المصالح فلا يجب القيام بها إلاّ مع القدرة ، وتسقط بعدمها.
والرّاجح عند الحنفيّة : أنّ من مات من أهل العطاء ، كالقاضي والمفتي والمدرّس ونحوهم قبل انتهاء العام ، يعطى حصّته من العام ، أمّا من مات في آخره أو بعد تمامه فإنّه يجب الإعطاء إلى وارثه.
د - القيام بشئون فقراء المسلمين من العجزة واللّقطاء والمساجين الفقراء ، الّذين ليس لهم ما ينفق عليهم منه ، ولا أقارب تلزمهم نفقتهم ، فيتحمّل بيت المال نفقاتهم وكسوتهم وما يصلحهم من دواءٍ وأجرة علاجٍ وتجهيز ميّتٍ ، وكذا دية جناية من لم يكن له عاقلة من المسلمين ، أو كان له عاقلة فعجزوا عن الكلّ أو البعض ، فإنّ بيت المال يتحمّل باقي الدّية ، ولا تعقل عن كافرٍ.
ونبّه بعض الشّافعيّة إلى أنّ إقرار الجاني لا يقبل على بيت المال ، كما لا يقبل على العاقلة.
هـ - الإنفاق على أهل الذّمّة من بيت المال : ليس لكافرٍ ذمّيٍّ أو غيره حقّ في بيت مال المسلمين.
لكنّ الذّمّيّ إن احتاج لضعفه يعطى ما يسدّ جوعته.
وفي كتاب الخراج لأبي يوسف أنّ ممّا أعطاه خالد بن الوليد رضي الله عنه في عهده لأهل الحيرة : أيّما شيخٍ ضعف عن العمل ، أو أصابته آفة من الآفات ، أو كان غنيّاً فافتقر ، وصار أهل دينه يتصدّقون عليه طرحت جزيته ، وعيل من بيت مال المسلمين وعياله ما أقام بدار الهجرة ودار الإسلام.
ونقل مثل ذلك أبو عبيدٍ في كتاب الأموال.
و - ومن مصارف بيت مال الفيء أيضاً : فكاك أسرى المسلمين من أيدي الكفّار ، ونقل أبو يوسف في كتاب الخراج قول عمر بن الخطّاب رضي الله عنه : كلّ أسيرٍ كان في أيدي المشركين من المسلمين ففكاكه من بيت مال المسلمين.
وهناك وجه للشّافعيّة بأنّ فكاكه في ماله هو « ر : أسرى » .
وشبيه بهذا ما قاله بعض الشّافعيّة أنّ مالك الدّوابّ - غير المأكولة - لو امتنع من علفها ، ولم يمكن إجباره لفقره مثلاً ينفق عليها من بيت المال مجّاناً ، وكذلك الدّابّة الموقوفة إن لم يمكن أخذ النّفقة من كسبها.
ز - المصالح العامّة لبلدان المسلمين ، من إنشاء المساجد والطّرق والجسور والقناطر والأنهار والمدارس ونحو ذلك ، وإصلاح ما تلف منها.
ح - ضمان ما يتلف بأخطاء أعضاء الإدارة الحكوميّة : من ذلك أخطاء وليّ الأمر والقاضي ونحوهم من سائر من يقوم بالأعمال العامّة ، إذا أخطئوا في عملهم الّذي كلّفوا به ، فتلف بذلك نفس أو عضو أو مال ، كدية من مات بالتّجاوز في التّعزير ، فحيث وجب ضمان ذلك يضمن بيت المال.
فإن كان العمل المكلّف به لشأنٍ خاصٍّ للإمام أو غيره من المسئولين فالضّمان على عاقلته ، أو في ماله الخاصّ بحسب الأحوال.
وذلك لأنّ أخطاءهم قد تكثر ، فلو حملوها هم أو عاقلتهم لأجحف بهم.
هذا عند الحنفيّة والمالكيّة ، وهو الأصحّ عند الحنابلة ، والقول غير الأظهر للشّافعيّة.
أمّا الأظهر للشّافعيّة ، ومقابل الأصحّ عند الحنابلة فهو أنّ الضّمان على عاقلته.
أمّا ضمان العمد فيتحمّله فاعله اتّفاقاً.
ط - تحمّل الحقوق الّتي أقرّها الشّرع لأصحابها ، واقتضت قواعد الشّرع أن لا يحملها أحد معيّن : ومن أمثلة ذلك ما لو قتل شخص في زحام طوافٍ أو مسجدٍ عامٍّ أو الطّريق الأعظم ، ولم يعرف قاتله ، فتكون ديته في بيت المال لقول عليٍّ رضي الله عنه : لا يبطل في الإسلام دم ، وقد «تحمّل النّبيّ صلى الله عليه وسلم دية عبد اللّه بن سهلٍ الأنصاريّ حين قتل في خيبر ، لمّا لم يعرف قاتله ، وأبى الأنصار أن يحلفوا القسامة ، ولم يقبلوا أيمان اليهود ، فوداه النّبيّ صلى الله عليه وسلم من عنده كراهية أن يبطل دمه» .
ومن ذلك أيضاً أجرة تعريف اللّقطة ، فللقاضي أن يرتّب أجرة تعريفها من بيت المال ، على أن تكون قرضاً على صاحبها.
«أولويّات الصّرف من بيت المال»
14 - يرى المالكيّة والشّافعيّة أنّه يندب البدء بالصّرف لآل النّبيّ صلى الله عليه وسلم الّذين تحرم عليهم الصّدقة ، اقتداءً بفعل عمر رضي الله عنه ، إذ قدّم آل بيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم في ديوان العطاء.
ثمّ بعد ذلك يجب البدء بمصالح أهل البلد الّذين جمع منهم المال ، كبناء مساجدهم وعمارة ثغورهم وأرزاق قضاتهم ومؤذّنيهم وقضاء ديونهم وديات جناياتهم ، ويعطون كفاية سنتهم.
وإن كان غير فقراء البلد الّتي جبي فيها المال أكثر احتياجاً منهم ، فإنّ الإمام يصرف القليل لأهل البلد الّتي جبي فيها المال ، ثمّ ينقل الأكثر لغيرهم.
ويرى الحنابلة أنّه إذا اجتمع على بيت المال حقّان ، ضاق عنهما واتّسع لأحدهما ، صرف فيما يصير منهما ديناً على بيت المال لو لم يؤدّ في وقته ، كأرزاق الجند وأثمان المعدّات والسّلاح ونحوهما ، دون ما يجب على وجه الإرفاق والمصلحة ، كالطّرق ونحوها.
«الفائض في بيت المال»
15 - لعلماء المسلمين فيما يفيض في بيت المال ، بعد أداء الحقوق الّتي عليه ، ثلاثة اتّجاهاتٍ : الأوّل - وهو مذهب الشّافعيّة : أنّه يجب تفريق الفائض وتوزيعه على من يعمّ به صلاح المسلمين ، ولا يدّخر ، لأنّ ما ينوب المسلمين يتعيّن فرضه عليهم إذا حدث.
وفي المنهاج وشرحه من كتب الشّافعيّة : يوزّع الفائض على الرّجال البالغين ممّن لهم رزق في بيت المال ، لا على غيرهم ولا ذراريّهم.
قال القليوبيّ : والغرض أن لا يبقى في بيت المال شيء.
والثّاني - وهو مذهب الحنفيّة : أنّها تدّخر في بيت المال لما ينوب المسلمين من حادثٍ.
والثّالث - التّفويض لرأي الإمام ، قال القليوبيّ من الشّافعيّة : قال المحقّقون : للإمام الادّخار.
ونقل صاحب جواهر الإكليل عن المدوّنة : يبدأ في الفيء بفقراء المسلمين ، فما بقي يقسّم بين النّاس بالسّويّة ، إلاّ أن يرى الإمام حبسه لنوائب المسلمين.
إذا عجز بيت المال عن أداء الحقوق
16 - بيّن الماورديّ وأبو يعلى حالة عجز بيت المال عن أداء الحقوق فقالا ما حاصله : إنّ المستحقّ على بيت المال ضربان : الأوّل : ما كان بيت المال له مجرّد حرزٍ ، كالأخماس والزّكاة ، فاستحقاقه معتبر بالوجود ، فإن كان المال موجوداً فيه كان مصرفه مستحقّاً ، وعدمه مسقط لاستحقاقه.
الثّاني : ما كان بيت المال له مستحقّاً ، وهو مال الفيء ونحوه ، ومصارفه نوعان : أوّلهما : ما كان مصرفه مستحقّاً على وجه البدل ، كرواتب الجنود ، وأثمان ما اشتري من السّلاح والمعدّات ، فاستحقاقه غير معتبرٍ بالوجود ، بل هو من الحقوق اللّازمة لبيت المال مع الوجود والعدم.
فإن كان موجوداً يعجّل دفعه ، كالدّين على الموسر ، وإن كان معدوماً وجب فيه ، ولزم إنظاره ، كالدّين على المعسر.
ثانيهما : أن يكون مصرفه مستحقّاً على وجه المصلحة والإرفاق دون البدل ، فاستحقاقه معتبر بالوجود دون العدم.
فإن كان موجوداً وجب فيه ، إن كان معدوماً سقط وجوبه عن بيت المال.
ثمّ يكون - إن عمّ ضرره - من فروض الكفاية على المسلمين ، حتّى يقوم به من فيه كفاية كالجهاد ، وإن كان ممّا لا يعمّ ضرره كوعورة طريقٍ قريبٍ يجد النّاس غيره طريقاً بعيداً ، أو انقطاع شربٍ يجد النّاس غيره شرباً.
فإذا سقط وجوبه عن بيت المال بالعدم سقط وجوبه عن الكافّة ، لوجود البدل.
ويلاحظ أنّه قد يكون العجز في بيت المال الفرعيّ ، أي في أحد الأقاليم التّابعة للإمام.
فإذا قلّد الخليفة أميراً على إقليمٍ ، فإذا نقص مال الخراج عن أرزاق جيشه ، فإنّه يطالب الخليفة بتمامها من بيت المال.
أمّا إن نقص مال الصّدقات عن كفاية مصارفها في عمله فلا يكون له مطالبة الخليفة بتمامها ، وذلك لأنّ أرزاق الجيش مقدّرة بالكفاية ، وحقوق أهل الصّدقات معتبرة بالوجود.
«تصرّفات الإمام في الدّيون على بيت المال»
17 - إذا ثبتت الدّيون على بيت المال ، ولم يكن فيه وفاء لها ، فللإمام أن يستقرض من أحد بيوت المال للبيت الآخر ، نصّ على ذلك الحنفيّة.
وقالوا : وإذا حصل للخزانة الّتي استقرض لها مال يردّ إلى المستقرض منه ، إلاّ أن يكون المصروف من الصّدقات أو خمس الغنائم على أهل الخراج ، وهم فقراء ، فإنّه لا يردّ من ذلك شيئاً ، لاستحقاقهم الصّدقات بالفقر.
وكذا غيره إذا صرف إلى المستحقّ.
وللإمام أيضاً أن يستعير أو يقترض لبيت المال من الرّعيّة.
«وقد استعار النّبيّ صلى الله عليه وسلم دروعاً للجهاد من صفوان بن أميّة» «واستسلف عليه الصلاة والسلام بعيراً وردّ مثله من إبل الصّدقة» ، وذلك اقتراض على خزانة الصّدقات من بيت المال.
«تنمية أموال بيت المال والتّصرّف فيها»
18 - بالإضافة إلى ما تقدّم من صلاحيات الإنفاق في بيت المال ، فإنّ للإمام التّصرّف في أموال بيت المال.
والقاعدة في ذلك أنّ منزلة الإمام من أموال بيت المال منزلة الوليّ من مال اليتيم ، كما قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه : إنّي أنزلت نفسي من هذا المال منزلة وليّ اليتيم.
فله فيه من التّصرّف ما لوليّ اليتيم في مال اليتيم.
وليست هذه القاعدة على إطلاقها ، فلا يلزم التّشبيه من كلّ وجهٍ ، بدليل أنّ للإمام التّمليك من بيت المال والإقطاع منه.
ومن الأمثلة الّتي تعرّض لها بعض الفقهاء ما يلي :
أ - البيع : يجوز للإمام بيع شيءٍ من أموال بيت المال ، إذا رأى المصلحة في ذلك.
أمّا شراؤه لنفسه شيئاً منها فقد جاء في الدّرّ المختار : لا يصحّ بيع الإمام ولا شراؤه من وكيل بيت المال لشيءٍ من أموال بيت المال ، لأنّه كوكيل اليتيم ، فلا يجوز ذلك منه إلاّ لضرورةٍ.
زاد في البحر : أو رغب في العقار بضعف قيمته ، على قول المتأخّرين المفتى به.
ب - الإجارة : أرض بيت المال تجري عليها أحكام الوقوف المؤبّدة.
فتؤجّر كما يؤجّر الوقف.
ج - المساقاة : تصحّ المساقاة من الإمام على بساتين بيت المال ، كما تصحّ من جائز التّصرّف لصبيٍّ تحت ولايته.
د - الإعارة : اختلف قول الشّافعيّة في إعارة الإمام لشيءٍ من أموال بيت المال ، فأفتى الإسنويّ بجوازه ، بناءً على أنّه إذا جاز له التّمليك من بيت المال فالإعارة أولى.
وقال الرّمليّ : لا يجوز للإمام مطلقاً إعارة أموال بيت المال ، كالوليّ في مال مولّيه.
وقال القليوبيّ : ثمّ إن أخذ أحد شيئاً من بيت المال عاريّةً فهلك في يده فلا ضمان عليه ، إن كان له في بيت المال حقّ ، وتسميته عاريّةً مجاز.
هـ - الإقراض : ذكر ابن الأثير أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أقرض هنداً بنت عتبة أربعة آلافٍ تتّجر فيها وتضمنها.
وممّا يجري مجرى الإقراض الإنفاق بقصد الرّجوع ، ومن ذلك الإنفاق على البهيمة الضّائعة ونحوها ، حفظاً لها من التّلف.
ثمّ يرجع بيت المال بالنّفقة على صاحب البهيمة ، وإن لم يعرف بيعت ، وأخذ من ثمنها حقّ بيت المال.
«إقطاع التّمليك»
19 - يرى الحنفيّة أنّ للإمام أن يقطع من الأراضي الّتي لم تكن لأحدٍ ولا في يد وارثٍ ، لمن فيه غناء ونفع للمسلمين على سبيل النّظر في المصلحة ، لا على سبيل المحاباة والأثرة ، كما أنّ له أن يعطي من أموال بيت المال الأخرى ، إذ الأرض والمال شيء واحد.
كذا قال القاضي أبو يوسف ، واحتجّ بما روي أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أصفى أموال كسرى وأهله لبيت المال ، ومال كلّ رجلٍ قتل في الحرب أو لحق بأرض الحرب أو مغيض ماءٍ أو أجمةٍ.
وكان خراج ذلك سبعة آلاف ألفٍ ، فكان يقطع من هذه لمن أقطع.
قال أبو يوسف : وذلك بمنزلة المال الّذي لم يكن لأحدٍ ، ولا في يد وارثٍ ، فللإمام العادل أن يجيز منه ويعطي من كان له غناء في الإسلام.
ونقل هذا ابن عابدين ، وقال : هذا صريح في أنّ القطائع قد تكون من الموات ، وقد تكون من بيت المال لمن هو من مصارفه ، كما يعطي المال حيث رأى المصلحة ، وأنّ المقطع يملك رقبة الأرض ، ولذا يؤخذ منها العشر ، لأنّها بمنزلة الصّدقة.
ويرى الشّافعيّة والحنابلة - على ما فصّله الماورديّ وأبو يعلى - أنّ أراضي بيت المال ثلاثة أقسامٍ
أ - ما اصطفاه الإمام لبيت المال بحقّ الخمس أو باستطابة نفوس الغانمين ، كما اصطفى عمر أراضي كسرى وأهله ، ولم يقطع من ذلك شيئاً.
فلمّا جاء عثمان أقطع منه وأخذ منه حقّ الفيء.
قال الماورديّ : فكان ذلك إقطاع إجارةٍ لا إقطاع تمليكٍ.
ولا يجوز إقطاع رقبته ، لأنّه صار باصطفائه لبيت المال ملكاً لكافّة المسلمين ، فجرى على رقبته حكم الوقف المؤبّد.
ب - أرض الخراج ، فلا يجوز تمليك رقبتها ، لأنّ أرض الخراج بعضها موقوف ، وخراجها أجرة ، وبعضها مملوك لأهلها ، وخراجها جزية.
ج - ما مات عنه أربابه ولم يستحقّه وارث بفرضٍ أو تعصيبٍ.
واختلف أصحاب الشّافعيّ في هذا النّوع على وجهين : أحدهما : أنّها تصير وقفاً ، فعلى هذا لا يجوز بيعها ولا إقطاعها.
وثانيهما : أنّها لا تصير وقفاً حتّى يقفها الإمام.
فعلى هذا يجوز له إقطاعها تمليكاً ، كما يجوز بيعها.
ونقل قولاً آخر : أنّ إقطاعها لا يجوز ، وإن جاز بيعها ، لأنّ البيع معاوضة ، وهذا الإقطاع صلة ، والأثمان إذا صارت ناضّةً لها حكم يخالف في العطايا حكم الأصول الثّابتة ، فافترقا ، وإن كان الفرق بينهما ضعيفاً.
والحكم كذلك عند المالكيّة في أرض العنوة العامرة فإنّها لا يجوز للإمام إقطاعها تمليكاً ، بناءً على أنّها تكون وقفاً بنفس الاستيلاء عليها.
ولم نجد لهم تعرّضاً للأرض الّتي تئول إلى بيت المال بهلاك أربابها.
هل يجوز إقطاع التّمليك منها أم لا ؟.
«إقطاع الانتفاع والإرفاق والاستغلال»
20 - يجوز للإمام - إذا رأى المصلحة - أن يقطع من أراضي بيت المال أو عقاره - بعض النّاس إرفاقاً أو ليأخذ الغلّة.
قال المالكيّة : ثمّ ما اقتطعه الإمام من العنوة ، إن كان لشخصٍ بعينه انحلّ بموت المنتفع.
وإن كان لشخصٍ وذرّيّته وعقبه استحقّته الذّرّيّة بعده ، للأنثى مثل الذّكر.
وانظر « إرفاق.
إرصاد.
أرض الحوز »
وبعضهم جعل مثل هذا وقفاً.
«وقف عقار بيت المال»
21 - ذكر الحنفيّة جواز وقف الإمام من بيت المال ، ثمّ قالوا : إن كان السّلطان اشترى الأراضي والمزارع من وكيل بيت المال يجب مراعاة شرائطه ، إن وقفها من بيت المال لا تجب مراعاتها.
ويرى الشّافعيّة ، كما نقل عميرة البرلّسيّ : وقف الإمام من بيت المال.
قالوا : لأنّ له التّمليك منه ، وكما فعل عمر رضي الله عنه في أرض سواد العراق ، إذ وقفها على المسلمين.
وانظر « ر : إرصاد » .
«تمليك حقوق بيت المال قبل توريدها إليه»
22 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ للإمام أن يترك الخراج للمالك لا العشر ، ثمّ يحلّ ذلك للمالك عند أبي يوسف ، إن كان المالك ممّن يستحقّ شيئاً من بيت المال ، وإلاّ تصدّق به.
ولو ترك الإمام العشر ونحوه من أموال الزّكاة فلم يأخذه لا يجوز إجماعاً ، ويخرجه المالك بنفسه للفقراء ونحوهم من مصارف الزّكاة.
«الدّيون الّتي لبيت المال»
23 - تثبت لبيت المال الدّيون في ذمم الأفراد.
فلو ضرب الإمام أموالاً على الرّعيّة عامّةً ، أو طائفةٍ منهم أو أهل بلدٍ ، لمصلحتهم ، كتجهيز الجيوش أو فداء الأسرى ، وكأجرة الحراسة وكري الأنهار ، فمن لم يؤدّ من ذلك ما ضرب عليه بقي في ذمّته ديناً واجباً لبيت المال ، لا يجوز لهم الامتناع منه.
«انتظام بيت المال وفساده»
24 - يكون بيت المال منتظماً إذا كان الإمام عدلاً يأخذ المال من حقّه ، ويضعه في مستحقّه.
ويكون فاسداً إذا كان الإمام غير عدلٍ ، فيأخذ المال من أصحابه بغير حقٍّ.
أو يأخذه بحقٍّ ، ولكن ينفق منه في غير مصلحة المسلمين ، وعلى غير الوجه الشّرعيّ ، كما لو أنفقه في مصالحه الخاصّة ، أو يخصّ أقاربه أو من يهوى بما لا يستحقّونه ، ويمنع أهل الاستحقاق.
ومن الفساد أيضاً أن يفوّض الإمام أمر بيت المال إلى غير عدلٍ ، ولا يستقصي عليه فيما يتصرّف فيه من أموال بيت المال فيظهر منه التّضييع وسوء التّصرّف.
ومن أوجه فساد بيت المال أيضاً ما أشار إليه ابن عابدين : أن يخلط الإمام أموال بيت المال الأربعة بعضها ببعضٍ فلا تكون مفرزةً.
25 - وإذا فسد بيت المال ترتّبت عليه أحكام منها
أ - أنّ لمن عليه حقّاً لبيت المال - إذا لم يطّلع عليه - أن يمنع من ذلك الحقّ بقدر حقّه هو في بيت المال ، إن كان له فيه حقّ لم يعطه.
وإن لم يكن له فيه حقّ ، فإنّ له أن يصرفه مباشرةً في مصارف بيت المال ، كبناء مسجدٍ أو رباطٍ.
ذكر ذلك بعض الشّافعيّة بخصوص لقطةٍ حصل اليأس من معرفة صاحبها ، أو نحو ثوبٍ ألقته الرّيح إلى داره ولم يعلم صاحبه وأيس من ذلك ، وقالوا أيضاً : ما انحسر عنه ماء النّهر لو زرعه أحد لزمته أجرته لمصالح المسلمين ، ويسقط عنه قدر حصّته ، إن كان له حصّة في مال المصالح.
واستدلّ لذلك بما روي عن عائشة رضي الله عنها أنّ رجلاً قال لها : أصبت كنزاً فرفعته إلى السّلطان.
فقالت له : بفيك الكثكث.
والكثكث : التّراب.
ب - ومنها : لو منع السّلطان حقّ المستحقّين ، فظفر أحدهم بمالٍ لبيت المال ، فقد أجاز بعض الفقهاء أن يأخذ المستحقّ قدر ما كان يعطيه الإمام.
وهذا أحد أقوالٍ أربعةٍ ذكرها الغزاليّ.
ثانيها : أنّ له أن يأخذ كلّ يومٍ قدر قوته.
وثالثها : يأخذ كفاية سنته.
ورابعها : لا يجوز له أن يأخذ شيئاً لم يؤذن له فيه.
وأمّا المالكيّة فقد صرّحوا بأنّه لا يجوز السّرقة من بيت المال ، سواء انتظم أم لم ينتظم ، ويفهم من هذا أنّهم يوافقون القول الرّابع من الأقوال الّتي نقلها الغزاليّ.
ومفاد ما يذكره الحنفيّة : أنّ له في تلك الحال أن يأخذ قدر حقّه ديانةً ، إلاّ أنّه ليس له الأخذ من غير بيته الّذي يستحقّ هو منه إلاّ للضّرورة كما في زماننا ، إذ لو لم يجز أخذه إلاّ من بيته لزم أن لا يبقى حقّ لأحدٍ في زماننا ، لعدم إفراز كلّ بيتٍ على حدةٍ ، بل يخلطون المال كلّه.
ولو لم يأخذ ما ظفر به لم يمكنه الوصول إلى شيءٍ ، كما أفتى به ابن عابدين.
ج - ومنها ما أفتى به المتأخّرون من الشّافعيّة - وهم من بعد سنة 400 هـ - موافقةً لبعض المتقدّمين ، وقال به متأخّرو المالكيّة أيضاً : أنّه إذا لم ينتظم بيت المال يردّ على أهل الفرض غير الزّوجين ما فضل عن إرثهم ، فإن لم يكن ذو فرضٍ يردّ على ذوي الأرحام.
والحكم الأصليّ عند الشّافعيّة والمالكيّة ، في حال انتظام بيت المال ، عدم الرّدّ وعدم توريث ذوي الأرحام ، بل تكون التّركة كلّها أو فاضلها عن ذوي الفروض لبيت المال ، إن لم يكن عصبة.
«الاعتداء على أموال بيت المال»
26 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ من أتلف شيئاً من أموال بيت المال بغير حقٍّ كان ضامناً لما أتلفه ، وأنّ من أخذ منه شيئاً بغير حقٍّ لزمه ردّه ، أو ردّ مثله إن كان مثليّاً ، وقيمته إن كان قيميّاً.
وإنّما الخلاف بينهم في قطع يد السّارق من بيت المال ، ولهم في ذلك اتّجاهان أحدهما - وإليه ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة : أنّ السّارق من بيت المال لا تقطع يده.
واستدلّوا على ذلك بما روى ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما «أنّ عبداً من رقيق الخمس سرق من الخمس ، فرفع إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فلم يقطعه ، وقال : مال اللّه سرق بعضه بعضاً» .
وبما روي أنّ ابن مسعودٍ سأل عمر بن الخطّاب عن رجلٍ سرق من بيت المال ، فقال عمر : أرسله ، فما من أحدٍ إلاّ وله في هذا المال حقّ.
وثانيهما - وإليه ذهب المالكيّة أنّ السّارق من بيت المال تقطع يده ، واستدلّوا على ذلك بعموم قول اللّه تعالى «والسّارق والسّارقة فاقطعوا أيديهما» ، فإنّه عامّ يشمل السّارق من بيت المال والسّارق من غيره ، وبأنّ السّارق قد أخذ مالاً محرّزاً ، وليست له فيه شبهة قويّة ، فتقطع يده كما لو أخذ غيره من الأموال الّتي ليست له فيها شبهة قويّة.
«الخصومة في شأن أموال بيت المال»
27 - إذا ادّعي على بيت المال بحقٍّ ، أو كان لبيت المال حقّ قبل الغير ، ورفعت الدّعوى بذلك أمام القضاء ، كان للقاضي الّذي رفعت الدّعوى إليه أن يقضي فيها ، ولو أنّه أحد المستحقّين.
وإذا كان القاضي نفسه هو المدّعي أو المدّعى عليه ، فلا تتوجّه عليه دعوى أصلاً ، ولا على نائبه ، بل لا بدّ أن ينصّب من يدّعي ومن يدّعى عليه عنده ، أو عند غيره.
ومن جملة ما يمكن الادّعاء به : إيرادات بيت المال إذا قبضها العامل ، وأنكر صاحب بيت المال أنّه قبضها من العامل.
فيطالب العامل بإقامة الحجّة على صاحب بيت المال بالقبض ، فإن عدمها أحلف صاحب بيت المال ، وأخذ العامل بالغرم.
«الاستقصاء على الولاة ومحاسبة الجباة»
28 - على الإمام وولاته أن يراقبوا من يوكّل إليهم جمع الزّكاة وغيرها ممّا يجب لبيت المال ، وأن يستقصوا عليهم فيما يتصرّفون فيه من أموال بيت المال ، ويحاسبوهم في ذلك محاسبةً دقيقةً.
ففي صحيح البخاريّ من حديث أبي حميدٍ السّاعديّ قال : «استعمل النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد على صدقات بني سليمٍ يدعى ابن اللّتبيّة ، فلمّا جاء حاسبه» .
وقال القاضي أبو يعلى : مذهب أبي حنيفة في إيراد الصّدقات وجوب رفع الحساب عنها إلى كاتب الدّيوان ، ويجب على كاتب الدّيوان محاسبتهم على صحّة ما رفعوه ، وذلك لأنّ مصرف العشر ومصرف الخراج عند أبي حنيفة واحد.
وأمّا على مذهب الشّافعيّ فلا يجب على العمّال رفع الحساب عن العشور ، لأنّها عنده صدقة ، لا يقف مصرفها على اجتهاد الولاة.
وأمّا عمّال الخراج فيلزمهم رفع الحساب باتّفاق المذهبين.
ويجب على كاتب الدّيوان محاسبتهم على صحّة ما رفعوه.
ثمّ من وجبت محاسبته من العمّال لا يخلو من حالين الأولى : إن لم يقع بينه وبين كاتب الدّيوان اختلاف في الحساب كان كاتب الدّيوان مصدّقاً في الحساب.
وإن استراب فيه وليّ الأمر كلّفه إحضار شواهده ، فإن زالت الرّيبة عنه فلا يحلف ، وإن لم تزل الرّيبة - وأراد وليّ الأمر تحليفه عليه - حلف العامل دون كاتب الدّيوان ، لأنّ المطالبة متوجّهة على العامل دون كاتب الدّيوان.
الثّانية : إن وقع بين العامل وكاتب الدّيوان اختلاف في الحساب : فإن كان اختلافهما في الدّخل ، فالقول قول العامل ، لأنّه منكر.
وإن كان اختلافهما في الخرج ، فالقول قول الكاتب ، لأنّه منكر.
وإن كان اختلافهما في تقدير الخراج ، كما لو اختلفا في مساحةٍ يمكن إعادتها أعيدت ويعمل فيها بما يتبيّن.
وإن لم يمكن إعادتها يحلف ربّ المال دون الماسح.
29 - وقد فصّل الماورديّ وأبو يعلى صفة المحاسبة في ذلك ، واستعرضا ما يعتبر حجّةً في قبض ، الولاة من الجباة ، وأنّه يعمل في ذلك بالإقرار بالقبض ، أمّا الخطّ إذا أنكره ، أو لم يعترف به فعرف الدّواوين أن يكتفى به ، ويكون حجّةً.
والّذي عليه الفقهاء أنّه إن لم يعترف الوالي أنّه خطّه أو أنكره لم يلزمه ، ولم يكن حجّةً في القبض.
ولا يجوز أن يقاس بخطّه في الإلزام إجباراً ، وإنّما يقاس بخطّه إرهاباً ليعترف به طوعاً.
وقد يعترف الوالي بالخطّ وينكر القبض ، وحينئذٍ يكون ذلك في الحقوق السّلطانيّة خاصّةً حجّةً للعاملين بالدّفع ، وحجّةً على الولاة بالقبض اعتباراً بالعرف.
وأورد الماورديّ ذلك ثمّ قال : هذا هو الظّاهر من مذهب الشّافعيّ.
أمّا أبو حنيفة فالظّاهر من مذهبه أنّه لا يكون حجّةً عليه.
ولا للعاملين ، حتّى يقرّ به لفظاً كالدّيون الخاصّة.
قال وفيما قدّمناه من الفرق بينهما مقنع.
ويلاحظ أنّ كلّ ما ورد إلى عمّال المسلمين ، أو خرج من أيديهم من المال العامّ ، فحكم بيت المال جارٍ عليه في دخله إليه وخرجه عنه ، ولذلك تجرى المحاسبة عليه.


الموسوعة الفقهية الكويتية-39_



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق