الثلاثاء، 11 ديسمبر 2012

جكم اللقيط على المذاهب الأربعة


لَقِيط


التّعريف

1 - اللّقيط في اللغة : الطّفل الّذي يوجد مرمياً على الطرق لا يعرف أبوه ولا أمه .
وفي المصباح : وقد غلب اللّقيط على المولود المنبوذ .
واصطلاحاً عرّفه الحنفيّة بأنّه : اسم لحيّ مولودٍ طرحه أهله خوفاً من العيلة أو فراراً من تهمة الرّيبة .
وعرّفه ابن عرفة من المالكيّة بأنّه : صغير آدمي لم يعلم أبوه ولا رقه .
وعرّفه الشّافعيّة بأنّه : كل صبيٍّ ضائعٍ لا كافل له .
وعرّفه الحنابلة بأنّه : طفل غير مميّزٍ لا يعرف نسبه ولا رقه طرح في شارعٍ أو ضلّ الطّريق ما بين ولادته إلى سنّ التّمييز .

الألفاظ ذات الصّلة

«أ - اللقطة»
2 - اللقَطة في اللغة - بفتح القاف كما قال الأزهري - اسم الشّيء الّذي تجده ملقىً فتأخذه .
واللّقط - بفتحتين - ما يلقط من معدنٍ وسنبل وغيره , واللقطة : ما التقط .
وشرعاً هي : مال يوجد ضائعاً .
قال ابن عابدين : وخصّ اللّقيط ببني آدم , واللقطة بغيرهم للتّمييز بينهما .
«ب - الضّائع»
3 - الضّائع في اللغة من ضاع الشّيء يضيع ضياعاً : إذا فقد وهلك , وخصّه أهل اللغة بغير الحيوان كالعيال والمال , يقال : أضاع الرّجل عياله وماله .
ولا يخرج معناه الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ .
وعلى ذلك فالضّائع أعم من اللّقيط لأنّه يشمل الإنسان والمال .
«حكم التقاط اللّقيط»
4 - ذهب جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى أنّ التقاط المنبوذ فرض كفايةٍ إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين وإلا أثموا جميعاً لقوله تعالى : « وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى » ولأنّ فيه إحياء نفسٍ , قال تعالى : « وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً » إذ بإحيائها يسقط الحرج عن النّاس لأنّه آدمي محترم .
وقال الشّافعيّة والمالكيّة : هذا إذا لم يوجد غيره سيراه , فإن علم أنّه لا يوجد غيره كان التقاطه فرض عينٍ .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ التقاط المنبوذ مندوب إليه لما روي أنّ رجلاً أتى سيّدنا علياً رضي الله تعالى عنه بلقيط فقال : هو حر ولأن أكون وليت من أمره مثل الّذي وليت أنت كان أحبّ إليّ من كذا وكذا ، عدّ جملةً من أعمال الخير , فقد رغب في الالتقاط وبالغ في التّرغيب فيه حيث فضلّه على جملةٍ من أعمال الخير على المبالغة في النّدب إليه , ولأنّه نفس لا حافظ لها بل هي مضيعة فكان التقاطها إحياءً لها معنىً .
وهذا إذا لم يغلب على ظنّه هلاكه , فإن غلب على ظنّه هلاكه لو لم يرفعه بأن وجده في مفازةٍ ونحوها من المهالك كان التقاطه فرض كفايةٍ , وإذا كان لا يعلم به غيره كان التقاطه فرض عينٍ .
«الإشهاد على الالتقاط»
5 - قال المالكيّة : ينبغي للملتقط الإشهاد عند الالتقاط على أنّه التقطه خوف طول الزّمان فيدّعي الولديّة أو الاسترقاق , فإن تحقّق أو غلب على الظّنّ ذلك وجب الإشهاد .
وقال الشّافعيّة : يجب الإشهاد على الالتقاط في الأصحّ وإن كان الملتقط مشهور العدالة لئلا يسترقّ ويضيع نسبه , ويجب الإشهاد على ما معه بطريق التّبعيّة .
ومقابل الأصحّ : لا يجب الإشهاد اعتماداً على الأمانة .
ومحل وجوب الإشهاد ما لم يسلّمه له الحاكم فإن سلّمه له سُنّ ولا يجب .
وقال الحنابلة : يستحب للملتقط الإشهاد عليه كاللقطة دفعاً لنفسه لئلا تراوده باسترقاقه , كما يستحب الإشهاد على ما مع اللّقيط من مالٍ صوناً لنفسه عن جحده .
«الأحق بإمساك اللّقيط»
6 - الملتقط أحق بإمساك اللّقيط من غيره وليس لغيره أن يأخذه منه لأنّه هو الّذي أحياه بالتقاطه ولأنّه مباح الأخذ سبقت يد الملتقط إليه , والمباح مباح من سبق لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به » , وهذا أصل متّفق عليه بين المذاهب إذا تحقّقت في الملتقط الشروط الّتي اعتبرها كل مذهبٍ فإن تخلّف شرط منها انتزع من يده .
7 - وعلى ذلك فإنّ الحاكم ينتزعه من يد الملتقط في الأحوال الآتية :
أ - إذا التقطه صبي أو مجنون لعدم أهليّتهما وهذا ما ذهب إليه الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وهو ما يفهم من كلام المالكيّة .
ب - إذا التقطه محجور عليه لسفه فإنّه ينتزع منه لأنّه لا ولاية له على نفسه فعلى غيره أولى , وهذا ما ذهب إليه المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة , ولا يشترط ذلك عند الحنفيّة إذ يجوز عندهم التقاط السّفيه ولا ينتزع من يده فقد قال ابن عابدين العبد المحجور عليه يصح التقاطه فالمحجور لسفه أولى .
ج - إذا التقطه فاسق فإنّه ينتزع منه لأنّ العدالة شرط في إقراره في يد الملتقط وهذا ما ذهب إليه الشّافعيّة والحنابلة .
قال الشّافعيّة : وأمّا من ظاهر حاله الأمانة : إلا أنّه لم يختبر فلا ينتزع من يده لكن يوكّل القاضي به من يراقبه بحيث لا يعلم لئلا يتأذّى .
وقال الحنابلة : إذا التقط اللّقيط من هو مستور الحال لم تعرف منه حقيقة العدالة ولا الخيانة أقرّ اللّقيط في يديه , لأنّ حكمه حكم العدل في لقطة المال والولاية في النّكاح والشّهادة فيه , ولأنّ الأصل في المسلم العدالة , ولذلك قال عمر رضي الله تعالى عنه : المسلمون عدول بعضهم على بعضٍ .
ولا يشترط ذلك عند الحنفيّة فقد جاء في حاشية ابن عابدين : التقاط الكافر صحيح والفاسق أولى , لكن قال ابن عابدين لو كان الملتقط فاسقاً فإنّه ينتزع منه إن خشي عليه الفجور باللّقيط فينتزع منه قبل حدّ الاشتهاء .
د - إذا التقطه عبد دون إذن سيّده فإنّه ينتزع منه فإن أذن له السّيّد في التقاطه أو علم السّيّد بعد التقاطه وأقرّه في يده فلا ينتزع منه وكان السّيّد هو الملتقط وهو نائبه في الأخذ والتّربية , وهذا ما ذهب إليه المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة .
ولم يشترط الحنفيّة الحرّيّة في الالتقاط فقالوا : يصح التقاط العبد المحجور عليه .
هـ - إذا التقطه كافر وكان اللّقيط محكوماً بإسلامه فإنّه ينتزع منه لأنّه يشترط الإسلام في التقاط المسلم ولأنّ الكفالة ولاية ولا ولاية للكافر على المسلم ولأنّه لا يؤمن أن يفتنه في دينه , فإن كان اللّقيط محكوماً بكفره أقرّ في يده لأنّه على دينه , ولأنّ الّذين كفروا بعضهم أولياء بعضٍ , وهذا ما ذهب إليه المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة , ولم يشترط الحنفيّة الإسلام فيمن يلتقط .
و - وقد ذكر الحنفيّة شرطاً عاماً وهو كون الملتقط أهلاً لحفظ اللّقيط , قالوا : وينبغي أن ينتزع منه إذا لم يكن أهلاً لحفظه , كما أنّه لا يشترط أن يكون الملتقط ذكراً عند جميع الفقهاء فيصح التقاط المرأة ولا ينتزع منها إلا أنّ المالكيّة قيّدوا ذلك بما إذا كانت المرأة حرّةً خاليةً من الأزواج أو كانت ذات زوجٍ وأذن لها زوجها .
ز - في وجهٍ عند الشّافعيّة أنّه إذا التقطه فقير فإنّه لا يقر في يده , لأنّه لا يقدر على القيام بحضانته وفي ذلك إضرار باللّقيط , والوجه الثّاني أنّه يقر في يده لأنّ اللّه تعالى يقوم بكفاية الجميع .
هذا ما ذكره الشّيرازي إلا أنّ النّوويّ ذكر بأنّ الصّحيح أنّه لا يشترط الغني .
«السّفر باللّقيط»
8 - ذكر حكم السّفر باللّقيط الشّافعيّة والحنابلة مع تفصيلٍ لكلّ منهما بيانه فيما يلي :
فرّق الشّافعيّة بين التقاط المقيم في مكانٍ والغريب عن مكان الملتقط فقالوا :
أ - الأصح أنّ الغريب إذا كان أميناً واختبرت أمانته ووجد لقيطاً ببلد فله أن ينقله إلى بلده لتقارب المعيشة لكن بشرط أمن الطّريق وتواصل الأخبار , فإن لم تختبر أمانته وجهل حاله لم يقرّ في يده لأنّه لا يؤمن أن يسترقّه إذا غاب .
ومقابل الأصحّ لا يجوز له نقله خشية ضياع النّسب .
ب - وقال الشّافعيّة : إذا وجد بلدي لقيطاً ببلد فليس له نقله إلى باديةٍ لخشونة عيشها وتفويت العلم والدّين والصّنعة , وقيل لضياع النّسب .
والأصح أنّ له نقله إلى بلدٍ آخر .
وهذا الخلاف إنّما هو عند أمن الطّريق وتواصل الأخبار , فإن كان الطّريق مخوفاً أو انقطعت الأخبار بينهما لم يقرّ اللّقيط في يده قطعاً .
ولم يفرّق الجمهور - أي جمهور فقهاء الشّافعيّة - بين مسافة القصر ودونها , وجعل الماورديّ الخلاف في مسافة القصر وقطع فيما دونها بالجواز ومنعه في الكفاية , وما عليه الجمهور هو المعتمد .
ج - وإن وجد اللّقيط بلدي ببادية في حِلّةٍ أو قبيلةٍ فله نقله إلى قريةٍ وإلى بلدٍ يقصده لأنّه أرفق به , وقيل وجهان , فإن كانت البادية في مهلكةٍ فله نقله لمقصده قطعاً .
د - وإن وجد اللّقيط بدوي ببادية أقرّ بيده وإن كان أهل حلّته ينتقلون لأنّها في حقّه كبلدة أو قريةٍ , وقيل : إن كانوا ينتقلون للنجعة - أي الانتقال لطلب المرعى - لم يقرّ في يده لأنّ فيه تضييعاً لنسبه .
قال الرّملي : وعلم ممّا تقرّر أنّ للملتقط نقل اللّقيط من بلدٍ أو قريةٍ أو باديةٍ لمثله أو أعلى منه لا لدونه , وأنّ شرط جواز النّقل مطلقاً إن أمن الطّريق والمقصد وتواصل الأخبار واختبار أمانة الملتقط .
ويفرّق الحنابلة بين السّفر باللّقيط لغير النّقلة والسّفر به إلى مكانٍ للإقامة به .
كما يفرّقون بين الملتقط إذا كان مستور الحال لم تعرف منه حقيقة العدالة ولا الخيانة وبين من عرفت عدالته وظهرت أمانته .
قال ابن قدامة : من كان مستور الحال لم تعرف منه حقيقة العدالة ولا الخيانة وأراد السّفر باللّقيط ففيه وجهان :
أحدهما : لا يقرّ في يديه , لأنّه لم يتحقّق أمانته فلم تؤمن الخيانة منه .
والثّاني : يقر في يديه , لأنّه يقر في يديه في الحضر من غير مشرفٍ يضم إليه فأشبه العدل ولأنّ الظّاهر السّتر والصّيانة .
أما من عرفت عدالته وظهرت أمانته فيقر اللّقيط في يده في سفره وحضره , لأنّه مأمون عليه إذا كان سفره لغير النقلة .
فإن كان سفر الملتقط الأمين باللّقيط إلى مكانٍ يقيم به نظرنا , فإن كان التقطه من الحضر فأراد الانتقال به إلى البادية لم يقرّ في يده , لأنّ مقامه في الحضر أصلح له في دينه ودنياه وأرفه له , ولأنّه إذا وجد في الحضر فالظّاهر أنّه ولد فيه فبقاؤُه فيه أرجى لكشف نسبه وظهور أهله واعترافهم به .
فإن أراد الانتقال به إلى بلدٍ آخر من الحضر ففيه وجهان :
أحدهما : لا يقر في يده , لأنّ بقاءه في بلده أرجى لكشف نسبه , فلم يقرّ في يد المنتقل عنه قياساً على المنتقل به إلى البادية .
والوجه الثّاني : يقر في يده , لأنّ ولايته ثابتة , والبلد الثّاني كالأوّل في الرّفاهية فيقر في يده كما لو انتقل من أحد جانبي البلد إلى الجانب الآخر .
وإن كان الالتقاط من البادية فله نقله إلى الحضر , لأنّه ينقله من أرض البؤس والشّقاء إلى الرّفاهية والدّعة والدّين , وإن أقام في حلّةٍ يستوطنها فله ذلك .
وإن كان ينتقل به إلى المواضع احتمل أن يقر في يديه لأنّ الظّاهر أنّه ابن بدويّين وإقراره في يد ملتقطه أرجى لكشف نسبه , ويحتمل أن يؤخذ منه فيدفع إلى صاحب قريةٍ , لأنّه أرفه له وأخف عليه .
وكل موضعٍ قلنا ينزع من ملتقطه فإنّما يكون ذلك إذا وجد من يُدفع إليه ممّن هو أولى به فإن لم يوجد من يقوم به أقرّ في يدي ملتقطه , وإن لم يوجد إلا مثل ملتقطه فملتقطه أولى به إذ لا فائدة في نزعه من يده .
«حرّيّة اللّقيط ورقه»
9 - ذهب الفقهاء إلى أنّ اللّقيط حر من حيث الظّاهر لأنّ الأصل في بني آدم إنّما هو الحرّيّة فإنّ اللّه تعالى خلق آدم وذرّيّته أحراراً وإنّما الرّق لعارض فإذا لم يعلم ذلك العارض فله حكم الأصل , وقد روي هذا عن عمر وعليٍّ وبه قال عمر بن عبد العزيز والشّعبي والحكم وحمّاد والثّوري وإسحاق .
وللفقهاء في ذلك تفصيل ينظر في : « رقّ ف 3 وما بعدها » .
«الحكم بإسلام اللّقيط أو كفره»
10 - اختلف الفقهاء في الأصل الّذي يحكم به على اللّقيط من حيث الإسلام أو الكفر , هل يكون الأصل في ذلك هو الدّار الّتي وجد فيها من حيث كونها دار إسلامٍ أو دار كفرٍ أو أنّ الأصل في ذلك هو حال الواجد من كونه مسلماً أو غير مسلمٍ ؟
فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ المعتبر في ذلك هو الدّار الّتي يوجد فيها اللّقيط فإن كانت الدّار دار إسلامٍ حكم بإسلامه تبعاً للدّار الّتي وجد فيها , والدّار الّتي تعتبر دار إسلامٍ عندهم هي :
أ - دار يسكنها المسلمون ولو كان فيها أهل ذمّةٍ تغليباً للإسلام ولظاهر الدّار ولأنّ الإسلام يعلو ولا يعلى عليه .
ب - دار فتحها المسلمون وقبل ملكها أقروها بيد الكفّار صلحاً .
ج - دار فتحها المسلمون وملكوها عنوةً وأقروا أهلها عليها بجزية .
د - دار كان المسلمون يسكنونها ثمّ أجلاهم الكفّار عنها .
ففي هذه الأماكن يعتبر اللّقيط الّذي يوجد فيها مسلماً لكن بشرط أن يوجد بها مسلم يمكن أن يكون اللّقيط منه لأنّه يحتمل أن يكون لذلك المسلم تغليباً للإسلام .
فإن لم يكن فيها مسلم , بل كان جميع من فيها كفّاراً فهو كافر كما إذا وجد بدار كفّارٍ لم يسكنها مسلم يحتمل إلحاقه به , فإن كانت الدّار دار كفرٍ وكان فيها مسلمون كتجّار وأسرى فأصح الوجهين عند الشّافعيّة وفي احتمالٍ للحنابلة أنّ اللّقيط فيها يعتبر مسلماً تغليباً للإسلام , وفي الوجه الثّاني عند الشّافعيّة والاحتمال الآخر للحنابلة يحكم بكفره تغليباً للدّار والأكثر .
وعند الحنفيّة لا يخلو حال اللّقيط من أمورٍ أربعةٍ :
أ - أن يجده مسلم في مصرٍ من أمصار المسلمين أو في قريةٍ من قراهم , فإنّه في هذه الحالة يحكم بإسلامه حتّى لو مات يغسّل ويصلّى عليه ويدفن في مقابر المسلمين .
ب - أن يجده ذمّي في بيعةٍ أو كنيسةٍ أو في قريةٍ ليس فيها مسلم فإنّه يكون ذمّياً تحكيماً للظّاهر .
ج - أن يجده مسلم في بيعةٍ أو كنيسةٍ أو في قريةٍ من قرى أهل الذّمّة فإنّه يكون ذمّياً أيضاً .
د - أن يجده ذمّي في مصرٍ من أمصار المسلمين أو في قريةٍ من قراهم فإنّه يكون مسلماً . كذا ذكر في كتاب اللّقيط من الأصل واعتبر المكان , وروى ابن سماعة عن محمّدٍ أنّه اعتبر حال الواجد من كونه مسلماً أو ذمّياً , وفي كتاب الدّعوى اعتبر الإسلام إلى أيّهما نسب إلى الواجد أو إلى المكان , قال الكاساني : والصّحيح رواية هذا الكتاب - أي كتاب اللّقيط , وقد صرّح به في العناية على الهداية - لأنّ الموجود في مكانٍ هو في أيدي أهل الإسلام وتصرفهم في أيديهم , واللّقيط الّذي هو في يد المسلم وتصرفه يكون مسلماً ظاهراً , والموجود في المكان الّذي هو في أيدي أهل الذّمّة , وتصرفهم في أيديهم , واللّقيط الّذي هو في يد الذّمّيّ وتصرفه يكون ذمّياً ظاهراً فكان اعتبار المكان أولى .
وفي بعض الرّوايات يعتبر الزّي والعلامة , جاء في فتح القدير وفي كفاية البيهقيّ : قيل يعتبر بالسّيما والزّيّ لأنّه حجّة , قال اللّه تعالى : « تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ » , « يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ » .
وقال المالكيّة : إذا وجد اللّقيط في بلاد المسلمين فإنّه يحكم بإسلامه , لأنّه الأصل والغالب وسواء التقطه مسلم أو كافر , وإذا وجد في قريةٍ ليس فيها من المسلمين سوى بيتين أو ثلاثةٍ فإنّه يحكم بإسلامه أيضاً تغليباً للإسلام بشرط أن يكون الّذي التقطه مسلم , فإن التقطه ذمّي فإنّه يحكم بكفره على المشهور , ومقابل المشهور ما قاله أشهب وهو أنّه يحكم بإسلامه مطلقاً أي سواء التقطه مسلم أو كافر .
وإذا وجد في قرى الشّرك فإنّه يحكم بكفره سواء التقطه مسلم أو كافر تغليباً للدّار والحكم للغالب وهو قول ابن القاسم , وأمّا أشهب فيقول : إن التقطه مسلم فهو مسلم تغليباً لحكم الإسلام لأنّه يعلو ولا يعلى عليه .
«نسب اللّقيط»
11 - إذا ادّعى اللّقيط شخص واحد سواء أكان هو الملتقط أو غيره فإن كان رجلاً مسلماً حراً لحق نسبه به إن أمكن أن يكون منه بأن تتحقّق فيه شروط الاستلحاق , وهذا ما ذهب إليه الشّافعيّة والحنابلة لأنّ الإقرار محض نفعٍ للطّفل لاتّصال نسبه , ولا مضرّة على غيره فيه فقبل كما لو أقرّ له بمال .
وهذا ما ذهب إليه الحنفيّة أيضاً في الاستحسان لأنّ في إثبات النّسب نظراً من الجانبين , جانب اللّقيط بشرف النّسب والتّربية والصّيانة عن أسباب الهلاك وغير ذلك , وجانب المدّعي بولد يستعين به على مصالحه الدّينيّة والدنيويّة .
وفي القياس عند الحنفيّة لا تسمع الدّعوى إلا ببيّنة لأنّه يدّعي أمراً جائز الوجود والعدم فلا بدّ لترجيح أحد الجانبين على الآخر من مرجّحٍ وذلك بالبيّنة ولم توجد .
وإذا كان المدّعي ذمّياً تصح دعواه ويثبت نسبه منه لكنّه يكون مسلماً لأنّه - كما يقول الكاساني - ادّعى شيئين يتصوّر انفصال أحدهما عن الآخر في الجملة وهو نسب الولد وكونه كافراً , ويمكن تصديقه في أحدهما لكونه نفعاً للّقيط وهو كونه ابناً له ولا يمكن تصديقه في الآخر لكونه ضرراً به وهو كونه كافراً فيصدّق فيما فيه نفعه فيثبت نسب الولد منه , ولا يصدّق فيما يضره فلا يحكم بكفره , وهذا ما ذهب إليه الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة قالوا : ولا حقّ له أيضاً في حضانته .
وقالوا : إنّما يكون مسلماً في ادّعاء الذّمّيّ له إذا كان ذلك عن طريق الإقرار أما إذا أقام الذّمّي بيّنةً على أنّ اللّقيط ابنه ثبت نسبه منه ويكون على دينه خلافاً للإقرار .
وإذا كان المدّعي عبداً تصح دعواه ويثبت نسبه منه لكنّه يكون حراً لأنّه ادّعى شيئين أحدهما نفع للّقيط والآخر مضرّة هو الرّق فيصدّق فيما ينفعه لا فيما يضره , ولا حضانة للعبد عليه لاشتغاله بالسّيّد فيضيع فلا يتأهّل للحضانة , فإذا أذن السّيّد جاز لانتفاء مانع الشغل , كما أنّه لا تجب عليه نفقته لأنّه لا مال له ولا على سيّده , لأنّ الطّفل محكوم بحرّيّته فتكون نفقته في بيت المال , وهذا ما ذهب إليه الحنفيّة والشّافعيّة في المذهب والحنابلة .
وفي قولٍ عند الشّافعيّة يلحق الملتقط بالعبد إن صدّقه السّيّد وقيل لا يلحق مطلقاً , وقيل : يلحق قطعاً إن كان مأذوناً له في النّكاح ومضى زمان إمكانه وإلا فقولان .
وذهب المالكيّة إلى أنّه إذا ادّعى اللّقيط الملتقط أو غيره فلا يلحق نسبه به إلا بأحد أمرين : الأمر الأوّل : أن يأتي المدّعي ببيّنة تشهد له بأنّه ابنه ولا يكفي قول البيّنة ذهب له ولد أو طرح , فإن أقام البيّنة لحق به سواء كان اللّقيط محكوماً بإسلامه أو كفره وسواء كان المستلحق له الّذي شهدت له البيّنة مسلماً أو كافراً .
الأمر الثّاني : أن يكون لدعواه وجه كرجل عرف أنّه لا يعيش له ولد فزعم أنّه رماه لقول النّاس : إذا طرح عاش ونحوه ممّا يدل على صدقه فإنّه يلحق بصاحب الوجه المدّعي , سواء كان اللّقيط محكوماً بإسلامه أو كفره وسواء كان المستلحق له صاحب الوجه مسلماً أو كافراً وهذا على ما ذهب إليه ابن عرفة والتّتائي وعبد الرّحمن الأجهوري , وذهب آخرون إلى أنّه لا يلحق بصاحب الوجه إلا إذا كان صاحب الوجه مسلماً وأمّا إذا استلحقه ذمّي فلا بدّ من البيّنة .
12 - وإن ادّعى نسب اللّقيط اثنان , مسلم وكافر أو حر وعبد فهما سواء , لأنّ كلّ واحدٍ لو انفرد صحّت دعواه , فإذا تنازعوا تساووا في الدّعوى كالأحرار المسلمين فلا بدّ من مرجّحٍ , فإن كان لأحدهما بيّنة فهو ابنه , وإن أقاما بيّنتين تعارضتا وسقطتا ولا يمكن استعمالهما هاهنا .
فإذا لم تكن لأحدهما بيّنة أو كانت لهما بيّنتان وتعارضتا وسقطتا فإنّه يعرض على القافة مع المدّعيين فيلحق بمن ألحقته به منهما , لما روت عائشة رضي الله عنها : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوماً مسروراً تبرق أسارير وجهه فقال : ألم تري أنّ مجزّزاً المدلجيّ دخل عليّ فرأى أسامة وزيداً وعليهما قطيفة قد غطّيا رءوسهما وبدت أقدامهما فقال : إنّ هذه الأقدام بعضها من بعضٍ » , فلولا جواز الاعتماد على القافة لما سرّ به النّبي صلى الله عليه وسلم ولا اعتمد عليه .
هذا ما ذهب إليه الشّافعيّة والحنابلة , وهو قول أنسٍ وعطاء ويزيد بن عبد الملك والأوزاعيّ واللّيث وأبي ثورٍ .
فإن ألحقته القافة بأحدهما لحق به وإن ألحقته بهما فعند الشّافعيّة سقط قولهما ولا يلحق بهما ويترك حتّى يبلغ فإذا بلغ أمر بالانتساب إلى من يميل طبعه إليه فمن انتسب إليه منهما لحق به ، لما ورد أنّ رجلين ادّعيا رجلاً لا يدرى أيهما أبوه فقال : عمر اتّبع أيّهما شئت , ولأنّ طبع الولد يميل إلى والده ويجد به ما لا يجد بغيره .
وقال الحنابلة : يلحق بهما وكان ابنهما يرثهما ميراث ابنٍ ويرثانه جميعاً ميراث أب واحدٍ وهذا يروى عن عمر وعليٍّ رضي الله تعالى عنهما وهو قول أبي ثورٍ وذلك لما روي عن سليمان بن يسارٍ عن عمر في امرأةٍ وطئها رجلان في طهرٍ فقال القائف : قد اشتركا فيه جميعاً فجعله بينهما , وعن الشّعبيّ قال : وعلي يقول : هو ابنها وهما أبواه يرثهما ويرثانه .
وقد نصّ أحمد على أنّه إن ادّعاه أكثر من اثنين فألحقته بهم القافة أنّه يلحق بالثّلاثة , وقال عبد اللّه بن حامدٍ : لا يلحق بأكثر من اثنين , وقال القاضي لا يلحق بأكثر من ثلاثةٍ لأنّ المعنى الّذي لأجله لحق باثنين موجود فيما زاد عليه فيقاس عليه , وإذا جاز أن يلحق من اثنين جاز أن يلحق من أكثر من ذلك .
وقال الحنفيّة : لو ادّعى رجلان أنّ اللّقيط ابنهما ولا بيّنة لهما فإن كان أحدهما مسلماً والآخر ذمّياً فالمسلم أولى لأنّه أنفع للّقيط وكذلك إذا كان أحدهما حراً والآخر عبداً فالحر أولى لأنّه أنفع له .
وإن كانا مسلمين حرّين فإن وصف أحدهما علامةً في جسده فالواصف أولى به لأنّ الدّعوتين متى تعارضتا يجب العمل بالرّاجح منهما وقد ترجّح أحدهما بالعلامة لأنّه إذا وصف العلامة ولم يصف الآخر دلّ على أنّ يده عليه سابقة فلا بدّ لزوالها من دليلٍ .
والدّليل على جواز العمل بالعلامة قوله تعالى : « إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ ، وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ ، فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ » , حكى اللّه تعالى عن الحكم بالعلامة عن الأمم السّالفة ولم يغيّر عليهم والحكيم إذا حكى عن منكر غيره فصار الحكم بالعلامة شريعةً لنا مبتدأةً وإن لم يصف أحدهما علامةً فإنّه يحكم بكونه ابناً لهما إذ ليس أحدهما بأولى من الآخر فإن أقام أحدهما البيّنة فهو أولى به وإن أقاما جميعاً البيّنة يحكم بكونه ابناً لهما لأنّه ليس أحدهما بأولى من الآخر وقد روى عن سيّدنا عمر في مثل هذا أنّه قال : إنّه ابنهما يرثهما ويرثانه , فإن ادّعاه أكثر من رجلين فأقام البيّنة روي عن أبي حنيفة أنّه تسمع من خمسةٍ وقال أبو يوسف من اثنين ولا تسمع من أكثر من ذلك وقال محمّد تسمع من ثلاثةٍ ولا تسمع من أكثر من ذلك .
13 - وإن ادّعى اللّقيط امرأةً وقالت : إنّه ابني فإن كان لها زوج فلا تقبل دعواها إلا ببيّنة لأنّ في ادّعائها بنوّته تحميل النّسب على الغير وهو الزّوج وفي ذلك ضرر عليه فلا يقبل قولها فيما يلحق الضّرر به فإن أقامت البيّنة صحّت دعوتها ولحق بها اللّقيط ولحق زوجها إن أمكن العلوق منه ولا ينتفي عنه إلا بلعان .
قال الشّافعيّة : هذا إذا قيّدت البيّنة أنّها ولدته على فراشه فإن لم تتعرّض للفراش ففي ثبوت نسبه من الزّوج وجهان : قال النّووي : الأصح المنع , وهذا ما ذهب إليه الحنفيّة وهو أحد الأقوال عند الشّافعيّة ورواية عن الإمام أحمد وإن كانت المرأة خليّةً من الزّوج وادّعت أنّ اللّقيط ابنها ففي الأصحّ عند الشّافعيّة لا يلحقها إلا ببيّنة لإمكانها إقامة البيّنة بالولادة من طريق المشاهدة .
ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة وهو رواية عن الإمام أحمد أنّه يلحقها لأنّها أحد الأبوين فصارت كالرّجل .
وروي عن الإمام أحمد رواية ثالثة نقلها الكوسج عنه في امرأةٍ ادّعت ولداً قال : إن كان لها إخوة أو نسب معروف لا تصدّق إلا ببيّنة , وإن لم يكن لها دافع لم يحلّ بينها وبينه لأنّه إذا كان لها أهل ونسب معروف لم تخف ولادتها عليهم ويتضرّرون بإلحاق النّسب بها لما فيه من تعييرهم بولادتها من غير زوجها , وليس كذلك إذا لم يكن لها أهل , ويحتمل أن لا يثبت النّسب بدعواها بحال .
14 - وإن ادّعته امرأتان وأقامت إحداهما البيّنة فهي أولى به , وإن أقامتا بيّنتين فهو ابنهما عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف لا يكون لواحدة منهما .
وعن محمّدٍ روايتان : في رواية أبي حفصٍ يجعل ابنهما وفي رواية أبي سليمان لا يجعل ابن واحدةٍ منهما .
وقال الشّافعيّة : لو تنازعت امرأتان لقيطاً وأقامتا بيّنتين تعارضتا عرض معهما على القائف فلو ألحقه بإحداهما لحقها ولحق زوجها , فإن لم يكن بيّنة لم يعرض على القائف لأنّ استلحاق المرأة إنّما يصح مع البيّنة والحكم كذلك عند الحنابلة : إذ أنّهم قالوا : لا يلتحق الولد بأكثر من أمٍّ واحدةٍ لأنّه يستحيل أن يكون من أمّين فإن ألحقته القافة بأكثر من أمٍّ سقط قولها ولم يلحق بواحدة منهما لتبين خطأ القافة وليست إحداهما أولى من الأخرى .
«نفقة اللّقيط»
15 - اتّفق الفقهاء على أنّ نفقة اللّقيط تكون في ماله إن وجد معه مال من دراهم وغيرها كذهب وحليٍّ وثيابٍ ملفوفةٍ عليه ومفروشةٍ تحته ودابّةٍ مشدودةٍ في وسطه , أو كان مستحقاً في مالٍ عامٍّ كالأموال الموقوفة على اللقطاء أو الموصى بها لهم .
فإن لم يكن له مال خاص ولم توجد أموال موقوفة على اللقطاء أو موصى لهم بها فإنّ نفقته تكون في بيت المال لقول عمر في حديث أبي جميلة : اذهب فهو حر ولك ولاؤُه وعلينا نفقته وفي روايةٍ من بيت المال , ولأنّ بيت المال وارثه وماله مصروف إليه فتكون نفقته عليه , وهذا ما ذهب إليه الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وهو الأظهر عند الشّافعيّة , ومقابل الأظهر عند الشّافعيّة : لا ينفق عليه من بيت المال وإنّما يقترض عليه من بيت المال أو غيره لجواز أن يظهر له مال .
16 - فإن لم يكن في بيت المال شيء أو كان لكن هناك ما هو أهم من ذلك كسدّ ثغرٍ يعظم ضرره لو ترك أو حالت الظّلمة دونه فللفقهاء في ذلك تفصيل بيانه ما يلي :
قال الحنفيّة : إذا لم يكن في بيت المال مال وأبى الملتقط أن يتبرّع بالإنفاق فتمام النّظر بالأمر بالإنفاق عليه لأنّه لا يبقى بدون النّفقة عادةً وللقاضي عليه ولاية الإلزام لأنّه ولي كلّ من عجز عن التّصرف بنفسه يثبت ولايته بحقّ الدّين فيعتبر أمره في إلزام الدّين عليه , قال السّرخسي : وقد قال بعض مشايخنا : مجرّد أمر القاضي بالإنفاق عليه يكفي ولا يشترط أن يكون ديناً عليه ولأنّ أمر القاضي نافذ عليه كأمره بنفسه أن لو كان من أهله , ولو أمر غيره بالإنفاق عليه كان ما ينفق ديناً عليه - أي على اللّقيط - فكذلك إذا أمر القاضي به , والأصح أن يأمره على أن يكون ديناً عليه لأنّ مطلقه يحتمل أن يكون للحثّ والتّرغيب في تمام ما شرع فيه من التّبرع فإنّما يزول هذا الاحتمال إذا اشترط أن يكون ديناً له عليه فلهذا قيّد الأمر به فإذا ادّعى بعد بلوغ اللّقيط أنّه أنفق عليه كذا وصدّقه اللّقيط في ذلك رجع عليه به وإن كذّبه فالقول قول اللّقيط وعلى المدّعي البيّنة لأنّه يدّعي لنفسه ديناً في ذمّته وهو ليس بأمين في ذلك وإنّما يكون أميناً فيما ينفي به الضّمان عن نفسه فلهذا كان عليه إثبات ما يدّعيه بالبيّنة .
وقال المالكيّة : إذا لم يوجد مع اللّقيط مال ولم يكن في بيت المال شيء فتكون نفقته على الملتقط وجوباً لأنّه بالتقاطه ألزم نفسه ذلك ويستمر الإنفاق على الذّكر حتّى يبلغ قادراً على الكسب وعلى الأنثى إلى أن تتزوّج ويدخل الزّوج بها بعد إطاقتها , ولا رجوع للملتقط بما أنفق لأنّه ألزم نفسه بذلك بالالتقاط .
لكن لو أنفق الملتقط وكان للّقيط مال يعلم به الملتقط حال إنفاقه فإنّه يرجع عليه إذا حلف أنّه أنفق ليرجع .
وإن كان اللّقيط قد طرحه أبوه عمداً وثبت ذلك ببيّنة أو إقرارٍ فإنّ الملتقط يرجع بما أنفقه على أبيه إن كان الأب موسراً حين الإنفاق وأن يحلف المنفق أنّه أنفق ليرجع لا حسبةً , فإن كان اللّقيط قد ضلّ عن أبيه أو هرب ولم يطرحه أبوه فلا يرجع المنفق على الأب الموسر لأنّ الإنفاق حينئذٍ محمول على التّبرع .
وقال الشّافعيّة : إن تعذّر الإنفاق من بيت المال اقترض له الإمام من المسلمين في ذمّة اللّقيط كالمضطرّ إلى الطّعام , فإن تعذّر الاقتراض قام المسلمون بكفايته قرضاً حتّى يثبت لهم الرجوع بما أنفقوا على اللّقيط ويقسّطها الإمام على الأغنياء منهم ويجعل نفسه منهم , فإن تعذّر استيعابهم لكثرتهم قسّطها على من رآه منهم باجتهاده , فإن استووا في اجتهاده تخيّر , فإن ظهر له سيّد رجعوا عليه , وإن كان حراً وظهر له مال أو اكتسب مالاً فالرجوع عليه , فإن لم يظهر له مال ولا قريب ولا كسب ولا للعبد سيّد فالرجوع على بيت المال من سهم الفقراء أو الغارمين بحسب ما يراه الإمام , وفي قولٍ يقوم المسلمون بكفايته نفقةً لا قرضاً لأنّه محتاج عاجز , وإن قام بها بعضهم اندفع الحرج عن الباقين .
وقال الحنابلة : إن تعذّر الإنفاق عليه من بيت المال فعلى من علم حاله من المسلمين الإنفاق عليه لقول اللّه تعالى : « وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى » , ولأنّ في ترك الإنفاق عليه هلاكه وحفظه عن ذلك واجب كإنقاذه من الغرق وهذا فرض كفايةٍ إذا قام به قوم سقط عن الباقين فإن تركه الكل أثموا , ومن أنفق عليه متبرّعاً فلا شيء له سواء كان الملتقط أو غيره , وإن لم يتبرّع بالإنفاق عليه فأنفق عليه الملتقط أو غيره محتسباً بالرجوع عليه إذا أيسر وكان ذلك بأمر الحاكم لزم اللّقيط ذلك إذا كانت النّفقة قصداً بالمعروف , وإن أنفق بغير أمر الحاكم محتسباً الرجوع عليه فقال أحمد : تؤدّى النّفقة من بيت المال , لأنّه أدّى ما وجب على غيره فكان له الرجوع على من كان الوجوب عليه كالضّامن إذا قضى عن المضمون عنه , وقال شريح والنّخعي : يرجع عليه بالنّفقة إذا أشهد عليه , وقال عمر بن عبد العزيز يحلف ما أنفق محتسباً .
«جناية اللّقيط والجناية عليه»
17 - إن جنى اللّقيط الجناية الّتي تتحمّلها العاقلة كالخطأ فأرشها على بيت المال لأنّ ميراثه ونفقته في بيت المال فكان عقله فيه كعصباته , وإن كانت الجناية عمداً فحكمه فيه حكم غير اللّقيط : فإن كان بالغاً عاقلاً اقتصّ منه , وإلا فالدّية في ماله إن كان له مال , وإن لم يكن له مال ففي ذمّته حتّى يوسر كسائر الديون .
18 - وإن جنى أحد على اللّقيط فإن قُتل خطأً ففيه الدّية وتكون لبيت المال لأنّها من ميراثه كسائر ماله وهذا إن لم يكن وارث , فإن كان له زوجة مثلاً فلها الربع والباقي لبيت المال . وإن قتله أحد عمداً عدواناً فوليه الإمام لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « السلطان ولي من لا وليّ له » , وعلى ذلك فللإمام إن شاء أن يقتصّ من القاتل وإن شاء أخذ الدّية حسب الأصلح لأنّه حر معصوم , وهذا ما ذهب إليه الشّافعيّة والحنابلة وأبو حنيفة ومحمّد , وقال أبو يوسف عليه الدّية في ماله ولا يقتل به , قال أبو يوسف لأنّا نعلم أنّ للّقيط ولياً في دار الإسلام من عصبةٍ أو غير ذلك وإن بَعُد إلا أنّا لا نعرفه بعينه وحق استيفاء القصاص يكون إلى الوليّ كما قال اللّه تعالى : « فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً » فيصير ذلك شبهةً مانعةً للإمام من استيفاء القصاص وإذا تعذّر استيفاء القصاص بشبهة وجبت الدّية في مال القاتل .
وإن قطع طرف اللّقيط عمداً انتظر بلوغه مع رشده ليقتصّ أو يعفو ويحبس الجاني إلى أوان البلوغ والرشد , وإذا كان اللّقيط فقيراً فللإمام العفو على مالٍ لأنّه أحظ للّقيط لينفق عليه منه .


الموسوعة الفقهية الكويتية



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق