الثلاثاء، 11 ديسمبر 2012

ماهي الحسبة في الإسلام وعلى من تنطق


حسبة


التّعريف

1 - الحسبة لغة : اسم من الاحتساب ، ومن معانيها الأجر وحسن التّدبير والنّظر ، ومنه قولهم : فلان حسن الحسبة في الأمر إذا كان حسن التّدبير له.
ومن معاني الاحتساب البدار إلى طلب الأجر وتحصيله ، وفي حديث عمر : أيّها النّاس احتسبوا أعمالكم فإن من احتسب عمله كتب له أجر عمله وأجر حسبته.
واسم الفاعل المحتسب أي طالب الأجر.
ومن معانيها الإنكار يقال : احتسب عليه الأمر إذا أنكره عليه.
والاختبار يقال : احتسبت فلانا أي اختبرت ما عنده.
والحسبة اصطلاحا : عرّفها جمهور الفقهاء بأنّها الأمر بالمعروف إذا ظهر تركه ، والنّهي عن المنكر إذا ظهر فعله.
«' الألفاظ ذات الصّلة '»
«أوّلا : القضاء»
2 - القضاء هو الإخبار عن حكم شرعيّ على سبيل الإلزام ، وهو باب من أبواب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر كما أنّ الحسبة كذلك قاعدتها وأصلها الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.
وقد فرّق العلماء بين الولايتين فرقا يتحدّد به معالم كلّ ولاية قال الماورديّ : فأمّا ما بينها وبين القضاء فهي موافقة لأحكام القضاء من وجهين ، ومقصورة عنه من وجهين ، وزائدة عليه من وجهين :
فأمّا الوجهان في موافقتها لأحكام القضاء : فأحدهما : جواز الاستعداء إليه وسماعه دعوى المستعدي على المستعدى عليه من حقوق الآدميّين ، وليس في عموم الدّعاوى.
والوجه الثّاني : أنّ له إلزام المدّعى عليه للخروج من الحقّ الّذي عليه وليس على العموم في كلّ الحقوق ، وإنّما هو خاصّ في الحقوق الّتي جاز له سماع الدّعوى فيها إذا وجبت باعتراف وإقرار مع الإمكان واليسار ، فيلزم المقرّ الموسر الخروج منها ودفعها إلى مستحقّها ، لأنّ في تأخيره لها منكرا هو منصوب لإزالته.
وأمّا الوجهان في قصورها عن أحكام القضاء فأحدهما : قصورها عن سماع عموم الدّعاوى الخارجة عن ظواهر المنكرات من الدّعاوى في العقود والمعاملات وسائر الحقوق والمطالبات.
والوجه الثّاني : أنّها مقصورة على الحقوق المعترف بها ، فأمّا ما تداخله جحد وإنكار فلا يجوز له النّظر فيها.
وأمّا الوجهان في زيادتها على أحكام القضاء :
فأحدهما : أنّه يجوز للنّاظر فيها أن يتعرّض بتصفّح ما يأمر به من المعروف وينهى عنه من المنكر وإن لم يحضره خصم مستعد ، وليس للقاضي أن يتعرّض لذلك إلاّ بحضور خصم يجوز له سماع الدّعوى منه.
والثّاني : أنّ الحسبة موضوعة للرّهبة فلا يكون خروج المحتسب إليها بالغلظة تجوّزا فيها.
والقضاء موضوع للمناصفة فهو بالأناة والوقار أخصّ.
«ثانيا : المظالم»
3 - ولاية المظالم قود المتظالمين إلى التّناصف بالرّهبة ، وزجر المتنازعين عن التّجاحد بالهيبة.
وقد بيّن الماورديّ الصّلة بين الحسبة وبين المظالم فقال : بينهما شبه مؤتلف وفرق مختلف ، فأمّا الشّبه الجامع بينهما فمن وجهين :
فأحدهما : أنّ موضوعهما على الرّهبة المختصّة بقوّة السّلطنة.
والثّاني : جواز التّعرّض فيهما لأسباب المصالح ، والتّطلّع إلى إنكار العدوان الظّاهر.
وأمّا الفرق بينهما فمن وجهين :
أحدهما : أنّ النّظر في المظالم موضوع لما عجز عنه القضاة ، والنّظر في الحسبة موضوع لما رفه عنه القضاة ، ولذلك كانت رتبة المظالم أعلى ورتبة الحسبة أخفض ، وجاز لوالي المظالم أن يوقع إلى القضاة والمحتسب ، ولم يجز للقاضي أن يوقع إلى والي المظالم ، وجاز له أن يوقع إلى المحتسب ، ولم يجز للمحتسب أن يوقع إلى واحد منهما.
والثّاني : أنّه يجوز لوالي المظالم أن يحكم ، ولا يجوز ذلك للمحتسب.
«ثالثا : الإفتاء»
4 - الإفتاء تبليغ عن اللّه ورسوله ، والمفتي هو المتمكّن من درك أحكام الوقائع على يسر من غير معاناة تعلّم ، ويتعيّن على المفتي فتوى من استفتاه إن لم يكن بالموضع الّذي هو فيه مفت سواه لقوله تعالى : «إنّ الّذين يكتمون ما أنزلنا من البيّنات والهدى من بعد ما بيّنّاه للنّاس في الكتاب أولئك يلعنهم اللّه ويلعنهم اللّاعنون» وقال قتادة في قوله تعالى : «وإذ أخذ اللّه ميثاق الّذين أوتوا الكتاب لتبيّننّه للنّاس ولا تكتمونه» الآية ، هذا ميثاق أخذه اللّه على أهل العلم ، فمن علم علما فليعلّمه ، وإيّاكم وكتمان العلم فإنّها هلكة ، ولا يتكلّفنّ الرّجل ما لا يعلم فيخرج من دين اللّه ويكون من المتكلّفين.
ولما روي عن جابر بن عبد اللّه رضي الله عنهما قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار» .
وعلى هذا يكون بين الإفتاء وبين الحسبة معنى جامع هو التّبليغ عن اللّه ورسوله ، والكشف عن الحقّ ، وإرشاد المستعلم الجاهل ، فالإفتاء باب من أبواب الحسبة ودونها في وسائل الكشف والإبانة لأنّه لا يتعدّى التّعريف بالحكم والاحتساب يكون التّعريف أولى مراتبه.
«رابعا : الشّهادة»
5 - الشّهادة في الاصطلاح هي إخبار الشّاهد الحاكم إخبارا ناشئا عن علم لا عن ظنّ أو شكّ ، وعرّفها بعضهم بأنّها إخبار بما حصل فيه التّرافع وقصد به القضاء وبتّ الحكم.
وهي مشروعة بقوله تعالى : «وأشهدوا إذا تبايعتم» ولها حالتان حالة تحمّل وحالة أداء ، وحكم تحمّلها الوجوب على جهة الوجوب الكفائيّ إن وجد غيره ، وإلاّ تعيّن لقوله تعالى : «وأقيموا الشّهادة للّه» وأمّا الأداء ففرض عين لقوله تعالى : «ولا يأب الشّهداء إذا ما دعوا» ويجب المبادرة إلى أدائها في حقوق اللّه الّتي يستدام فيها التّحريم حسبة.
أمّا ما لا يستدام فيه التّحريم كالحدود والسّرقة وشرب الخمر والقذف فهو مخيّر بين أن يشهد حسبة للّه تعالى وبين أن يستر ، لأنّ كلّ واحد منهما أمر مندوب إليه قال عليه الصلاة والسلام : «من ستر على مسلم ستره اللّه في الدّنيا والآخرة» .
وقد ندبه الشّارع إلى كلّ واحد منهما إن شاء اختار جهة الحسبة فأقامها للّه تعالى ، وإن شاء اختار جهة السّتر فيستر على أخيه المسلم.
فتكون الشّهادة مرتبة من مراتب الحسبة ، ووسيلة من وسائل تغيير المنكر.
«مشروعيّة الحسبة»
6 - شرعت الحسبة طريقا للإرشاد والهداية والتّوجيه إلى ما فيه الخير ومنع الضّرر.
وقد حبّب اللّه إلى عباده الخير وأمرهم بأن يدعوا إليه ، وكرّه إليهم المنكر والفسوق والعصيان ونهاهم عنه ، كما أمرهم بمنع غيرهم من اقترافه ، وأمرهم بالتّعاون على البرّ والتّقوى ، فقال تعالى : «وتعاونوا على البرّ والتّقوى ، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان» وقال جلّ شأنه : «ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون» ووصف المؤمنين والمؤمنات بها ، وقرنها بإقامة الصّلاة وإيتاء الزّكاة وطاعة اللّه ، مع تقديمها في الذّكر في قوله تعالى : «والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصّلاة ويؤتون الزّكاة ويطيعون اللّه ورسوله أولئك سيرحمهم اللّه إنّ اللّه عزيز حكيم» ووصف المنافقين بكونهم عاملين على خلاف ذلك في قوله تعالى «المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا اللّه فنسيهم إنّ المنافقين هم الفاسقون» وذمّ من تركها وجعل تركها سببا للّعنة في قوله تعالى «لعن الّذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون» وجعل تركها من خطوات الشّيطان وشيعته في قوله تعالى : «يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّبعوا خطوات الشّيطان ومن يتّبع خطوات الشّيطان فإنّه يأمر بالفحشاء والمنكر» وفضّل من يقوم بها من الأمم على غيرهم في قوله تعالى : «كنتم خير أمة أخرجت للنّاس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر» وامتدح من يقوم بها من الأمم على غيرهم في قوله تعالى : «من أهل الكتاب أمّة قائمة يتلون آيات اللّه آناء اللّيل وهم يسجدون يؤمنون باللّه واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصّالحين» وجعل القيام بها سببا للنّجاة في قوله تعالى : «فلمّا نسوا ما ذكّروا به أنجينا الّذين ينهون عن السّوء وأخذنا الّذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون» وإلى ذلك كلّه جاء في القرآن أنّها شرعة فرضت على غيرنا من الأمم وذلك في قوله تعالى : «يا بنيّ أقم الصّلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إنّ ذلك من عزم الأمور» وقوله تعالى : «إنّ الّذين يكفرون بآيات اللّه ويقتلون النّبيّين بغير حقّ ويقتلون الّذين يأمرون بالقسط من النّاس فبشّرهم بعذاب أليم» ذلك بعض ما يدلّ على شرعها من الكتاب الحكيم.
ولقد سلكت السّنّة في دلالتها على ذلك مسلك الكتاب من الأمر بها ، والتّشديد على التّهاون فيها ، روى مسلم من حديث طارق بن شهاب عن أبي سعيد الخدريّ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : «من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان» .
وجاء في التّحذير من تركها ما رواه ابن مسعود قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : «لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر ولتأخذنّ على يدي الظّالم ولتأطرنّه على الحقّ أطرا» .

الحكم التّكليفيّ

7 - الحسبة واجبة في الجملة من حيث هي لا بالنّظر إلى متعلّقها إذ إنّها قد تتعلّق بواجب يؤمر به ، أو مندوب يطلب عمله ، أو حرام ينهى عنه ، فإذا تعلّقت بواجب أو حرام فوجوبها حينئذ على القادر عليها ظاهر ، وإذا تعلّقت بمندوب أو بمكروه فلا تكون حينئذ واجبة ، بل تكون أمرا مستحبّا مندوبا إليه تبعا لمتعلّقها ، إذ الغرض منها الطّاعة والامتثال ، والامتثال في ذلك ليس واجبا بل أمرا مستحبّا ، فتكون الوسيلة إليه كذلك أمرا مستحبّا.
وقد يترتّب عليها من المفسدة ما يجعل الإقدام عليها داخلا في المحظور المنهيّ عنه فتكون حراما.
وقد استدلّ العلماء على وجوب الحسبة في الجملة من حيث هي بالأدلّة الّتي وردت جملة وتفصيلا في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، قال ابن القيّم : والمقصود أنّ الحكم بين النّاس في النّوع الّذي لا يتوقّف على الدّعوى هو المعروف بولاية الحسبة.
وقاعدته وأصله : الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر الّذي بعث اللّه به رسله وأنزل به كتبه.
ووجوب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ثبت بالكتاب والسّنّة والإجماع قال الجصّاص : وقد ذكر اللّه تعالى فرض الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في مواضع من كتابه ، وبيّنه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في أخبار متواترة ، وأجمع السّلف وفقهاء الأمصار على وجوبه.
وقال النّوويّ : وقد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر الكتاب والسّنّة وإجماع الأمّة ، وهو أيضا من النّصيحة الّتي هي الدّين.
وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الحسبة فرض على الكفاية ، وقد تكون فرض ، عين في الحالات الآتية ، وفي حقّ طائفة مخصوصة كما يلي :
الأولى : الأئمّة والولاة ومن ينتدبهم أو يستنيبهم وليّ الأمر عنه ، لأنّ هؤلاء متمكّنون بالولاية ووجوب الطّاعة.
قال اللّه تعالى : «الّذين إن مكّنّاهم في الأرض أقاموا الصّلاة وآتوا الزّكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر» فإنّ من أنواع القيام بذلك ما يدعو إلى الاستيلاء ، وإقامة الحدود والعقوبات ممّا لا يفعله إلاّ الولاة والحكّام ، فلا عذر لمن قصّر منهم عند اللّه تعالى ، لأنّه إذا أهمل الولاة والحكّام القيام بذلك فجدير ألا يقدر عليه من هو دونهم من رعيّتهم ، فيوشك أن تضيع حرمات الدّين ويستباح حمى الشّرع والمسلمين.
الثّانية : من يكون في موضع لا يعلم بالمعروف والمنكر إلاّ هو ، أو لا يتمكّن من إزالته غيره كالزّوج والأب ، وكذلك كلّ من علم أنّه يقبل منه ويؤتمر بأمره ، أو عرف من نفسه صلاحيّة النّظر والاستقلال بالجدال ، أو عرف ذلك منه ، فإنّه يتعيّن عليه الأمر والنّهي.
الثّالثة : أنّ الحسبة قد تجب على غير المنصوب لها بحسب عقد آخر ، وعلى المنصوب لهل تجب ابتداء ، كما إذا رأى المودع سارقا يسرق الوديعة فلم يمنعه وهو يقدر على منعه ، وكذلك إذا صال فحل على مسلم فإنّه يلزمه أن يدفعه عنه وإن أدّى إلى قتله ، سواء كان القاتل هو أو الّذي صال عليه الفحل ، أو معيّنا له من الخلق ولا ضمان ، لأنّ دفعه فرض يلزم جميع المسلمين فناب عنهم فيه.
الحالة الرّابعة : الإنكار بالقلب فرض عين على كلّ مكلّف ولا يسقط أصلا ، إذ هو كراهة المعصية وهو واجب على كلّ مكلّف.
وقال الإمام أحمد : إنّ ترك الإنكار بالقلب كفر لحديث «وهو أضعف الإيمان» الّذي يدلّ على وجوب إنكار المنكر بحسب الإمكان والقدرة عليه ، فالإنكار بالقلب لا بدّ منه فمن لم ينكر قلبه المنكر دلّ على ذهاب الإيمان من قلبه.
وقد استدلّ الجمهور على أنّها فرض كفاية لقوله تعالى : «ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون» .
ووجه الاستدلال أنّ الخطاب موجّه إلى الكلّ مع إسناد الدّعوة إلى البعض بما يحقّق معنى فرضيّتها على الكفاية ، وأنّها واجبة على الكلّ ، لكن بحيث إن أقامها البعض سقطت عن الباقين ، ولو أخلّ بها الكلّ أثموا جميعا.
ولأنّها من عظائم الأمور وعزائمها الّتي لا يتولّاها إلاّ العلماء العالمون بأحكام الشّريعة ، ومراتب الاحتساب ، فإنّ من لا يعلمها يوشك أن يأمر بمنكر وينهى عن معروف ، ويغلظ في مقام اللّين ، ويلين في مقام الغلظة ، وينكر على من لا يزيده الإنكار إلاّ التّمادي والإصرار.
ويكون الاحتساب حراما في حالتين :
الأولى : في حقّ الجاهل بالمعروف والمنكر الّذي لا يميّز موضوع أحدهما من الآخر فهذا يحرم في حقّه ، لأنّه قد يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف.
والثّانية : أن يؤدّي إنكار المنكر إلى منكر أعظم منه مثل أن ينهى عن شرب الخمر فيؤدّي نهيه عن ذلك إلى قتل النّفس فهذا يحرم في حقّه.
ويكون الاحتساب مكروها إذا أدّى إلى الوقوع في المكروه.
ويكون الاحتساب مندوبا في حالتين :
الأولى : إذا ترك المندوب أو فعل المكروه فإنّ الاحتساب فيهما مستحبّ أو مندوب إليه واستثني من هذه الحالة وجوب الأمر بصلاة العيد وإن كانت سنّة ، لأنّها من الشّعار الظّاهر فيلزم المحتسب الأمر بها وإن لم تكن واجبة.
وحملوا كون الأمر في المستحبّ مستحبّا على غير المحتسب ، وقالوا : إنّ الإمام إذا أمر بنحو صلاة الاستسقاء أو صومه صار واجبا ، ولو أمر به بعض الآحاد لم يصر واجبا.
والثّانية : إذا سقط وجوب الاحتساب ، كما إذا خاف على نفسه ويئس من السّلامة وأدّى الإنكار إلى تلفها.
ويكون حكم الاحتساب التّوقّف إذا تساوت المصلحة والمفسدة ، لأنّ تحقيق المصلحة ودرء المفسدة أمر مطلوب في الأمر والنّهي ، فإذا اجتمعت المصالح والمفاسد ، فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد فعل ذلك امتثالا لأمر اللّه تعالى لقوله : «فاتّقوا اللّه ما استطعتم» وإن تعذّر الدّرء درئت المفسدة ولو فاتت المصلحة قال تعالى : «يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للنّاس وإثمهما أكبر من نفعهما» حرّم الخمر والميسر لأنّ مفسدتهما أكبر من نفعهما.
وإذا اجتمعت المفاسد المحضة ، فإن أمكن درؤها درئت ، وإن تعذّر درء الجميع درئ الأفسد فالأفسد ، والأرذل فالأرذل ، وإن تساوت فقد يتوقّف ، وقد يتخيّر ، وقد يختلف التّساوي والتّفاوت.
ويقول ابن تيميّة : وجماع ذلك داخل في القاعدة العامّة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد ، والحسنات والسّيّئات ، أو تزاحمت ، فإنّه يجب ترجيح الرّاجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد ، فإنّ الأمر والنّهي وإن كان متضمّنا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة ، فينظر في المعارض له ، فإن كان الّذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأمورا به ، بل يكون محرّما إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته ، لكنّ اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشّريعة فمتى قدّر لإنسان على اتّباع النّصوص لم يعدل عنها ، وإلاّ اجتهد رأيه لمعرفة الأشباه والنّظائر ، وعلى هذا إذا كان الشّخص أو الطّائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرّقون بينهما ، بل إمّا أن يفعلوهما جميعا ، أو يتركوهما جميعا لم يجز أن يؤمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر ، بل ينظر ، فإن كان المعروف أكثر أمر به ، وإن استلزم ما هو دونه من المنكر ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه ، بل يكون النّهي حينئذ من باب الصّدّ عن سبيل اللّه والسّعي في زوال طاعته وطاعة رسوله وزوال فعل الحسنات ، وإن كان المنكر أغلب نهي عنه وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف ، ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزّائد عليه أمرا بمنكر وسعيا في معصية اللّه ورسوله.
وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما.
فتارة يصلح الأمر ، وتارة يصلح النّهي ، وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي.
وإذا اشتبه الأمر استبان المؤمن حتّى يتبيّن له الحقّ ، فلا يقدم على الطّاعة إلاّ بعلم ونيّة ، وإذا تركها كان عاصيا ، فترك الأمر الواجب معصية ، وفعل ما نهي عنه من الأمر معصية وهذا باب واسع.
«حكمة مشروعيّة الحسبة»
8 - ما برح النّاس - في مختلف العصور - في حاجة إلى من يعلّمهم إذا جهلوا ، ويذكّرهم إذا نسوا ، ويجادلهم إذا ضلّوا ، ويكفّ بأسهم إذا أضلّوا ، وإذا سهل تعليم الجاهل ، وتذكير النّاسي ، فإنّ جدال الضّالّ وكفّ بأس المضلّ لا يستطيعهما إلاّ ذو بصيرة وحكمة وبيان.
ولمنع هذا شرعت الدّيّانات ، وقامت النّبوّات وظهرت الرّسالات آمرة بالمعروف ، وناهية عن المنكر ، ليكون الأمن والسّلام ، والاستقرار والنّظام ، وصلاح العباد والنّجاة من العذاب.
قال تعالى : «فلمّا نسوا ما ذكّروا به أنجينا الّذين ينهون عن السّوء وأخذنا الّذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون» .
ومن هذا كان الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر سبيل النّبيّين والمرسلين ، وطريق المرشدين.
الصّادقين ، ومنهاج الهادين الصّالحين ، وكان أمرا متّبعا وشريعة ضروريّة ومذهبا واجبا ، سواء في ذلك أسمّيت باسم « الحسبة » أو باسم آخر كالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، وقد صارت بسببها هذه الأمّة خير أمّة أخرجت للنّاس قال تعالى : «كنتم خير أمّة أخرجت للنّاس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون باللّه» .
وروي «أنّ أبا بكر رضي الله عنه خطب النّاس فقال : يا أيّها النّاس إنّكم تقرءون هذه الآية : {يا أيّها الّذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم» فتضعونها في غير موضعها ، وإنّي سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : إنّ النّاس إذا رأوا المنكر ولا يغيّروه أوشك اللّه أن يعمّهم بعقابه}.
وفي سنن أبي داود من حديث العرس بن عميرة الكنديّ رضي الله عنه قال : «قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها» « وفي رواية » - «فأنكرها كان كمن غاب عنها ، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها» .
لأجل ذلك عهد الشّارع الحكيم إلى الأمّة أن تقوم طائفة منها على الدّعوة إلى الخير وإسداء النّصح للأفراد والجماعات ، ولا تخلص من عهدتها حتّى تؤدّيها طائفة على النّحو الّذي هو أبلغ أثرا في استجابة الدّعوة وامتثال الأوامر واجتناب النّواهي.
والحسبة ولاية شرعيّة ، ووظيفة دينيّة تلي في المرتبة وظيفة القضاء ، إذ إنّ ولايات رفع المظالم عن النّاس على العموم على ثلاث مراتب : أسماها وأقواها ولاية المظالم ، وتليها ولاية القضاء ، وتليها ولاية الحسبة.
والحسبة من الخطط الدّينيّة الشّرعيّة كالصّلاة والفتيا والقضاء والجهاد ، وقد جمع بعض العلماء الولايات الشّرعيّة في عشرين ولاية ، أعلاها الخلافة العامّة ، والبقيّة كلّها مندرجة تحتها ، وهي الأصل الجامع لها ، وكلّها متفرّعة عنها ، وداخلة فيها ، لعموم نظر الإمام في سائر أحوال الأمّة الدّينيّة والدّنيويّة ، وتنفيذ أحكام الشّرع فيها على العموم ، وقد عني الأئمّة بولاية الحسبة عناية كبيرة ، ووضعوا فيها المؤلّفات مفصّلين أحكامها ومراتبها ، وأركانها ، وشرائطها ، وتأصيل مسائلها ، ووضع القواعد في مهمّاتها.
«أنواع الحسبة»
9 - ولاية الحسبة نوعان : ولاية أصليّة مستحدثة من الشّارع ، وهي الولاية الّتي اقتضاها التّكليف بها لتثبت لكلّ من طلبت منه.
وولاية مستمدّة وهي الولاية الّتي يستمدّها من عهد إليه في ذلك من الخليفة أو الأمير وهو المحتسب ، وعلى ذلك فإنّه يجمع بين الولايتين ، لأنّه مكلّف بها شخصيّا من جهة الشّارع ومكلّف بها كذلك من قبل من له الأمر.
أمّا غيره من النّاس فليس له من ذلك إلاّ الولاية الّتي أضفاها الشّارع عليه وهي الولاية الأصليّة ، وهذه الولاية كما تتضمّن الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر على وجه الطّلب مباشرة تتضمّن كذلك القيام بما يؤدّي إلى اجتناب المنكر ، لا على وجه الطّلب بل على وجه الدّعاء والاستعداء ، وذلك يكون بالتّقدّم إلى القاضي بالدّعوى بالشّهادة لديه ، أو باستعداء المحتسب ، وتسمّى الدّعوى لدى القاضي بطلب الحكم بإزالة المنكر دعوى حسبة ، ولا تكون إلاّ فيما هو حقّ للّه ، وعندئذ يكون مدّعيا بالحقّ وشاهدا به في وقت واحد.
ويطلق الفقهاء على من يقوم بالاحتساب دون انتداب لها من الإمام أو نائبه المتطوّع ، أمّا من انتدبه الإمام وعهد إليه النّظر في أحوال الرّعيّة والكشف عن أمورهم ومصالحهم فهو المحتسب.
والفرق بينهما من عدّة أوجه كما بيّنه الماورديّ وغيره وهي :
الأوّل : أنّ قيام المحتسب بالولاية صار من الحقوق الّتي لا يسوغ أن يشتغل عنها بغيرها وقيام المتطوّع بها من نوافل عمله يجوز أن يشتغل عنها بغيرها.
الثّاني : أنّه منصوب للاستعداء فيما يجب إنكاره ، وليس المتطوّع منصوبا للاستعداء.
الثّالث : أنّ على المحتسب بالولاية إجابة من استعداه وليس على المتطوّع إجابته.
الرّابع : أنّ عليه أن يبحث عن المنكرات الظّاهرة ليصل إلى إنكارها ويفحص عمّا ترك من المعروف الظّاهر ليأمر بإقامته ، وليس على غيره من المتطوّعة بحث ولا فحص.
الخامس : أنّ له أن يتّخذ على الإنكار أعوانا ، لأنّه عمل هو له منصوب وإليه مندوب ليكون عليه أقدر ، وليس للمتطوّع أن يندب لذلك أعوانا.
السّادس : أنّ له أن يعزّر في المنكرات الظّاهرة ولا يتجاوز إلى الحدود ، وليس للمتطوّع أن يعزّر على منكر.
السّابع : أنّ له أن يرتزق على حسبته من بيت المال ، ولا يجوز للمتطوّع أن يرتزق على إنكار منكر.
الثّامن : أنّ له اجتهاد رأيه فيما تعلّق بالعرف دون الشّرع كالمقاعد في الأسواق ، وإخراج الأجنحة فيقرّ وينكر من ذلك ما أدّاه إليه اجتهاده ، وليس هذا للمتطوّع.
«أركان الحسبة»
10 - ذكر الإمام الغزاليّ أنّها أربعة : المحتسب ، والمحتسب عليه ، والمحتسب فيه ، ونفس الاحتساب.
ولكلّ ركن من هذه الأركان حدود وأحكام وشروط تخصّه :
الرّكن الأوّل : المحتسب وهو من نصّبه الإمام أو نائبه للنّظر في أحوال الرّعيّة والكشف عن أمورهم ومصالحهم ، وتصفّح أحوال السّوق في معاملاتهم ، واعتبار موازينهم وغشّهم ، ومراعاة ما يسري عليه أمورهم ، واستتابة المخالفين ، وتحذيرهم بالعقوبة ، وتعزيرهم على حسب ما يليق من التّعزير على قدر الجناية.
«شروط المحتسب»
11 - اشترط الفقهاء في صاحب هذه الولاية شروطا حتّى يتحقّق المقصود منها ، وهذه الشّروط هي :
«أوّلا : الإسلام»
الإسلام شرط لصحّة الاحتساب لما فيه من السّلطنة وعزّ التّحكيم ، فخرج الكافر لأنّه ذليل لا يستحقّ عزّ التّحكيم على المسلمين قال تعالى : «ولن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلا» ولأنّ في الأمر والنّهي نصرة للدّين فلا يكون من أهلها من هو جاحد لأصل الدّين.
«الشّرط الثّاني : التّكليف ' البلوغ والعقل '»
12 - التّكليف طلب ما فيه كلفة ومشقّة وشرطه القدرة على فهم الخطاب ، وصلاحية المكلّف لصدور الفعل منه على الوجه المطلوب شرعا ، ودعامته العقل الّذي هو أداة الفهم ، وقد جعله اللّه تعالى أصلا للدّين وللدّنيا فأوجب التّكليف بكماله.
فالتّكليف شرط لوجوب الاحتساب وتولّي ولايتها ، أمّا مجرّد الأمر والنّهي فإنّ الصّبيّ غير مخاطب ولا يلزمه فعل ذلك ، أمّا إمكان الفعل وجوازه في حقّه فلا يستدعي إلاّ العقل فإذا عقل القربة وعرف المناكر وطريق التّغيير فتبرّع به كان منه صحيحا سائغا ، فله إنكار المنكر ، وله أن يريق الخمر ، وكسر الملاهي ، وإذا فعل ذلك نال به ثوابا ، ولم يكن لأحد منعه من حيث إنّه ليس بمكلّف فإنّ هذه قربة وهو من أهلها كالصّلاة والإمامة وسائر القربات ، وليس حكمه حكم الولايات حتّى يشترط فيه التّكليف ، ولذلك جاز لآحاد النّاس فعله وهو من جملتهم ، وإن كان فيه نوع ولاية وسلطنة ، ولكنّها تستفاد بمجرّد الإيمان كقتل المحارب ، وإبطال أسبابه ، وسلب أسلحته فإنّه للصّبيّ أن يفعل ذلك حيث لا يستضرّ به ، فالمنع من الفسق كالمنع من الكفر.
«الشّرط الثّالث : العلم»
13 - العلم الّذي يشترط تحقّقه في المحتسب على ضربين : الضّرب الأوّل : أن يكون عارفا بأحكام الشّريعة ليعلم ما يأمر به وينهى عنه ، فإنّ الجاهل بها ربّما استحسن ما قبّحه الشّرع وارتكب المحذور وهو غير ملمّ بالعلم به ولكن لا يشترط فيه بلوغ مرتبة الاجتهاد الشّرعيّ على رأي جمهور الفقهاء بل يكتفى فيه أن يكون من أهل الاجتهاد العرفيّ.
والفرق بينهما أنّ الاجتهاد العرفيّ ما ثبت حكمه بالعرف لقوله تعالى : «خذ العفو وأمر بالعرف» .
والاجتهاد الشّرعيّ ما روعي فيه أصل ثبت حكمه الشّرعيّ.
وذهب أبو سعيد الإصطخريّ من الشّافعيّة إلى اشتراط الاجتهاد الشّرعيّ في المحتسب ليجتهد برأيه فيما اختلف فيه.
ويظهر أثر الخلاف في أنّ من اشترط فيه بلوغه مرتبة الاجتهاد في المسائل المختلف فيها ، أمّا من لم يشترط ذلك فقد ذهب إلى عدم جواز حمل النّاس على رأيه.
ولا ينكر المحتسب إلاّ مجمعا على إنكاره أو ما يرى الفاعل تحريمه ، أمّا ما عدا ذلك فإنكاره يكون على سبيل النّدب على وجه النّصيحة والخروج من الخلاف إن لم يقع في خلاف آخر وترك سنّة ثابتة لاتّفاق العلماء على استحباب الخروج من الخلاف.
ولا يأمر ولا ينهى في دقائق الأمور إلاّ العلماء ، وكذلك ما اختصّ علمه بهم دون العامّة لجهلهم بها.
فالعامّيّ ينبغي له أن لا يحتسب إلاّ في الجليّات المعلومة كالصّوم والصّلاة والزّنى وشرب الخمر ونحوه ، أمّا ما يعلم كونه معصية بالإضافة إلى ما يطيف به من الأنفال ويفتقر إلى اجتهاد ، فالعاصي إن خاض فيه كان ما يفسده أكثر ممّا يصلحه.
الضّرب الثّاني : أن يعلم صفة التّغيير بأن يعلم أو يغلب على ظنّه أنّ إنكاره المنكر مزيل له وأنّ أمره بالمعروف مؤثّر فيه ونافع.
«الشّرط الرّابع : العدالة»
14 - العدالة هيئة راسخة في النّفس تمنع من اقتراف كبيرة أو صغيرة دالّة على الخسّة ، أو مباح يخلّ بالمروءة وقال الجصّاص : أصلها الإيمان باللّه واجتناب الكبائر ومراعاة حقوق اللّه عزّ وجلّ في الواجبات والمسنونات وصدق اللّهجة والأمانة.
والعدل من يكون مجتنبا عن الكبائر ولا يكون مصرّا على الصّغائر ، ويكون صلاحه أكثر من فساده ، وصوابه أكثر من خطئه ، ويستعمل الصّدق ديانة ومروءة ويجتنب الكذب ديانة ومروءة.
ولم يشترط جمهور الفقهاء تحقّق العدالة في المحتسب إذا كان متطوّعا غير صاحب ولاية ، واشترطوها في صاحب الولاية إلاّ عند الضّرورة لما سيأتي : أمّا وجه عدم اشتراطها في الأوّل ، فلأنّ الأدلّة تشمل البرّ والفاجر ، وإن ترك الإنسان لبعض الفروض لا يسقط عنه فروضا غيرها ، فمن ترك الصّلاة لا يسقط عنه فرض الصّوم وسائر العبادات ، فكذلك من لم يفعل سائر المعروف ولم ينته عن سائر المنكر ، فإن فرض الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر غير ساقط عنه ، وأنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم أجرى فرض الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر مجرى سائر الفروض في لزوم القيام به مع التّقصير في بعض الواجبات.
في قوله صلى الله عليه وسلم «مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به ، وانهوا عن المنكر وإن لم تجتنبوه كلّه» .
وقال أبو عبد اللّه العقبانيّ التّلمسانيّ المالكيّ : اختلف في العدالة هل هي شرط في صفة المغيّر « المحتسب » أو لا.
فاعتبر قوم شرطيّتها ، ورأوا أنّ الفاسق لا يغيّر ، وأبى من اعتبارها آخرون ، وذلك الصّحيح المشهور عند أهل العلم ، لأنّ ذلك من الشّروط الواجبة على الشّخص في رقبته كالصّلاة فلا يسقطه الفسق ، كما لا يسقط وجوب الصّلاة بتعلّق التّكليف بأمر الشّرع.
قال عليه الصلاة والسلام : «من رأى منكم منكرا فليغيّره» وليس كونه فاسقا أو ممّن يفعل ذلك المنكر بعينه يخرجه عن خطاب التّغيير لأنّ طريق الفرضيّة متغاير.
وقال ابن العربيّ المالكيّ : وليس من شرطه أن يكون عدلا عند أهل السّنّة ، لأنّ العدالة محصورة في قليل من الخلق ، والنّهي عن المنكر عامّ في جميع النّاس.
وقال الإمام الغزاليّ : الحقّ أنّ للفاسق أن يحتسب ، وبرهانه أن تقول : هل يشترط في الاحتساب أن يكون متعاطيه معصوما عن المعاصي كلّها ؟ فإن شرط ذلك فهو خرق للإجماع ، ثمّ حسم لباب الاحتساب ، إذ لا عصمة للصّحابة فضلا عمّن دونهم ، وأنّ جنود المسلمين لم تزل مشتملة على البرّ والفاجر ، وشارب الخمر ، وظالم الأيتام ، ولم يمنعوا من الغزو لا في عصر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولا بعده ، وأنّ الحسبة تكون بالقول والفعل نحو إراقة الخمر ، وكسر الملاهي وغيرها ، فإذا منع الفاسق من الحسبة بالقول لما فيه من مخالفة قوله عمله فإنّه لا يمنع من الحسبة بالفعل ، لأنّ المراد منه القهر ، وتمام القهر أن يكون بالفعل والحجّة جميعا وإن كان فاسقا.
فإن قهر بالفعل فقد قهر بالحجّة ، وأنّ الحسبة القهريّة لا يشترط فيها ذلك ، فلا حرج على الفاسق في إراقة الخمر وكسر الملاهي إذا قدر.
وكما إذا أخبر وليّ الدّم الفاسق بالعفو عن القصاص فله أن يدفع من أراد القصاص من الجاني ولو بالقتل إذا لم يصدّقه بعفو وليّ الدّم دفعا لمفسدة القتل بغير حقّ.
أمّا من اشترطها في حالة التّطوّع والاحتساب ، فقد استدلّ بالنّكير الوارد على من يأمر بما لا يفعله ، مثل قوله تعالى : «أتأمرون النّاس بالبرّ وتنسون أنفسكم» وقوله تعالى : «كبر مقتا عند اللّه أن تقولوا ما لا تفعلون» وقوله تعالى : فيما أخبر به عن نبيّه شعيب عليه السلام لمّا نهى قومه عن بخس الموازين ونقص المكاييل : «وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه» وبما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : «مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار قلت : ما هؤلاء ؟ قال : هؤلاء خطباء أمّتك من أهل الدّنيا ، كانوا يأمرون النّاس بالبرّ وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون» أمّا وجه الاشتراط في صاحب الولاية ، فلأنّه كما قال صاحب تحفة النّاظر : إنّ ولاية الحسبة من أشرف الولايات في الإسلام قدرا ، وأعظمها في هذه الملّة مكانة وفخرا ، فلا بدّ أن يكون متولّيها متوفّرة فيه شروط الولاية ، فلا يصحّ أن يليها إلاّ من طالت يده في الكمالات وبرز في الخير وأحرز أوصافه المرضيّة ، ولا تنعقد لمن لم تتوفّر فيه الشّروط ، لأنّ من شرف منزلة من تولّاها أن يحتسب على أئمّة المساجد وعلى قضاة المسلمين.
ولأنّ سبيل عقد الولاية الشّرعيّة أنّه لا يصحّ لمن قام بها وصف فسق وفقد عدالة ، إذ العدالة مشترطة في سائر الولايات الشّرعيّة ، كالإمامة الكبرى فما دونها ، لأنّ من انعقدت له الولاية في القيام بحقّ من الحقوق المهمّة في الدّين صار مفوّضا له فيما قدّم إليه النّيابة عن المسلمين ، فلا بدّ أن يكون أمينا أيّ أمين ، ولا أمانة مع من لم يقم به وصف العدالة.
ولهذا اشترطها في والي الحسبة جمهور الفقهاء وأغفل اشتراطها الشّيرازيّ وابن بسّام وأدار المحقّقون من العلماء حكمها كابن عبد السّلام ، وابن تيميّة على رعاية المصلحة ودفع المفسدة ، ورفع المشقّة ، وأورد ابن عبد السّلام قاعدة عامّة في تعذّر العدالة في الولايات سواء أكانت عامّة أم خاصّة بتولية أقلّهم فسوقا.
ولابن تيميّة كلام طويل في هذا الشّأن خلاصته : أنّه يستعمل الأصلح الموجود وقد لا يكون في موجوده من هو صالح لتلك الولاية فيختار الأمثل فالأمثل في كلّ منصب بحسبه.
أمّا تفاصيل أحكام الولاية ففي مصطلح ولاية.
«الشّرط الخامس : القدرة»
15 - قال ابن العربيّ : وأمّا القدرة فهي أصل وتكون منه في النّفس ، وتكون في البدن إن احتاج إلى النّهي عنه بيده ، فإن خاف على نفسه الضّرب ، أو القتل من تغييره ، فإن رجا زواله جاز عند أكثر العلماء الاقتحام عند هذا الغرر ، وإن لم يرج فأيّ فائدة فيه.
ثمّ قال : إنّ النّيّة إذا خلصت فليقتحم كيفما كان ولا يبالي.
وعنده أنّ تخليص الآدميّ أوجب من تخليص حقّ اللّه تعالى.
وللإمام الغزاليّ تفصيل فيما تسقط به الحسبة وجوبا غير العجز الحسّيّ ، وهو أن يلحقه من الاحتساب مكروه ، أو يعلم أنّ احتسابه لا يفيد ، وعنده أنّ المكروه هو ضدّ المطلوب ، ومطالب الإنسان ترجع إلى أربعة أمور : هي العلم والصّحّة ، والثّروة ، والجاه ، وكلّ واحدة من هذه الأربعة يطلبها الإنسان لنفسه ولأقاربه المختصّين به ، والمكروه من هذه الأربعة أمران:
أحدهما : زوال ما هو حاصل موجودا.
والآخر امتناع ما هو منتظر مفقود ، ثمّ يستطرد في بيان ما يعدّ مؤثّرا في إسقاط الحسبة وما لا يعدّ منها على ما سنذكره بعد والحقّ أنّ الاستطاعة شرط في الاحتساب ، كما أنّها شرط في جميع التّكاليف الشّرعيّة ، وهي متحقّقة بأصحاب الولايات من الأئمّة ، والولاة ، والقضاة ، وسائر الحكّام ، فإنّهم متمكّنون بعلوّ اليد وامتثال الأمر ، ووجوب الطّاعة ، وانبساط الولاية يدلّ عليه قوله سبحانه وتعالى : «الّذين إن مكّنّاهم في الأرض أقاموا الصّلاة وآتوا الزّكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر» .
فإنّ من أنواع القيام بذلك ما يدعو إلى إقامة الحدود والعقوبات ممّا لا يفعله إلاّ الولاة والحاكم فلا عذر لمن قصّر منهم عند اللّه تعالى ، لأنّه إذا أهمل هؤلاء القيام بذلك فجدير ألا يقدر عليه من هو دونهم من رعيّتهم ، فيوشك أن تضيع حرمات الدّين ويستباح حمى الشّرع والمسلمين.
ولمّا كانت ولاية الحسبة من الولايات الشّرعيّة وهي من وظائف الإمام وتفويضه إلى غيره من قبيل الاستنابة ، ويقوم بها نيابة عنه وطبيعتها تقوم على الرّهبة ، واستطالة الحماة ، وسلاطة السّلطنة ، واتّخاذ الأعوان ، كان القيام بالحسبة في حقّه من فرائض الأعيان الّتي لا تسقط عنه بحال ، بخلاف الآحاد فإنّه لا تلزمهم الحسبة إلاّ مع القدرة والسّلامة ، فمن علم أو غلب على ظنّه أنّه يصله مكروه في بدنه بالضّرب ، أو في ماله بالاستهلاك ، أو في جاهه بالاستخفاف به بوجه يقدح في مروءته أو علم أنّ حسبته لا تفيد سقط عنه الوجوب ، أمّا إذا غلب على ظنّه أنّه لا يصاب بأذى فيما ذكر فلا يسقط عنه الوجوب وكذلك إذا احتمل الأمران.
وإذا سقط الوجوب هل يحسن الإنكار ويكون أفضل من تركه ، أم إنّ التّرك أفضل ؟ من الفقهاء من قال بالأوّل لقوله تعالى : «واصبر على ما أصابك» ومنهم من قال التّرك أفضل لقوله تعالى : «ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة» لكن ذهب ابن رشد إلى وجوب التّرك مع تيقّن الأذى لا سقوط الوجوب وبقاء الاستحباب فتلك طريقة عزّ الدّين بن عبد السّلام وعين ما قاله الغزاليّ.
«الشّرط السّادس : الإذن من الإمام»
16 - اشترط فريق من العلماء في المحتسب أن يكون مأذونا من جهة الإمام أو الوالي ، وقالوا : ليس للآحاد من الرّعيّة الحسبة ، والجمهور على خلافه إلاّ فيما كان محتاجا فيه إلى الاستعانة وجمع الأعوان ، وما كان خاصّا بالأئمّة أو نوّابهم ، كإقامة الحدود ، وحفظ البيضة ، وسدّ الثّغور وتسيير الجيوش ، أمّا ما ليس كذلك فإنّ لآحاد النّاس القيام به ، لأنّ الأدلّة الّتي وردت في الأمر والنّهي والرّدع عامّة ، والتّخصيص بشرط التّفويض من الإمام تحكّم لا أصل له ، وأنّ احتساب السّلف على ولاتهم قاطع بإجماعهم على الاستفتاء عن التّفويض.
وشرح الإمام الغزاليّ ذلك فقال : إنّ الحسبة لها خمس مراتب :
أوّلها التّعريف ، والثّاني الوعظ بالكلام اللّطيف ، والثّالث السّبّ والتّعنيف ، والرّابع المنع بالقهر بطريق المباشرة ، ككسر الملاهي ونحوه ، والخامس التّخويف والتّهديد بالضّرب ، ثمّ قال : أمّا التّعريف والوعظ فلا يحتاج إلى إذن الإمام ، وأمّا التّجهيل ، والتّحميق ، والنّسبة إلى الفسق ، وقلّة الخوف من اللّه وما يجري مجراه فهو كلام صدق ، والصّدق مستحقّ لحديث : «أفضل الجهاد كلمة حقّ عند إمام جائر» فإذا جاز الحكم على الإمام على مراغمته فكيف يحتاج إلى إذنه ، وكذلك كسر الملاهي ، وإراقة الخمور ، فإنّ تعاطي ما يعرف كونه حقّا من غير اجتهاد فلم يفتقر إلى إذن الإمام ، وأمّا جمع الأعوان ، وشهر الأسلحة فذلك قد يجرّ إلى فتنة عامّة ففيه نظر وقد ذهب إلى اشتراط الإذن في هذه الحالة جمهرة العلماء ، لأنّه يؤدّي إلى الفتن وهيجان الفساد.
وكذلك ما كان مختصّا بالأئمّة والولاة فلا يستقلّ بها الآحاد كالقصاص ، فإنّه لا يستوفى إلاّ بحضرة الإمام ، لأنّ الانفراد باستيفائه محرّك للفتن ، ومثله حدّ القذف لا ينفرد مستحقّه باستيفائه ، لأنّه غير مضبوط في شدّة وقعه وإيلامه.
وكذلك التّعزير لا يفوّض إلى مستحقّه إلاّ أن يضبطه الإمام بالحبس في مكان معلوم في مدّة معلومة ، فيجوز له أن يتولّاه المستحقّ.
أمّا لو فوّض الإمام قطع السّرقة إلى السّارق أو وكّل المجنيّ عليه الجاني في قطع العضو فوجهان : أحدهما يجوز لحصول المقصود باستيفائه ، والثّاني لا يجوز ، لأنّ الاستيفاء لغيره أزجر له.
وقد بيّن إمام الحرمين ما يتعلّق بالأئمّة من أصل الدّين وفروعه ، وما يتعلّق بهم من أحكام الدّنيا ، وما يلزمهم في حفظ أهل الإسلام عن النّوائب ، والتّغالب ، والتّقاطع ، والتّدابر ، والتّواصل ، وأنّ الحدود بجملتها منوطة إلى الأئمّة والّذين يتولّون الأمور من جهتهم.
«الشّرط السّابع : الذّكورة.
»

17 - اشترطت طائفة فيمن يتولّى الحسبة أن يكون ذكرا ، وأيّده ابن العربيّ ، وتبعه القرطبيّ وقال : إنّ المرأة لا يتأتّى منها أن تبرز إلى المجالس ، ولا أن تخالط الرّجال ، ولا تفاوضهم مفاوضة النّظير للنّظير ، لأنّها إن كانت فتاة حرم النّظر إليها وكلامها ، وإن كانت متجالّة برزة لم يجمعها والرّجال مجلس تزدحم فيه معهم ، وتكون منظّرة لهم ، ولن يفلح قطّ من تصوّر هذا ولا من اعتقده.
واستدلّ على منعها من الولاية بحديث : «لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة» وقال : فيما روي من أنّ عمر رضي الله عنه قدّم امرأة على حسبة السّوق إنّه لم يصحّ وهو من دسائس المبتدعة.
وأجاز توليتها آخرون لما ثبت من أنّ سمراء بنت شهيك الأسدية كانت تمرّ في الأسواق تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وتنهى النّاس عن ذلك بسوط معها.
ويستدلّ على جواز ولايتها وعدمه بالخلاف الوارد في جواز توليتها الإمارة والقضاء.
قال ابن حجر بعد أن نقل كلام الخطّابيّ : إنّ المرأة لا تلي الإمارة ولا القضاء ، وأنّها لا تزوّج نفسها ولا تلي العقد على غيرها ، والمنع من أن تلي الإمارة والقضاء قول الجمهور وأجازه الطّبريّ ، وهي رواية عن مالك ، وعن أبي حنيفة تلي الحكم فيما تجوز فيه شهادة النّساء.
«ارتزاق المحتسب»
18 - الرّزق ما يرتّبه الإمام من بيت المال لمن يقوم بمصالح المسلمين فإن كان يخرجه كلّ شهر سمّي رزقا ، وإن كان يخرجه كلّ عام سمّي عطاء.
وممّا جاء في ردّ الإمام أبي يوسف على الخليفة هارون الرّشيد في كتاب الخراج قوله : فاجعل - أعزّ اللّه أمير المؤمنين بطاعته - ما يجري على القضاة والولاة من بيت مال المسلمين ، من جباية الأرض أو من خراج الأرض والجزية ، لأنّهم في عمل المسلمين فيجري عليهم من بيت مالهم ، يجري على كلّ والي مدينة وقاضيها بقدر ما يحتمل ، وكلّ رجل تصيّره في عمل المسلمين ، فأجر عليه من بيت مالهم.
ويعطى المحتسب المنصوب كفايته في بيت المال من الجزية والخراج ، لأنّه عامل للمسلمين محبوس لهم ، فتكون كفايته في مالهم كالولاة ، والقضاة ، والغزاة ، والمفتين ، والمعلّمين.
وكذلك سبيل أرزاق أعوانه سبيل أرزاق الأعوان الّذين يوجّههم الحاكم في مصالح النّاس تكون لهم من بيت المال كأرزاق سائر العمّال والولاة ، لأنّ اشتغالهم بذلك يضيّع عليهم الزّمان في شأنه عن القيام بمعايشهم وطلب أقواتهم.
ولا يجوز للمحتسب ولا لأحد من أعوانه أخذ المال من النّاس لأجل الاحتساب ، لأنّه من قبيل الرّشوة ، وهي حرام شرعا ، لأنّ ما أخذه المحتسب ينظر فيه ، إن أخذه ليسامح في منكر ، أو يداهن فيه ، أو يقصّر في معروف ، فهو أحد أنواع الرّشوة وأنّها حرام وإذا جعل لمن ولي في السّوق شيء من أهل السّوق فيما يشترونه سامحهم في الفساد بما له معهم فيه من النّصيب ، أمّا إذا لم يكن لهم رزق من بيت المال أو كان لا يكفيهم فإنّه ربّما يرخّص لهم بقدر ما يكفيهم ، لأنّهم يعملون لهم ، فيأخذون كفايتهم ، أمّا الزّيادة على الكفاية فلا تجوز ، لأنّه مال مأخوذ من المسلم قهرا وغلبة بغير رضاه ، لقوله تعالى : «لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاّ أن تكون تجارة عن تراض منكم» وقد شدّد العلماء النّكير على أخذ المال من النّاس بدون وجه حقّ.
والأرزاق ليست بمعاوضة ألبتّة لجوازها في أضيق المواضع المانعة من المعاوضة ، وهو القضاء والحكم بين النّاس ، فلا ورع حينئذ في ترك تناول الرّزق والأرزاق على الإمامة من هذا الوجه ، وإنّما يقع الورع من جهة قيامه بالوظيفة خاصّة ، فإنّ الأرزاق لا يجوز تناولها إلاّ لمن قام بذلك على الوجه الّذي صرّح به الإمام في إطلاقه لتلك الأرزاق.
«آداب المحتسب»
19 - المقصود من الآداب الأخذ بما يحمد قولا وفعلا ، والتّحلّي بمكارم الأخلاق ، فينبغي للمحتسب أخذ نفسه بها حتّى يكون عمله مقبولا ، وقوله مسموعا ، وتحقّق ولايته الهدف منها ، وذلك بأن يكون عفيفا عن قبول الهدايا من أرباب الصّناعات والمهرة ، فإنّ ذلك أسلم لعرضه وأقوم لهيبته ، وأن يلازم الأسواق ، ويدور على الباعة ، ويكشف الدّكاكين والطّرقات ، ويتفقّد الموازين والأطعمة ، ويقف على وسائل الغشّ في أوقات مختلفة ، وعلى غفلة من أهلها ، ويستعين في عمله بالأمناء العارفين الثّقات ، ليعتمد على أقوالهم ويبالغ في الكشف فيها ، ويباشر ذلك بنفسه ، فقد ذكر أنّ عليّ بن عيسى الوزير وقع إلى محتسب كان في وقت وزارته يكثر الجلوس في داره ببغداد « الحسبة لا تحتمل الحجبة فطف الأسواق تحلّ لك الأرزاق ، واللّه إن لزمت دارك نهارا لأضرمنها عليك نارا والسّلام ".
وأن يتّخذ أعوانا يستعين بهم على قدر الحاجة ، ويشترط فيهم العفّة والصّيانة ، ويؤدّبهم ويهذّبهم ، ويعرّفهم كيف يتصرّفون بين يديه ، وكيف يخرجون في طلب الغرماء ، ولا ينفرد أحد منهم بعمل إلاّ بعد مشورته.
وأن يكون أمره ونهيه في السّرّ إن استطاع ، ليكون أبلغ في الموعظة والنّصيحة ، فإن لم تنفعه الموعظة في السّرّ أمره بالعلانية ، وقد أوصى بعض الوزراء الصّالحين بعض من يأمر بالمعروف »
اجتهد أن تستر العصاة فإنّ ظهور معاصيهم عيب في أهل الإسلام « وأن يقصد من حسبته وجه اللّه تعالى وإعزاز دينه ، وينبغي أن يكون المحتسب عالما بما يأمر به وينهى عنه ، وأن يتحلّى بالرّفق واللّين والشّفقة ، ولا يقصد إلاّ الإصلاح ولا يخشى في اللّه لومة لائم ، وتكون عقوبته مناسبة مع جرم كلّ إنسان وحاله ، وما يليق به ، ويكون متأنّيا غير مبادر إلى العقوبة ، ولا يؤاخذ أحدا بأوّل ذنب يصدر منه ، ولا يعاقب بأوّل زلّة تبدو ، وإذا عثر على من نقص المكيال أو بخس الميزان أو غشّ بضاعة أو صناعة استتابه عن معصيته ، ووعظه وخوّفه وأنذره العقوبة والتّعزير ، فإن عاد إلى فعله عزّره على حسب ما يليق به من التّعزير بقدر الجناية.
ومن آكد وألزم ما ينبغي أن يكون عليه المحتسب أن يكون متحلّيا بالعلم والرّفق والصّبر ، العلم قبل الأمر والنّهي ، والرّفق معه ، والصّبر بعده فإذا جمع إلى ذلك كلّه بعد النّظر مع الفطنة والصّدق في القول والعمل والصّرامة في الحقّ وأحكم أموره وتحرّى الإصابة فيها فإنّه حريّ أن تثمر هذه الولاية أطيب الثّمار ، وتحقّق الغاية المرجوّة منها.
aaعزل المحتسبaa
20 - أجمل الماورديّ أسباب العزل من الولاية في عدّة أمور :
أحدها الخيانة ، والثّاني أن يكون سببه العجز والقصور ، والثّالث والرّابع أن يكون السّبب اختلال العمل من عسف وجور ، أو ضعف وقلّة هيبة ، والخامس أن يكون سببه وجود من هو أكفأ منه.
وذكر صاحب معالم القربة أنّه إذا بلغ المحتسب أمر وتركه أثم ، وإن تكرّر شكوى ذلك منه ولم يأخذ له بحقّه سقطت ولايته شرعا ، أو خرج عن أهليّة الحسبة وسقطت مروءته وعدالته ، ولا يبقى محتسبا شرعا ، وإن عجز عن ذلك يرفعه إلى وليّ الأمر وهو الإمام أو نائبه ، والّذي يجب على السّلطان إدرار رزقه الّذي يكفيه وتعجيله ، وبسط يده ، وترك معارضته ، وردّ الشّفاعة عنده من الخاصّة والعامّة.
aaالرّكن الثّاني المحتسب فيهaa
21 - تجري الحسبة في كلّ معروف إذا ظهر تركه ، وفي كلّ منكر إذا ظهر فعله ، ويجمعها لفظ »
الخير « في قوله تعالى : {ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} فالخير يشمل كلّ شيء يرغب فيه من الأفعال الحسنة وكلّ ما فيه صلاح دينيّ ودنيويّ وهو جنس يندرج تحته نوعان :
أحدهما : التّرغيب في فعل ما ينبغي وهو الأمر بالمعروف.
والثّاني : التّرغيب في ترك ما لا ينبغي وهو النّهي عن المنكر.
فذكر الحقّ جلّ وعلا الجنس أوّلا وهو الخير ، ثمّ أتبعه بنوعيه مبالغة في البيان.
aaمعنى المعروف والمراد منهaa
22 - ذكر العلماء جملة معان للمعروف بينها عموم وخصوص.
فمنهم من قصره على الإيمان باللّه ومنهم من قيّده بواجبات الشّرع ومنهم من جعله شاملا لما طلبه الشّارع على سبيل الوجوب كالصّلوات الخمس ، وبرّ الوالدين ، وصلة الرّحم ، أو على سبيل النّدب كالنّوافل وصدقات التّطوّع ومنهم من جعله أشمل وأعمّ من ذلك فقال : هو اسم جامع لكلّ ما عرف من طاعة اللّه والتّقرّب إليه ، والإحسان إلى النّاس بكلّ ما ندب إليه الشّرع ، ونهى عنه من المحسّنات والمقبّحات ، وهو من الصّفات الغالبة أي أمر معروف بين النّاس إذا رأوه لا ينكرونه ، والمعروف النّصف »
العدل « وحسن الصّحبة مع الأهل وغيرهم من النّاس وقال ابن الجوزيّ في التّفسير : المعروف هو ما يعرف كلّ عاقل صوابه ، وقيل المعروف هاهنا طاعة اللّه
aaأقسام المعروف : ينقسم المعروف إلى ثلاثة أقسامaa
23 - أحدهما : ما يتعلّق بحقوق اللّه تعالى.
والثّاني : ما يتعلّق بحقوق الآدميّين.
والثّالث : ما يكون مشتركا بينهما.
ومعنى حقّ اللّه أمره ونهيه ، وحقّ العبد مصالحه.
لأنّ التّكاليف على ثلاثة أقسام : قسم فيه حقّ اللّه تعالى فقط كالإيمان وتحريم الكفر ، وقسم فيه حقّ العبد فقط كالدّيون والأثمان ، وقسم اختلف فيه هل يغلب فيه حقّ اللّه أو حقّ العبد كحدّ القذف ، والفرق بين ما كان حقّا محضا للعبد وبين حقّ اللّه أنّ حقّ العبد المحض لو أسقطه لسقط ، وإلاّ فما من حقّ للعبد إلاّ وفيه حقّ للّه تعالى ، وهو أمره بإيصال ذلك الحقّ إلى مستحقّه فيوجد حقّ اللّه تعالى دون حقّ العبد ، ولا يوجد حقّ العبد إلاّ وفيه حقّ اللّه تعالى ، وإنّما يعرف ذلك بصحّة الإسقاط ، فكلّ ما للعبد إسقاطه فهو الّذي يقصد به حقّ العبد ، وكلّ ما ليس له إسقاطه فهو الّذي يقصد بأنّه حقّ اللّه تعالى.
وأنّ النّاس كلّهم خصوم في إثبات حقوق اللّه تعالى نيابة عنه تعالى لكونهم عبيده ، أمّا حقّ العبد فلا ينتصب أحد خصما عن أحد لعدم ما يوجب انتصابه خصما.
aaالقسم الأوّل : المتعلّق بحقوق اللّه تعالى وهو ضربانaa
24 - أحدهما : ما يلزم الأمر به في الجماعة دون الانفراد وله أمثلة : المثال الأوّل : صلاة الجمعة وتلزم في وطن مسكون ، فإن كانوا عددا قد اتّفق على انعقاد الجمعة بهم كالأربعين فما زاد ، فواجب أن يأخذهم المحتسب بإقامتها ، ويأمرهم بفعلها ويؤدّب على الإخلال بها ، وإن كانوا عددا قد اختلف في انعقاد الجمعة بهم فله فيهم أربعة أحوال :
إحداها : أن يتّفق رأي المحتسب ورأي القوم على انعقاد الجمعة بذلك العدد ، فواجب عليه أن يأمرهم بإقامتها ، وعليهم أن يسارعوا إلى أمره بها ، ويكون في تأديبهم على تركها ألين منه في تأديبهم على ترك ما انعقد الإجماع عليه.
الحالة الثّانية : أن يتّفق رأيه ورأي القوم على أنّ الجمعة لا تنعقد بهم ، فلا يجوز أن يأمرهم بإقامتها وهو بالنّهي عنها لو أقيمت أحقّ.
الحالة الثّالثة : أن يرى القوم انعقاد الجمعة بهم ولا يراه المحتسب ، فلا يجوز له أن يعارضهم فيها ، ولا يأمر بإقامتها ، لأنّه لا يراه ، ولا يجوز أن ينهاهم عنها ويمنعهم ممّا يرونه فرضا عليهم.
الحالة الرّابعة : أن يرى المحتسب انعقاد الجمعة بهم ولا يراه القوم ، فهذا ممّا في استمرار تركه تعطيل الجمعة مع تطاول الزّمان وبعده وكثرة العدد وزيادته ، فهل للمحتسب أن يأمرهم بإقامتها اعتبارا بهذا المعنى أم لا ؟ اختلف الفقهاء في ذلك على وجهين :
أحدهما : وهو قول أبي سعيد الإصطخريّ أنّه يجوز له أن يأمرهم بإقامتها اعتبارا بالمصلحة لئلاّ ينشأ الصّغير على تركها ، فيظنّ أنّها تسقط مع زيادة العدد كما تسقط بنقصانه.
الوجه الثّاني : أنّه لا يتعرّض لأمرهم بها ، لأنّه ليس له حمل النّاس على اعتقاده ، ولا يقودهم إلى مذهبه ، ولا أن يأخذهم في الدّين برأيه مع تسويغ الاجتهاد فيه ، وأنّهم يعتقدون أنّ نقصان العدد يمنع من إجزاء الجمعة.
المثال الثّاني : صلاة العيد وهل يكون الأمر بها من الحقوق اللّازمة ، أو من الحقوق الجائزة ؟ على وجهين : من قال إنّها مسنونة قال : يندب الأمر بها ، ومن قال إنّها من فروض الكفاية قال : الأمر بها يكون حتما.
المثال الثّالث : صلاة الجماعة : صلاة الجماعة في المساجد وإقامة الأذان فيها للصّلوات من شعائر الإسلام ، وعلامات متعبّداته الّتي فرّق بها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بين دار الإسلام ودار الشّرك ، فإذا اجتمع أهل محلّة أو بلد على تعطيل الجماعات في مساجدهم ، وترك الأذان في أوقات صلواتهم ، كان المحتسب مندوبا إلى أمرهم بالأذان والجماعة في الصّلوات ، وهل ذلك واجب عليه يأثم بتركه ، أو مستحبّ له يثاب على فعله ، على وجهين من اختلاف الفقهاء في اتّفاق أهل بلد على ترك الأذان والجماعة ، وهل يلزم السّلطان محاربتهم عليه أم لا ؟ فأمّا من ترك صلاة الجماعة من آحاد النّاس أو ترك الأذان والإقامة لصلاته ، فلا اعتراض للمحتسب عليه إذا لم يجعله عادة وإلفا ، لأنّها من النّدب الّذي يسقط بالأعذار ، إلاّ أن يقترن به استرابة ، أو يجعله إلفا وعادة ويخاف تعدّي ذلك إلى غيره في الاقتداء به ، فيراعي حكم المصلحة به في زجره عمّا استهان به من سنن عبادته ، ويكون وعيده على ترك الجماعة معتبرا بشواهد حاله ، كالّذي روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : {لقد هممت أن آمر فتياني أن يستعدّوا إليّ بحزم من حطب ، ثمّ آمر رجلا يصلّي بالنّاس ثمّ تحرّق بيوت على من فيها}.
الضّرب الثّاني : ما يأمر به آحاد النّاس وأفرادهم كتأخير الصّلاة حتّى يخرج وقتها ، فيذكّر بها ويأمر بفعلها ، ويراعي جوابه عنها ، فإن قال : تركتها لنسيان ، حثّه على فعلها بعد ذكره ولم يؤدّبه ، وإن تركها لتوان أدّبه زجرا وأخذه بفعلها جبرا ، ولا اعتراض على من أخّرها والوقت باق لاختلاف الفقهاء في فضل التّأخير بالنّسبة لبعض الصّلوات ، ولكن لو اتّفق أهل بلد أو محلّة على تأخير صلاة الجماعات إلى آخر وقتها ، والمحتسب يرى فضل تعجيلها فهل له أن يأمرهم بالتّعجيل أو لا ؟ من رأى أنّه يأمرهم بذلك راعى أنّ اعتياد تأخيرها وإطباق جميع النّاس عليه مفض إلى أنّ الصّغير ينشأ وهو يعتقد أنّ هذا هو الوقت دون ما قبله ، ولو عجّلها بعضهم ترك المحتسب من أخّرها منهم وما يراه من التّأخير.
فأمّا الأذان والقنوت في الصّلوات إذا خالف فيه رأي المحتسب ، فلا اعتراض له فيه بأمر ولا نهي ، وإن كان يرى خلافه ، إذا كان ما يفعل مسوّغا في الاجتهاد ، وكذلك الطّهارة إذا فعلها على وجه سائغ يخالف فيه رأي المحتسب من إزالة النّجاسة بالمائعات ، والوضوء بماء تغيّر بالمذرورات الطّاهرات ، أو الاقتصار على مسح أقلّ الرّأس ، والعفو عن قدر الدّرهم من النّجاسة ، فلا اعتراض له في شيء من ذلك بأمر ولا نهي.
aaالقسم الثّاني ما تعلّق بحقوق الآدميّينaa
25 - المعروف المتعلّق بحقوق الآدميّين ضربان : عامّ وخاصّ.
فأمّا العامّ فكالبلد إذا تعطّل شربه ، أو استهدم سوره ، أو كان يطرقه بنو السّبيل من ذوي الحاجات فكفّوا عن معونتهم ، نظر المحتسب ذلك كلّه على حسب ما يجب ، لأنّ هذا حقّ مصروف إلى سهم المصالح وهو في بيت المال ، فإن كان في بيت المال مال لم يتوجّه عليهم فيه ضرر أمر بإصلاح شربهم ، وبناء سورهم وبمعونة بني السّبيل في الاجتياز بهم ، لأنّها حقوق تلزم بيت المال دونهم ، وكذلك لو استهدمت مساجدهم وجوامعهم ، فأمّا إذا أعوز بيت المال كان الأمر ببناء سورهم ، وإصلاح شربهم ، وعمارة مساجدهم وجوامعهم ، ومراعاة بني السّبيل فيهم متوجّها إلى كافّة ذوي المكنة منهم ، ولا يتعيّن أحدهم في الأمر به ، فإن شرع ذوو المكنة في عملهم وفي مراعاة بني السّبيل ، وباشروا القيام به ، سقط عن المحتسب حقّ الأمر به ، ولا يلزمهم الاستئذان في مراعاة بني السّبيل ، ولا في بناء ما كان مهدوما ، ولكن لو أرادوا هدم ما يريدون بناءه من المسترمّ والمستهدم لم يكن لهم الإقدام على هدمه إلاّ باستئذان وليّ الأمر دون المحتسب ، ليأذن لهم في هدمه بعد تضمينهم القيام بعمارته ، هذا في السّور والجوامع ، وأمّا المساجد المختصرة فلا يستأذنون فيها.
وعلى المحتسب أن يأخذهم ببناء ما هدموه وليس له أن يأخذهم بإتمام ما استأنفوه.
فأمّا إذا كفّ ذوو المكنة عن بناء ما استهدم وعمارة ما استرمّ ، فإن كان المقام في البلد ممكنا وكان الشّرب ، وإن فسد أو قلّ مقنعا تركهم وإيّاه ، وإن تعذّر المقام فيه لتعطّل شربه واندحاض سوره نظر ، فإن كان البلد ثغرا يضرّ بدار الإسلام تعطيله لم يجز لوليّ الأمر أن يفسح في الانتقال عنه ، وكان حكمه حكم النّوازل إذا حدثت في قيام كافّة ذوي المكنة به ، وكان تأثير المحتسب في مثل هذا إعلام السّلطان وترغيب أهل المكنة في عمله ، وإن لم يكن البلد ثغرا مضرّا بدار الإسلام كان أمره أيسر وحكمه أخفّ ، ولم يكن للمحتسب أن يأخذ أهله جبرا بعمارته ، لأنّ السّلطان أحقّ أن يقوم بعمارته ، وإن أعوزه المال فيقول لهم المحتسب ما دام عجز السّلطان عنه : أنتم مخيّرون بين الانتقال عنه أو التزام ما يصرف في مصالحه الّتي يمكن معها دوام استيطانه.
فإن أجابوا إلى التزام ذلك كلّف جماعتهم ما تسمح به نفوسهم من غير إجبار ويقول : ليخرج كلّ واحد منكم ما يسهل عليه وتطيب به نفسه ، ومن أعوزه المال أعان بالعمل حتّى إذا اجتمعت كفاية المصلحة أو تعيّن اجتماعها بضمان كلّ واحد من أهل المكنة قدرا طاب به نفسا ، شرع المحتسب حينئذ في عمل المصلحة ، وأخذ كلّ واحد من الجماعة بما التزم به ، وإن عمّت هذه المصلحة لم يكن للمحتسب أن يتقدّم بالقيام بها حتّى يستأذن السّلطان فيها ، لئلاّ يصير بالتّفرّد مفتاتا عليه ، إذ ليست هذه المصلحة من معهود حسبته ، وإن قلّت وشقّ استئذان السّلطان فيها أو خيف زيادة الضّرر لبعد استئذانه جاز شروعه فيها من غير استئذان.
وأمّا الخاصّ فكالحقوق إذا مطلت ، والدّيون إذا أخّرت ، فللمحتسب أن يأمر بالخروج منها مع المكنة إذا استعداه أصحاب الحقوق ، وليس له أن يحبس عليها ، لأنّ الحبس حكم وله أن يلازم عليها ، لأنّ لصاحب الحقّ أن يلازم وليس له الأخذ بنفقات الأقارب لافتقار ذلك إلى اجتهاد شرعيّ فيمن يجب له وعليه ، إلاّ أن يكون الحاكم قد فرضها فيجوز أن يأخذ بأدائها ، وكذلك كفالة من تجب كفالته من الصّغار لا اعتراض له فيها حتّى يحكم بها الحاكم ، ويجوز حينئذ للمحتسب أن يأمر بالقيام بها على الشّروط المستحقّة فيها.
فأمّا قبول الوصايا والودائع فليس له أن يأمر بها أعيان النّاس وآحادهم ، ويجوز أن يأمر بها على العموم حثّا على التّعاون بالبرّ والتّقوى ، ثمّ على هذا المثال تكون أوامره بالمعروف في حقوق الآدميّين.
26 - القسم الثّالث : ما كان مشتركا بين حقوق اللّه تعالى وحقوق الآدميّين
كأخذ الأولياء بإنكاح الأيامى من أكفائهنّ إذا طلبن ، وإلزام النّساء أحكام العدد إذا فورقن ، وله تأديب من خالف في العدّة من النّساء ، وليس له تأديب من امتنع من الأولياء ، ومن نفى ولدا قد ثبت فراش أمّه ولحوق نسبه أخذه بأحكام الآباء أو عزّره على النّفي أدبا ، ويأخذ أرباب البهائم بعلفها إذا قصّروا فيها ، وألاّ يستعملوها فيما لا تطيق ، ومن أخذ لقيطا فقصّر في كفالته أمره أن يقوم بحقوق التقاطه من التزام كفالته أو تسليمه إلى من يلتزمها ويقوم بها ، وكذلك واجد الضّوالّ إذا قصّر فيها أخذه بمثل ذلك من القيام بها أو تسليمها إلى من يقوم بها ، ويكون ضامنا للضّالّة بالتّقصير ولا يكون به ضامنا للّقيط ، وإذا سلّم الضّالّة إلى غيره ضمنها ولا يضمن اللّقيط بالتّسليم إلى غيره ، ثمّ على نظائر هذا المثال يكون أمره بالمعروف في الحقوق المشتركة.
aaمعنى المنكر والمراد منهaa
27 - المنكر ضدّ المعروف وقد اختلفت عبارات العلماء في تحديد معناه عموما وخصوصا ، فمنهم من قصره على الكفر ومنهم من جعله شاملا لمحرّمات الشّرع ومنهم من استعمله في كلّ ما نهى عنه الشّرع.
واستعمله آخرون في كلّ ما عرف بالعقل والشّرع قبحه وقال غيرهم هو أشمل من كلّ ما تقدّم ، هو ما تنكره النّفوس السّليمة وتتأذّى به ممّا حرّمه الشّرع ونافره الطّبع وتعاظم استكباره وقبح غاية القبح استظهاره في محلّ الملأ لقوله صلى الله عليه وسلم : {البرّ حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطّلع عليه النّاس}.
والمنكر منه ما هو مكروه ، ومنه ما هو محظور وهو المسمّى عند الحنفيّة بكراهة التّحريم وهو المراد من المكروه عند إطلاقهم ، وعند غيرهم يساوي المحرّم ، ويسمّى أيضا معصية وذنبا والفرق بين المكروه والمحظور ، أنّ المنع من المنكر المكروه مستحبّ ، والسّكوت عليه مكروه ، وليس بحرام ، وإذا لم يعلم الفاعل أنّه مكروه وجب ذكره له ، فإنّ للكراهة حكما في الشّرع يجب تبليغه إلى من لا يعرفه.
أمّا المحظور فالنّهي عنه واجب والسّكوت عليه محظور إذا تحقّق شرطه ، وبهذا اشترط صاحب الفواكه الدّواني أن يكون المنكر مجمعا على تحريمه ، أو يكون مدرك عدم التّحريم فيه ضعيفا.
aa»
شروط المنكر «aa
28 - يشترط في المنكر المطلوب تغييره ما يلي :
الشّرط الأوّل : أن يكون منكرا بمعنى أن يكون محظورا في الشّرع ، وقال الغزاليّ : المنكر أعمّ من المعصية ، إذ من رأى صبيّا أو مجنونا يشرب الخمر فعليه أن يريق خمره ويمنعه ، وكذا إن رأى مجنونا يزني بمجنونة أو بهيمة فعليه أن يمنعه منه ، وهذا لا يسمّى معصية في حقّ المجنون ، إذ معصية لا عاصي بها محال ، ولهذا قال صاحبا الفروق والقواعد : لا يشترط في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر أن يكون المأمور والمنهيّ عاصيين ، بل يشترط فيه أن يكون أحدهما ملابسا لمفسدة واجبة الدّفع والآخر تاركا لمصلحة واجبة التّحصيل ، وساقا جملة أمثلة للمنكر الّذي يجب تغييره ممّن يملك ذلك.
أحدها : أمر الجاهل بمعروف لا يعرف وجوبه ، ونهيه عن منكر لا يعرف تحريمه كنهي الأنبياء عليهم السلام أممهم أوّل بعثهم.
الثّاني : قتال البغاة مع أنّه لا إثم عليهم في بغيهم لتأوّلهم.
الثّالث : ضرب الصّبيان على ملابسة الفواحش وترك الصّلاة والصّيام وغير ذلك من المصالح.
الرّابع : قتل الصّبيان والمجانين إذا صالوا على الدّماء والأبضاع ولم يمكن دفعهم إلاّ بقتلهم.
الخامس : إذا وكّل وكيلا في القصاص ثمّ عفا ولم يعلم الوكيل أو أخبره فاسق بالعفو فلم يصدّقه وأراد الاقتصاص ، فللفاسق أن يدفعه بالقتل إذا لم يمكن دفعه إلاّ به دفعا لمفسدة القتل من غير حقّ.
السّادس : ضرب البهائم في التّعليم والرّياضة دفعا لمفسدة الشّراس والجماح ، وكذلك ضربها حملا على الإسراع لمسّ الحاجة إليه على الكرّ والفرّ والقتال.
ولا يقتصر الإنكار على الكبيرة ، بل يجب النّهي عن الصّغائر أيضا.
aa»
الشّرط الثّاني «aa
29 - أن يكون المنكر موجودا في الحال بأن يكون الفاعل مستمرّا على فعل المنكر ، فإن علم من حاله ترك الاستمرار على الفعل لم يجز إنكار ما وقع على الفعل ، وهو احتراز عن الحسبة على من فرغ من شرب الخمر ، واحتراز عمّا سيوجد ، كمن يعلم بقرينة الحال أنّه عازم على الشّرب في ليلة فلا حسبة عليه إلاّ بالوعظ ، وإن أنكر عزمه عليه لم يجز وعظه أيضا ، فإنّ فيه إساءة ظنّ بالمسلم ، وربّما صدّق في قوله ، وربّما لا يقدم على ما عزم عليه لعائق ، واستثني من ذلك حالتان :
الحالة الأولى : الإصرار على فعل الحرام من غير إحداث توبة فهذا يجب الإنكار عليه وفي رفعه إلى وليّ الأمر خلاف مبنيّ على وجوب السّتر واستحبابه وعلى سقوط الذّنب بالتّوبة وعدمه ، أمّا عن وجوب السّتر واستحبابه فإنّ للعلماء أقاويل نوجزها في الآتي : ذهب الأحناف إلى أنّ الشّاهد في حقوق اللّه »
أسباب الحدود « مخيّر بين حسبتين : بين أن يشهد حسبة للّه تعالى وبين أن يستر لأنّ كلّ واحد منهما أمر مندوب إليه.
قال اللّه تبارك وتعالى : {وأقيموا الشّهادة} وقال عليه الصلاة والسلام : {من ستر على مسلم ستره اللّه في الدّنيا والآخرة} وقد ندبه الشّرع إلى كلّ واحد منهما إن شاء اختار جهة الحسبة فأقامها للّه تعالى ، وإن شاء اختار جهة السّتر فيستر على أخيه المسلم ، والسّتر أولى.
وأمّا في حقوق اللّه تعالى من غير أسباب الحدود نحو طلاق وإعتاق وظهار وإيلاء ونحوها من أسباب الحرمات تلزمه إقامة الشّهادة حسبة للّه تبارك وتعالى عند الحاجة إلى إقامتها من غير طلب من أحد من العباد.
وقال المالكيّة : تجب المبادرة لأداء الشّهادة في حقّ اللّه إن استدام فيه التّحريم كالعتق والطّلاق والرّضاع والوقف ، وإن كان التّحريم ينقضي بالفراغ من متعلّقه كالزّنى وشرب الخمر كان مخيّرا في الرّفع وعدمه ، والتّرك أولى لما فيه من معنى السّتر المطلوب في غير المجاهر بالفسق.
وفي الموّاق أنّ ستر الإنسان على نفسه وعلى غيره واجب حينئذ فيكون ترك الرّفع واجبا.
وذكر العزّ بن عبد السّلام تفصيلا خلاصته أنّ الزّواجر نوعان :
أحدهما : ما هو زاجر عن الإصرار على ذنب حاضر ،
أو مفسدة ملابسة لا إثم على فاعلها وهو ما قصد به دفع المفسدة الموجودة ويسقط باندفاعها.
30 - النّوع الثّاني : ما يقع زاجرا عن مثل ذنب ماض منصرم أو عن مثل مفسدة ماضية منصرمة ولا يسقط إلاّ بالاستيفاء وهو ضربان :
أحدهما : ما يجب إعلام مستحقّه ليبرأ منه أو يستوفيه ، وذلك كالقصاص في النّفوس والأطراف وكحدّ القذف ، فإنّه يلزم من وجب عليه أن يعرف مستحقّه ليستوفيه أو يعفو عنه.
الضّرب الثّاني : ما الأولى بالمتسبّب إليه ستره كحدّ الزّنى والخمر والسّرقة.
ثمّ قال : وأمّا الشّهود على هذه الجرائم ، فإن تعلّق بها حقوق العباد لزمهم أن يشهدوا بها وأن يعرّفوا بها أربابها وإن كانت زواجرها حقّا محضا للّه فإن كانت المصلحة في إقامة الشّهادة بها ، فيشهدوا بها مثل أن يطّلعوا من إنسان على تكرّر الزّنى والسّرقة والإدمان على شرب الخمور وإتيان الذّكور فالأولى أن يشهدوا عليه دفعا لهذه المفاسد ، وإن كانت المصلحة في السّتر عليه مثل زلّة من هذه الزّلّات تقع ندرة من ذوي الهيئات ثمّ يقلع عنها ويتوب منها فالأولى أن لا يشهدوا {لقوله صلى الله عليه وسلم لهزّال : يا هزّال لو سترته بردائك كان خيرا لك} وحديث : {وأقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم} وحديث : {من ستر على مسلم ستره اللّه في الدّنيا والآخرة} وقال ابن مفلح من الحنابلة : عدم الإنكار والتّبليغ على الذّنب الماضي مبنيّ على سقوط الذّنب بالتّوبة ، فإن اعتقد الشّاهد سقوطه لم يرفعه وإلاّ رفعه.
وأمّا إذا كان مصرّا على المحرّم لم يتب ، فهذا يجب إنكار فعله الماضي وإنكار إصراره.
31 - الحالة الثّانية المستثناة من اشتراط وجود المنكر في الحال : الإنكار على أرباب المذاهب الفاسدة والبدع المضلّة.
قال إمام الحرمين في تفصيل ما إلى الأئمّة والولاة : فأمّا نظره في الدّين فينقسم إلى : النّظر في أصل الدّين ، وإلى النّظر في فروعه ، فأمّا القول في أصل الدّين فينقسم إلى حفظ الدّين بأقصى الوسع على المؤمنين ودفع شبهات الزّائفين ، وإلى دعاء الجاحدين والكافرين إلى التزام الحقّ المبين.
قال الشّاطبيّ : من أظهر بدعته ودعا إليها فحكمه حكم سائر من تظاهر بمعصية صغيرة أو كبيرة أو دعا إليها ، يؤدّب ، أويزجر ، أو يقتل ، إن امتنع من فعل واجب أو ترك محرّم.
ويرى الإمام الغزاليّ أنّ البدع كلّها ينبغي أن تحسم أبوابها وتنكر على المبتدعين بدعهم وإن اعتقدوا أنّها الحقّ.
ويرى ابن القيّم وجوب إتلاف الكتب المشتملة على البدعة ، وأنّها أولى بذلك من إتلاف آنية الخمر وآلات اللّهو والمعازف ، ولأنّ الحسبة على أهل الأضواء والبدع أهمّ من الحسبة على كلّ المنكرات.
aaالشّرط الثّالث أن يكون المنكر ظاهرا للمحتسب بغير تجسّسaa
32 - التّجسّس معناه طلب الأمارات المعرّفة فالأمارة المعرّفة إن حصلت وأورثت المعرفة جاز العمل بمقتضاها ، أمّا طلبها فلا رخصة فيه ، والحكمة من وراء ذلك أنّنا أمرنا أن نجري أحكام النّاس على الظّواهر من غير استكشاف عن الأمور الباطنة قال عمر رضي الله عنه : إنّ أناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وإنّ الوحي قد انقطع وإنّما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم ، فمن أظهر لنا خيرا أمّنّاه وقرّبناه وليس إلينا من سريرته شيء ، اللّه يحاسب سريرته ، ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه ولم نصدّقه وإن قال إنّ سريرته حسنة.
وقال القرطبيّ في قوله تعالى : {ولا تجسّسوا} خذوا ما ظهر ، ولا تتّبعوا عورات المسلمين ، أي لا يبحث أحدكم عن عيب أخيه حتّى يطّلع عليه بعد أن ستره اللّه فليس للمحتسب أن يتجسّس ولا أن يبحث أو يقتحم على النّاس دورهم بظنّ أنّ فيها منكرا ، لأنّ ذلك من قبيل التّجسّس المنهيّ عنه وفي حكمه من ابتعد عن الأنظار واستتر في موضع لا يعلم به غالبا غير من حضره ويكتمه ولا يحدّث به.
والنّاس ضربان :
أحدهما : مستور لا يعرف بشيء من المعاصي ، فإذا وقعت منه هفوة أو زلّة فإنّه لا يجوز كشفها وهتكها ولا التّحدّث بها ، لأنّ ذلك غيبة ، وفي ذلك قال اللّه تعالى : {إنّ الّذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الّذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدّنيا والآخرة} والمراد إشاعة الفاحشة على المؤمن المستتر فيما وقع منه أو اتّهم به وهو بريء منه.
والثّاني : من كان مشتهرا بالمعاصي معلنا بها ولا يبالي بما ارتكب منها ولا بما قيل له ، فهذا هو الفاجر المعلن وليس له غيبة ، ومثل هذا فلا بأس بالبحث عن أمره لتقام عليه الحدود.
أمّا تسوّر الجدران على من علم اجتماعهم على منكر فقد أنكره الأئمّة وهو داخل في التّجسّس المنهيّ عنه ويتحقّق الإظهار في حالة ما إذا أتى معصية بحيث يراه النّاس في ذهابهم وإيابهم ، أو يعلم بها عن طريق الحواسّ الظّاهرة بحيث لا تخفى على من كان خارج الدّار ، وما ظهرت دلالته فهو غير مستور بل هو مكشوف.
قال الماورديّ : ليس للمحتسب أن يبحث عمّا لم يظهر من المحرّمات ، فإن غلب على الظّنّ استسرار قوم بها لأمارة وآثار ظهرت فذلك ضربان :
أحدهما : أن يكون ذلك في انتهاك حرمة يفوت استدراكها ، مثل أن يخبره من يثق بصدقه أنّ رجلا خلا برجل ليقتله ، أو بامرأة ليزني بها ، فيجوز له في مثل هذه الحال أن يتجسّس ويقدم على الكشف والبحث حذرا من فوات ما لا يستدرك ، وكذا لو عرف ذلك غير المحتسب من المتطوّعة جاز لهم الإقدام على الكشف والإنكار.
والضّرب الثّاني : ما قصر عن هذه الرّتبة فلا يجوز التّجسّس عليه ولا كشف الأستار عنه ، فإن سمع أصوات الملاهي المنكرة من دار كان له أن ينكر ذلك من خارج الدّار وليس له أن يدخلها لأنّ المنكر ظاهر وليس عليه أن يكشف عن الباطن.
aaالإنكار بغلبة الظّنّ : الظّنّ نوعانaa
33 - نوع مذموم نهى الشّارع عن اتّباعه وأن يبنى عليه ما لا يجوز بناؤه عليه ، مثل أن يظنّ بإنسان أنّه زنى أو سرق أو قطع الطّريق أو قتل نفسا أو أخذ مالا أو ثلب عرضا ، فأراد أن يؤاخذه بذلك من غير حجّة شرعيّة يستند إليها ظنّه ، وأراد أن يشهد عليه بذلك بناء على هذا الظّنّ فهذا هو الإثم لقوله تعالى : {يا أيّها الّذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظّنّ إنّ بعض الظّنّ إثم} وحديث : {إيّاكم والظّنّ فإنّ الظّنّ أكذب الحديث}.
ونوع محمود أجمع المسلمون على وجوب اتّباعه لأنّ معظم المصالح مبنيّة على الظّنون المضبوطة بالضّوابط الشّرعيّة وإنّ ترك العمل بهذا النّوع يؤدّي إلى تعطيل مصالح كثيرة غالبة خوفا من وقوع مفاسد قليلة نادرة وذلك على خلاف حكمة الإله الّذي شرع الشّرائع لأجلها ومن هذا القبيل إنكار المنكر في مثل الحالات الآتية :
الأولى : لو رأى إنسانا يسلب ثياب إنسان لوجب عليه الإنكار عليه بناء على الظّنّ المستفاد من ظاهر يد المسلوب.
الثّانية : لو رأى رجلا يجرّ امرأة إلى منزله يزعم أنّها زوجته وهي تنكر ذلك ، فإنّه يجب الإنكار عليه لأنّ الأصل عدم ما ادّعاه.
الثّالثة : لو رأى إنسانا يقتل إنسانا يزعم أنّه كافر حربيّ دخل إلى دار الإسلام بغير أمان وهو يكذّبه في ذلك ، لوجب عليه الإنكار ، لأنّ اللّه خلق عباده حنفاء ، والدّار دالّة على إسلام أهلها لغلبة المسلمين عليها.
ففي هذه الحالات وأمثالها يعمل بالظّنون فإن أصاب من قام بها فقد أدّى ما أوجب اللّه عليه إذا قصد بذلك وجه اللّه تعالى ، وإن لم يصب كان معذورا ولا إثم عليه في فعله.
وللمحتسب أن يطوف في السّوق وأن يتفحّص أحوال أهله من غير أن يخبره أحد بخيانتهم ولا يكون هذا من قبيل التّجسّس المنهيّ عنه بل هو من صميم عمله الّذي ينبغي أن لا يشغله عنه شاغل كما سبق في بحث آداب المحتسب.
الشّرط الرّابع : أن يكون المنكر معلوما بغير اجتهاد ، فكلّ ما هو محلّ للاجتهاد فلا حسبة فيه وعبّر صاحب الفواكه الدّواني عن هذا الشّرط بقوله : أن يكون المنكر مجمعا على تحريمه ، أو يكون مدرك عدم التّحريم فيه ضعيفا وبيان ذلك : أنّ الأحكام الشّرعيّة على ضربين :
أحدهما : ما كان من الواجبات الظّاهرة كالصّلاة والصّيام والزّكاة والحجّ ، أو من.
المحرّمات المشهورة كالزّنى ، والقتل ، والسّرقة ، وشرب الخمر ، وقطع الطّريق ، والغصب ، والرّبا ، وما أشبه ذلك فكلّ مسلم يعلم بها ولا يختصّ الاحتساب بفريق دون فريق.
والثّاني : ما كان في دقائق الأفعال والأقوال ممّا لا يقف على العلم به سوى العلماء ، مثل فروع العبادات والمعاملات والمناكحات وغير ذلك من الأحكام ، وهذا الضّرب على نوعين :
أحدهما : ما أجمع عليه أهل العلم وهذا لا خلاف في تعلّق الحسبة فيه لأهل العلم ولم يكن للعوامّ مدخل فيه.
والثّاني : ما اختلف فيه أهل العلم ممّا يتعلّق بالاجتهاد ، فكلّ ما هو محلّ الاجتهاد فلا حسبة فيه.
ولكنّ هذا القول ليس على إطلاقه بل المراد به الخلاف الّذي له دليل ، أمّا ما لا دليل له فلا يعتدّ به ويقرّر هذا الإمام ابن القيّم بأنّ الإنكار إمّا أن يتوجّه إلى القول والفتوى ، أو العمل.
أمّا الأوّل فإذا كان القول يخالف سنّة أو إجماعا شائعا وجب إنكاره اتّفاقا ، وإن لم يكن كذلك فإنّ بيان ضعفه ومخالفته للدّليل إنكار مثله ، وأمّا العمل فإذا كان على خلاف سنّة أو إجماع وجب إنكاره بحسب درجات الإنكار ، وكيف يقول فقيه لا إنكار في المسائل المختلف فيها ، والفقهاء من سائر الطّوائف قد صرّحوا بنقض حكم الحاكم إذا خالف كتابا أو سنّة ، وإن كان قد وافق فيه بعض العلماء.
وأمّا إذا لم يكن في المسألة سنّة أو إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم تنكر على من عمل بها مجتهدا أو مقلّدا وقال الإمام النّوويّ : ولا ينكر محتسب ولا غيره على غيره ، وكذلك قالوا : ليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصّا أو إجماعا أو قياسا جليّا.
وهذا الحكم متّفق عليه عند الأئمّة الأربعة ، فإنّ الحكم ينقص إذا خالف الكتاب أو السّنّة أو الإجماع أو القياس وتفصيل ذلك يرجع إليه في مصطلح »
فتوى وقضاء «.
aaأقسام المنكرaa
34 - المنكر على ثلاثة أقسام
أحدها : ما كان من حقوق اللّه تعالى.
والثّاني : ما كان من حقوق الآدميّين.
والثّالث : ما كان مشتركا بين الحقّين.
aaفأمّا النّهي عنها في حقوق اللّه تعالى فعلى أقسامaa
أحدها : ما تعلّق بالعقائد.
والثّاني : ما تعلّق بالعبادات.
والثّالث : ما تعلّق بالمحظورات.
والرّابع : ما تعلّق بالمعاملات.
فأمّا المتعلّق بالعقائد فإنّ الحقّ فيها هو جملة ما عليه أهل الحديث وأهل السّنّة والجماعة.
ومن أخصّ خصائصهم أنّهم يتّبعون أمّ الكتاب ويتركون المتشابه ، وأمّ الكتاب يعمّ ما هو من الأصول الاعتقاديّة والعمليّة.
وأمّا المتعلّق بالعبادات فكالقاصد مخالفة هيئتها المشروعة والمتعمّد تغيير أوصافها المسنونة ، مثل أن يقصد الجهر في صلاة الإسرار ، والإسرار في صلاة الجهر ، أو يزيد في الصّلاة أو في الأذان أذكارا غير مسنونة ، فللمحتسب إنكارها ، وتأديب المعاند فيها ، إذا لم يقل بما ارتكبه إمام متبوع.
وأمّا ما تعلّق بالمحظورات فهو أن يمنع النّاس من مواقف الرّيب ومظانّ التّهمة ، فقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : {دع ما يريبك إلى ما لا يريبك} فيقدّم الإنكار ولا يعجّل بالتّأديب قبل الإنكار.
وأمّا ما تعلّق بالعاملات المنكرة كالرّبا والبيوع الفاسدة ، وما منع الشّرع منه مع تراضي المتعاقدين به إذا كان متّفقا على حظره ، فعلى والي الحسبة إنكاره والمنع منه والزّجر عليه.
وأمّا ما اختلف الفقهاء في حظره وإباحته فلا مدخل له في إنكاره إلاّ أن يكون بما ضعف الخلاف فيه وكان ذريعة إلى محظور متّفق عليه ، كربا النّقد ، فالخلاف فيه ضعيف ، وهو ذريعة إلى ربا النّساء المتّفق على تحريمه.
وممّا هو عمدة نظره المنع من التّطفيف والبخس في المكاييل والموازين والصّنجات ، وله الأدب عليه والمعاقبة فيه.
ويجوز له إذا استراب بموازين أهل السّوق ومكاييلهم أن يختبرها ويعايرها ، ولو كان على ما عايره منها طابع معروف بين العامّة لا يتعاملون إلاّ به كان أحوط وأسلم.
فإن فعل ذلك وتعامل قوم بغير ما طبع عليه طابعه توجّه الإنكار عليهم - إن كان مبخوسا - من وجهين :
أحدهما : لمخالفته في العدول عن مطبوعه وإنكاره من الحقوق السّلطانيّة.
والثّاني : للبخس والتّطفيف وإنكاره من الحقوق الشّرعيّة ، فإن كان ما تعاملوا به من غير المطبوع سليما من بخس ونقص توجّه الإنكار عليهم بحقّ السّلطنة وحدها لأجل المخالفة.
وإن زوّر قوم على طابعه كان الزّور فيه كالمبهرج على طابع الدّراهم والدّنانير ، فإن قرن التّزوير بغشّ كان الإنكار عليه والتّأديب مستحقّا من وجهين :
أحدهما : في حقّ السّلطنة من جهة التّزوير.
والثّاني : من جهة الشّرع في الغشّ وهو أغلظ النّكرين ، وإن سلم التّزوير من غشّ تفرّد بالإنكار لحقّ السّلطنة خاصّة
وأمّا الحسبة في حقوق الآدميّين المحضة :
فمنها ما يتعلّق بالجيران مثل أن يتعدّى رجل في حدّ لجاره ، أو في حريم لداره ، أو في وضع أجذاع على جداره ، فلا اعتراض للمحتسب فيه ما لم يستعده الجار ، لأنّه حقّ يخصّه يصحّ منه العفو عنه والمطالبة به ، فإن خاصمه إلى المحتسب نظر فيه ما لم يكن بينهما تنازع وتناكر ، وأخذ المتعدّي بإزالة تعدّيه ، وكان تأديبه عليه بحسب شواهد الحال.
ومنها ما يتعلّق بأرباب المهن والصّناعات وهم ثلاثة أصناف :
منهم من يراعى عمله في الوفور والتّقصير.
ومنهم من يراعى حاله في الأمانة والخيانة.
ومنهم من يراعى عمله في الجودة والرّداءة.
فأمّا من يراعى عمله في الوفور والتّقصير فكالطّبيب والمعلّمين ، لأنّ للطّبيب إقداما على النّفوس يفضي التّقصير فيه إلى تلف أو سقم ، وللمعلّمين من الطّرائق الّتي ينشأ الصّغار عليها ما يكون نقلهم عنه بعد الكبر عسيرا ، فيقرّ منهم من توفّر علمه وحسنت طريقته ، ويمنع من قصّر وأساء.
وأمّا من يراعى حاله في الأمانة والخيانة فمثل الصّاغة والحاكة والقصّارين والصّبّاغين ، لأنّهم ربّما هربوا بأموال النّاس ، فيراعي أهل الثّقة والأمانة منهم فيقرّهم ، ويبعد من ظهرت خيانته.
وأمّا من يراعى عمله في الجودة والرّداءة ممّا يتعلّق بفساد العمل ورداءته وإن لم يكن فيه مستعديا ، وإمّا في عمل مخصوص اعتاد الصّانع فيه الفساد والتّدليس ، فإذا استعداه الخصم قابل عليه بالإنكار والزّجر ، فإن تعلّق بذلك غرم روعي حال الغرم ، فإن افتقر إلى تقدير أو تقويم لم يكن للمحتسب أن ينظر فيه لافتقاره إلى اجتهاد حكميّ ، وكان القاضي بالنّظر فيه أحقّ ، وإن لم يفتقر إلى تقدير ولا تقويم واستحقّ فيه المثل الّذي لا اجتهاد فيه ولا تنازع ، فللمحتسب أن ينظر فيه بإلزام الغرم والتّأديب على فعله ، لأنّه أخذ بالتّناصف وزجر عن التّعدّي.
وأمّا الحسبة في الحقوق المشتركة بين حقوق اللّه وحقوق الآدميّين : فكالمنع من الإشراف على منازل النّاس ، ولا يلزم من علا بناؤه أن يستر سطحه وإنّما يلزم أن لا يشرف على غيره.
وإذا كان في أئمّة المساجد السّابلة والجوامع الحافلة من يطيل الصّلاة حتّى يعجز الضّعفاء وينقطع بها ذوو الحاجات أنكر ذلك ، وإذا كان في القضاة من يحجب الخصوم إذا قصدوه بمنع النّظر بينهم إذا تحاكموا إليه حتّى تقف الأحكام ويتضرّر الخصوم فللمحتسب الإنكار عليه مع ارتفاع الأعذار ، ولا يمنع علوّ رتبته من إنكار ما قصّر فيه.
وإن كان في أرباب المواشي من يستعملها فيما لا تطيق الدّوام عليه أنكره المحتسب عليهم ومنعهم منه.
وللمحتسب أن يمنع أرباب السّفن من حمل ما لا تسعه ويخاف منه غرقها ، وكذلك يمنعهم من المسير عند اشتداد الرّيح ، وإذا حمل فيها الرّجال والنّساء حجز بينهم بحائل ، وإذا كان في أهل الأسواق من يختصّ بمعاملة النّساء راعى المحتسب سيرته وأمانته فإذا تحقّق منه أقرّه على معاملتهنّ.
وإن بنى قوم في طريق سابلا منع منه ، وإن اتّسع له الطّريق ، ويأخذهم بهدم ما بنوه.
ولو كان المبنيّ مسجدا ، لأنّ مرافق الطّريق للسّلوك لا للأبنية ، ويجتهد المحتسب ، وإذا وضع النّاس الأمتعة وآلات الأبنية في مسالك الشّوارع والأسواق ارتفاعا لينقلوه حالا بعد حال مكّنوا منه إن لم يستضرّ به المارّة.
ومنعوا منه إن استضرّوا به.
وهكذا القول في إخراج الأجنحة والأسبطة ومجاري المياه يقرّ ما لا يضرّ ويمنع ما ضرّ ، ويجتهد رأيه فيما ضرّ لا يضرّ ، لأنّه من الاجتهاد العرفيّ دون الشّرعيّ.
ولوالي الحسبة أن يمنع من نقل الموتى من قبورهم إذا دفنوا في ملك أو مباح إلاّ من أرض مغصوبة فيكون لمالكها أن يأخذ من دفنه فيها بنقله منها.
ويمنع من خصاء الآدميّين والبهائم ويؤدّب عليه وإن استحقّ فيه قود أو دية استوفاه لمستحقّه ما لم يكن فيه تنازع وتناكر.
ويمنع من التّكسّب بالكهانة واللّهو ، ويؤدّب عليه الآخذ والمعطي.
aaالرّكن الثّالث : المحتسب عليهaa
35 - المحتسب عليه هو المأمور بالمعروف والمنهيّ عن المنكر وشرطه أن يكون ملابسا لمفسدة واجبة الدّفع ، أو تاركا لمصلحة واجبة الحصول وقال الغزاليّ : وشرطه أن يكون بصفة مصير الفعل الممنوع في حقّه منكرا ، ولا يشترط كونه مكلّفا ، ولا يشترط في المأمور والمنهيّ أن يكونا عاصيين.
ولهذا أمثلة تقدّمت في معنى المنكر والمراد منه.
aaأوّلا - الاحتساب على الصّبيانaa
36 - صرّح ابن حجر الهيتميّ بالوجوب ، ونقل عن الأئمّة أنّه يجب إنكار الصّغيرة والكبيرة ، بل لو لم يكن الفعل معصية لخصوص الفاعل ، كمنع الصّغير والمجنون عن شرب الخمر والزّنى.
ورجّح ابن مفلح والسّفارينيّ الوجوب عند ابن الجوزيّ ، ورجّح الحجّاويّ الاستحباب وقال : يستحبّ الإنكار على الأولاد الّذين دون البلوغ سواء أكانوا ذكورا أم إناثا تأديبا لهم وتعليما.
aaثانيا - الاحتساب على الوالدينaa
37 - أجمع الفقهاء على أنّ للولد الاحتساب عليهما ، لأنّ النّصوص الواردة في الأمر والنّهي مطلقة تشمل الوالدين وغيرهما ، ولأنّ الأمر والنّهي لمنفعة المأمور والمنهيّ ، والأب والأمّ أحقّ أن يوصل الولد إليهما المنفعة ولكن لا يتجاوز مرتبتي التّعرّف والتّعريف ، وقد اختلف الفقهاء فيما يجاوز ذلك بحيث يؤدّي إلى سخطهما بأن يكسر مثلا عودا ، أو يريق خمرا ، أو يحلّ الخيوط عن ثيابه المنسوجة من الحرير ، أو يردّ ما يجده في بيتهما من المال الحرام.
وذهب الغزاليّ إلى أنّ للولد فعل ذلك لأنّ هذه الأفعال لا تتعلّق بذات الأب.
فسخط الأب في هذه الحالة منشؤه حبّه للباطل وللحرام.
وذهب آخرون إلى عدم جواز ذلك وهو مذهب الحنفيّة ونقله القرافيّ عن مالك وهو أيضا مذهب أحمد.
قال صاحب نصاب الاحتساب : السّنّة في أمر الوالدين بالمعروف أن يأمرهما به مرّة فإن قبلا فبها ، وإن كرها سكت عنهما ، واشتغل بالدّعاء والاستغفار لهما ، فإنّه تعالى يكفيه ما يهمّه من أمرهما.
وقال في موضع آخر : يجوز للولد أن يخبر المحتسب بمعصية والديه إذا علم الولد أن أبويه لا يمتنعان بموعظته.
ونقل القرافيّ عن مالك أنّ الوالدين يؤمران بالمعروف وينهيان عن المنكر ويخفض لهما في ذلك جناح الذّلّ من الرّحمة.
وروي عن أحمد مثل ذلك ، وفي رواية حنبل إذا رأى أباه على أمر يكرهه يكلّمه بغير عنف ولا إساءة ، ولا يغلّظ له في الكلام ، وليس الأب كالأجنبيّ ، وفي رواية يعقوب بن يوسف إذا كان أبواه يبيعان الخمر لم يأكل من طعامهما ، وخرج عنهما.
أمّا الاحتساب بالتّعنيف والضّرب والإرهاق إلى ترك الباطل ، فإنّ الغزاليّ يتّفق مع غيره في المنع منه حيث قال : إنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ورد عامّا ، وأمّا النّهي عن إيذاء الأبوين فقد ورد خاصّا في حقّهما ممّا يوجب استثناءهما من ذلك العموم ، إذ لا خلاف في أنّ الجلّاد ليس له أن يقتل أباه في الزّنى حدّا ، ولا له أن يباشر إقامة الحدّ عليه ، بل لا يباشر قتل أبيه الكافر ، بل لو قطع يده لم يلزم قصاص ، ولم يكن له أن يؤذيه في مقابلته ، فإذا لم يجز له إيذاؤه بعقوبة هي حقّ على جناية سابقة ، فلا يجوز له إيذاؤه بعقوبة هي منع عن جناية مستقبلة متوقّعة بل أولى وترخّص ابن حجر في حالة الاضطرار مجاوزة الرّفق إلى الشّدّة.
aaثالثا - احتساب التّلميذ على الشّيخ ، والزّوجة على زوجها ، والتّابع على المتبوعaa
38 - عقد النّوويّ في الأذكار بابا في وعظ الإنسان من هو أجلّ منه وقال : اعلم أنّ هذا الباب ممّا تتأكّد العناية به ، فيجب على الإنسان النّصيحة ، والوعظ ، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر لكلّ صغير وكبير ، إذا لم يغلب على ظنّه ترتّب مفسدة على وعظه.
وألحق الإمام الغزاليّ الزّوجة بالنّسبة لزوجها بالولد بالنّسبة لأبيه.
وقال في باب ما يقوله التّابع للمتبوع إذا فعل ذلك أو نحوه : اعلم أنّه يستحبّ للتّابع إذا رأى شيخه وغيره ممّن يقتدي به شيئا في ظاهره مخالفة المعروف أن يسأله عنه بنيّة الاسترشاد ، فإن كان فعله ناسيا تداركه ، وإن فعله عامدا وهو صحيح في نفس الأمر بيّنه له ، وأورد جملة آثار في ذلك.
وللإمام الغزاليّ تفصيل ، فبعد أن قرّر كأصل عامّ أنّ المحترم هو الأستاذ المفيد للعلم من حيث الدّين ، ولا حرمة لعالم لا يعمل بعلمه ويعامله بموجب علمه الّذي تعلّمه منه.
قال بسقوط الحسبة على المتعلّم إذا لم يجد إلاّ معلّما واحدا ولا قدرة له على الرّحلة إلى غيره ، وعلم أنّ المحتسب عليه قادر على أن يسدّ عليه طريق الوصول إليه ، ككون العالم مطيعا له أو مستمعا لقوله ، فالصّبر على الجهل محذور ، والسّكوت على المنكر محذور ، ولا يبعد أن يرجّح أحدهما ويختلف ذلك بتفاحش المنكر وشدّة الحاجة إلى العلم لتعلّقه بمهمّات الدّين.
وناط الاحتساب وتركه باجتهاد المحتسب حتّى يستفتي فيها قلبه ، ويزن أحد المحذورين بالآخر ويرجّح بنظر الدّين لا بموجب الهوى والطّبع.
aaرابعا - احتساب الرّعيّة على الأئمّة والولاةaa
39 - أجمع الفقهاء على وجوب طاعة الأئمّة والولاة في غير معصية ، وعلى تحريمها في المعصية ويرى الغزاليّ أنّ الجائز في الحسبة من الرّعيّة على الأئمّة والولاة رتبتان : التّعريف والوعظ ، أمّا ما تجاوز ذلك فإنّه يحرّك الفتنة ويهيّج الشّرّ ، ويكون ما يتولّد منه من المحذور أكثر.
وزاد ابن الجوزيّ : وإن لم يخف إلاّ على نفسه فهو جائز عند جمهور الفقهاء.
aaخامسا - الاحتساب على أهل الذّمّةaa
40 - أهل الذّمّة عاهدوا المسلمين على أن يجري عليهم حكم اللّه ورسوله ، إذ هم مقيمون في الدّار الّتي يجري فيها حكم اللّه ورسوله بخلاف أهل الهدنة فإنّهم صالحوا المسلمين على أن يكونوا في دارهم ، ولا تجري عليهم أحكام الإسلام ، وبخلاف المستأمنين فإنّ إقامتهم في بلاد المسلمين من غير استيطان لها ، ولذلك كان لأهل الذّمّة أحكام تخصّهم دون هؤلاء.
ومن هذه الأحكام أنّهم إن أقاموا مع المسلمين في مصر واحد فإنّه يحتسب عليهم في كلّ ما يحتسب فيه على المسلمين ، ولكن لا يتعرّض لهم فيما لا يظهرونه في كلّ ما اعتقدوا حلّه في دينهم ممّا لا أذى للمسلمين فيه من الكفر وشرب الخمر واتّخاذه ، ونكاح ذوات المحارم ، فلا تعرّض لهم فيما التزمنا تركه ، وما أظهروه من ذلك تعيّن إنكاره عليهم ، ويمنعون من إظهار ما يحرم على المسلمين.
وإذا انفردوا في مصرهم فلا يمنعون من إظهار ذلك ، وكذلك في القرى ، ولو كان من بين سكّانها مسلمون ، لأنّها ليست بموضع إعلام الدّين من إقامة الجمعة والأعياد وإقامة الحدود وتنفيذ الأحكام.
وإذا أظهروا شيئا من الفسق في قراهم ممّا لم يصالحوا عليه مثل الزّنى وإتيان الفواحش منعوا منه ، لأنّ هذا ليس بديانة منهم ، ولكنّه فسق في الدّيانة فإنّهم يعتقدون حرمة ذلك كما يعتقده المسلمون.
وتفصيل ذلك في مصطلح »
أهل الذّمّة ".
«الرّكن الرّابع : في الاحتساب ومراتبه»
41 - القيام بالحسبة - وهو الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر - من أعظم الواجبات وأهمّ المحتسبات ذكره اللّه في كتابه مرّات كثيرة وامتدحه فيه بأساليب عديدة ، وكان حظّه مع ذلك من السّنّة أوفر وذكره فيها أكثر ، وذلك لعظم ما يترتّب عليه من مصالح ، وما يدرأ به من مفاسد ، وذلك أساس كلّ ما أمر به الدّين ، وحكمة كلّ ما نهى عنه.
والمعتبر في ذلك هو رجحان أحد النّوعين على الآخر إذ لا يخلو كلّ أمر ونهي من مصلحة يحقّقها ومفسدة يترتّب عليه ، فإذا رجحت المصلحة أمر به ، وإذا رجحت المفسدة نهى عنه.
كان كلّ من الأمر والنّهي في هذه الحال مشروعا وطاعة مطلوبة ، وكان تركها ، أو وضع أحدهما موضع الآخر عصيانا وأمرا محرّما مطلوبا تركه ، لأنّ مغبّة ذلك الفساد واللّه لا يحبّ الفساد.
«مراتب الاحتساب : ذكر بعض العلماء في مراتب التّغيير ما يمكن إيجازه فيما يلي»
42 - النّوع الأوّل : التّنبيه والتّذكير وذلك فيمن يعلم أنّه يزيل فساد ما وقع لصدور ذلك على غرّة وجهالة ، كما يقع من الجاهل بدقائق الفساد في البيوع ، ومسالك الرّبا الّتي يعلم خفاؤها عنه ، وكذلك ما يصدر من عدم القيام بأركان الصّلاة وشروط العبادات فينبّهون بطريق.
التّلطّف والرّفق والاستمالة.
43 - النّوع الثّاني : الوعظ والتّخويف من اللّه ويكون ذلك لمن عرف أنّه قد اقترف المنكر وهو عالم به من أنواع المعاصي الّتي لا تخفى على المسلم المكلّف فيتعاهده المحتسب بالعظة والإخافة من ربّه.
44 - النّوع الثّالث : الزّجر والتّأنيب والإغلاظ بالقول والتّقريع باللّسان والشّدّة في التّهديد والإنكار ، وذلك فيمن لا ينفع فيه وعظ ، ولا ينجح في شأنه تحذير برفق ، بل يظهر عليه مبادئ الإصرار على المنكر والاستهزاء بالعظة ، ويكون ذلك بما لا يعدّ فحشا في القول ولا إسرافا فيه خاليا من الكذب ، ومن أن ينسب إلى من نصحه ما ليس فيه مقتصرا على قدر الحاجة حتّى لا يكون من نتيجته إصرار واستكبار.
45 - النّوع الرّابع : التّغيير باليد بإزالة ذلك المنكر وذلك فيمن كان حاملا الخمر ، أو ماسكا لمال مغصوب ، وعينه قائمة بيده ، وربّه متظلّم من بقاء ذلك بيده ، طالب رفع المنكر في بقائه تحت حوزه وتصرّفه ، فأمثال هذا لا بدّ فيه من الزّجر والإغلاظ من المباشرة للإزالة باليد ، أو ما يقوم مقام اليد كأمر الأعوان الممتثلين أمر المغيّر في إزالة المنكر.
46 - النّوع الخامس : إيقاع العقوبة بالنّكال والضّرب.
وذلك فيمن تجاهر بالمنكر وتلبّس بإظهاره ولم يقدر على دفعه إلاّ بذلك.
47 - النّوع السّادس : الاستعداء ورفع الأمر إلى الحاكم والإمام لما له من عموم النّظر ونفوذ الكلمة ، ما لم تدع الضّرورة لترك النّصرة به لما يخشى من فوات التّغيير ، فيجب قيام المحتسب بما تدعو إليه الحاجة في الحال.
48 - وقد ذهب الفقهاء إلى أنّ للمحتسب أن يتّخذ ما يلزمه من أمور الحسبة بما يرى فيه صلاح الرّعيّة ، وزجر المفسدين ، وله في سبيل ذلك - بوجه خاصّ - التّعزير في كلّ معصية لا حدّ فيها ولا كفّارة ، ممّا لا يدخل في اختصاص القاضي ، ويكون التّعزير بالضّرب ، أو الحبس ، أو الإتلاف ، أو القتل أو النّفي.
وتفصيل ذلك في مصطلح « تعزير ".
aaخطأ المحتسب وما يترتّب عليه من الضّمان »
ضمان الولاة «aa
49 - المحتسب مأمور بإزالة المنكر ، فله أن يحتسب على كلّ من اقترف شيئا من المعاصي وأن يعاقبه عليها بما يراه مناسبا ، وقد يحدث أثناء ذلك تجاوز في العقوبة ، فيتسبّب عنه تلف في المال أو في البدن فهل يضمن شيئا من ذلك ؟ اختلف الفقهاء في حكم التّجاوز في إتلاف المال على الوجه الآتي : ذهب الحنفيّة وأحمد في إحدى الرّوايات عنه إلى عدم الضّمان مطلقا وقال الحنابلة : لا ضمان في إتلاف خمر وخنزير ، وكذا لو كسر صليبا أو مزمارا أو طنبورا أو صنما.
للنّهي عن بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام.
ولحديث : {بعثت بمحق القينات والمعازف} وقال صاحب المغني : وفي كسر آنية الخمر روايتان.
وذهب المالكيّة والشّافعيّة وهي الرّواية الأخرى عند الحنابلة إلى الضّمان إذا تجاوز المحتسب القدر المحتاج إليه.
قال صاحب تحفة النّاظر من المالكيّة : إذا لم يقع التّمكّن من إراقة الخمر إلاّ بكسر أنابيبها وتحريق وعائها ، فلا ضمان على من فعل ذلك على الوجه المتقدّم في هذا النّوع ، وإن أمكن زوال عينها مع بقاء الوعاء سليما ولم يخف الفاعل مضايقة في الزّمان ولا في المكان بتغلّب فاعله مع انتفاء هذه الموانع ضمن قيمته ، إن كان لأمثاله قيمة وهو ينتفع في غير الخمر.
وقال الغزاليّ : وفي إراقة الخمور يتوقّى كسر الأواني إن وجد إليه سبيلا وحيث كانت الإراقة متيسّرة بلا كسر ، فكسرها لزمه الضّمان.
وقال أيضا : الوالي له أن يفعل ذلك إذا رأى المصلحة فيه ، وله أن يأمر بكسر الظّروف الّتي فيها الخمر زجرا ، وقد فعل ذلك في زمن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم تأكيدا للزّجر ، ولم يثبت نسخه ، ولكن كانت الحاجة إلى الزّجر والفطام شديدة ، فإذا رأى الوالي باجتهاده مثل الحاجة جاز له مثل ذلك ، وإذا كان هذا منوطا بنوع اجتهاد دقيق لم يكن ذلك لآحاد الرّعيّة.
50 - أمّا الشّقّ الآخر وهو الضّمان في تلف النّفوس بسبب ما يقوم به المحتسب ، فإنّ للفقهاء أقوالا في ذلك : ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّ من مات من التّعزير لم يجب ضمانه ، لأنّها عقوبة مشروعة للرّدع والزّجر ، فلم يضمن من تلف بها كالحدّ ، ولأنّه فعل ما فعل بأمر الشّرع ، وفعل المأمور لا يتقيّد بشرط السّلامة ، ولأنّه استوفى حقّ اللّه تعالى بأمره ، فصار كأنّ اللّه أماته من غير واسطة فلا يجب الضّمان.
أمّا المالكيّة فقد قال صاحب التّبصرة : فإن عزّر الحاكم أحدا فمات أو سرى ذلك إلى النّفس فعلى العاقلة ، وكذلك تحمل العاقلة الثّلث فأكثر ، وفي عيون المجالس للقاضي عبد الوهّاب إذا عزّر الإمام إنسانا فمات في التّعزير لم يضمن الإمام شيئا لا دية ولا كفّارة.
وذهب المحقّقون من فقهائهم إلى أنّ عدم الضّمان مبنيّ على ظنّ السّلامة ، فإن شكّ فيها ضمن ما سرى على نفس أو عضو ، وإن ظنّ عدم السّلامة فالقصاص.
والشّافعيّ يرى التّضمين في التّعزير إذا حصل به هلاك ، لأنّه مشروط بسلامة العاقبة ولا يعفى من التّعزير إلاّ أن يكون الهلاك بنحو توبيخ بكلام وصفع فلا شيء فيه ولا ضمان على من عزّر غيره بإذنه ، ولا على من عزّره ممتنعا من أداء حقّ عليه ، وإن أدّى إلى قتله قال الرّمليّ : للحاكم تعزير الممتنع من أداء دين عليه بعد طلب مستحقّه بحبس أو ضرب وإن زاد على التّعزير بل وإن أدّى إلى موته لأنّه بحقّ ولا ضمان عليه فيه.
ولا يكون التّعزير بما يقتل غالبا ، فإن ضربه ضربا يقتل غالبا أو بما يقتل غالبا أو قصد قتله وجب القصاص أو دية مغلّظة في ماله.
وتفصيل ذلك في مصطلحات : »
تعزير ، حدود ، ضمان '.
«مقدار الضّمان وعلى من يجب»
51 - وحيث قيل بوجوب الضّمان ففي قدره قولان :
الأوّل : لزوم كامل الدّية لأنّه قتل حصل من جهة اللّه وعدوان الضّارب ، فكان الضّمان على العادي ، كما لو ضرب مريضا سوطا فمات به ، ولأنّه تلف بعدوان وغيره فأشبه ما لو ألقى على سفينة موقرة حجرا فغرّقها ، وهو قول المالكيّة والحنابلة.
والثّاني : عليه نصف الضّمان لأنّه تلف بفعل مضمون وغير مضمون ، فكان الواجب نصف الدّية كما لو جرح نفسه وجرحه غيره فمات وبهذا قال أبو حنيفة والشّافعيّ في أحد قوليه.
والقول الآخر : يجب من الدّية بقدر ما تعدّى به.
«على من يجب الضّمان»
52 - في غير حالات التّعمّد والتّعدّي إذا قلنا يضمن الإمام فهل يلزم عاقلته أو بيت المال ؟ اختلف العلماء على قولين :
أحدهما : هو في بيت المال لأنّ خطأه يكثر فلو وجب ضمانه على عاقلته أجحف بهم وهو قول الحنفيّة ورواية عند الحنابلة.
والثّانية : على عاقلته لأنّها وجبت بخطئه فكانت على عاقلته ، كما لو رمى صيدا فقتل آدميّا.
وهو قول المالكيّة والشّافعيّة والرّواية الثّانية عند الحنابلة.


الموسوعة الفقهية الكويتيه



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق