الأربعاء، 12 ديسمبر 2012

أغلوطة ابن رشـد بقلم د. يوسف زيدان

الوهم :
    هو (الفيلسوف المدلَّل) فى كتابات معاصرينا، وهو قبل هذا (الفقيه المالكى) وطبيب السلطان: أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد. المعروف بابن رشد الحفيد، تمييزاً له عن جده (أبى الوليد ابن رشد) الذى كان أيضاً : (فقيهاً) يحمل الكنية واللقب نفسهما.. وكان مولد (ابن رشدنا) سنة 520 هجرية، وتوفى وهو فى الخامسة والسبعين من عمره سنة 595 هجرية.
    وللمعاصرين افتتانٌ بابن رشد، بل فتنةٌ وتهويل وتدليل.. فهو عندهم : شهيدُ الفلسفة.. وأعظمُ الفلاسفة وآخرهم فى تاريخ الإسلام.. والطبيبُ العظيم.. والعقلانىُّ الهائلُ.. إلى آخر هذه الخرافات!
الواقع:
    لاشك فى أن ابن رشد شخصية (مهمة) فى تاريخ الفكر الفلسفى الإسلامى، لكنه لم يكن بحال (شهيداً) للفلسفة أو غير الفلسفة، فقد عاش فى كنف الأمير أبى يعقوب ومن بعده فى كنف ولده الأمير أبى يوسف يعقوب المنصور.. فتولَّى قضاء (قرطبة) وصار طبيب السلطان، وكان له شأنٌ كبير بين معاصريه.
    غير أن (المنصور) غضب عليه مرةً، لأنه كان يرفع معه التكليف، ويخاطبه بقوله (اسمعْ يا أخى) وهو ما كان السلطان يمتعض منه، حتى أنه استمع فيه إلى وشايات أعدائه، وكان الوقت آنذاك زمن حرب واقتتال، ولامجال للمماحكات.. فأمر بنفى ابن رشد إلى بلدة ألْيُسَانة وهى بلدة هادئة قريبة من قرطبة، أغلب سكَّانها من اليهود الذين كانوا آنذاك يشتغلون بالعلم.. كما أمر السلطان بإحراق كتبه (التى هى فى معظمها شروحٌ على كتب أرسطو، وضعها ابن رشد بتكليفٍ سلطانىٍّ سابق) فأُحرقت بعض النسخ من هذه الكتب بقرطبة، فى مشهدٍ مسرحىٍّ لايعنى أكثر من إظهار غضب المنصور على ابن رشد! إذ الجميع يعلم أن لهذه الكتب نسخٌ أخرى لاحصر لها، وأنها ستبقى من بعدهم.. إلى زماننا هذا، حيث تمتلىء رفوف مكتباتنا بنشراتها، وتحقيقاتها، وركام من الدراسات حولها.
    ولم يكن ابن رشد، وحده، فى هذه المحنة العارضة، وإنما انصبَّ غضب المنصور وقتها، على جماعة من المفكرين والعلماء، منهم : القاضى أبو عبد الله الأُصولى، الشاعر أبو العباس الحافظ، أبو جعفر الذهبى، أبو الربيع الكفيف، محمد بن إبراهيم.. وبعد سنة واحدة وثمانية شهور، رضى السلطان على ابن رشد، وعاد الأخير إلى (قرطبة) ليتولَّى منصبه السابق، فيصير (طبيب البلاط) حتى توفى فتولَّى بعده ابنه أبو محمد عبد الله المنصب نفسه.. ويقال إن بعض أولاده الآخرين، لجئوا بعد وفاته إلى بلاط هوهنشاوفن (بألمانيا) وعاشوا هناك!
    وكان أصعب ما مَرَّ على (شهيد الفلسفة) بحسب شهادته هو، التى رواها عنه الأنصارى (كاتب سيرته) هى، بالنص :
أعظم ما طرأ علىَّ فى النكبة، أنـِّى دخلتُ أنا وولدى عبد الله مسجداً بقرطبة، وقد حانت صلاةُ العصر، فثــار لنـا بعض سفلة العامة، فأخرجونا منه!    أما الزعم بأن ابن رشد هو أعظم الفلاسفة المسلمين وآخرهم، فما هو إلا تهويلٌ ومبالغة. فقد كان الرجل فيلسوفاً، كالآخرين، يسعى لتأكيد الصلة بين الدين والفلسفة، كالآخرين، ويجتهد فى بيان أهمية إعمال العقل فى كل الأمور، كالآخرين، ويضع المؤلفات ويدبج الفتاوى وينتقد السابقين، كالآخرين.. وهو -بالقطع- ليس آخر الفلاسفة الإسلاميين، وإلا فأين سنضع نصير الدين الطوسى، وأثير الدين الأبهرى، وأفضل الدين الخونجى، و علاء الدين ابن النفيس، وعضد الدين الإيجى، وغيرهم، وكلهم من أهل القرن السابع الهجرى (عاش ابن رشد وتوفى فى القرن السادس الهجرى) وأين سنضع اللاحقين عليهم من أهل القرون التالية، أمثال : صدر الدين الشيرازى، وسعد الدين التفتازانى، والسيد الشريف الجرجانى.. وغيرهم، ناهيك عن فلاسفة الصوفية، من أمثال ابن عربى وعبد الكريم الجيلى.. وغيرهما.
    ولم يكن ابن رشد طبيباً عظيماً، وكتابه المتداول اليوم (الكليات) هو محض كلامٍ نظرىٍّ تقليدىٍّ فى الطب، لم يخرج عما كان سائداً من قبل ابن رشد.. فالكتاب لايمثل فتحاً طبياً، ولا اعتمد عليه طبيبٌ واحد، ممن جاءوا بعد ابن رشد! ولقد أمضيتُ السنوات الطوال فى دراسة تاريخ الطب العربى الإسلامى، وفهرستُ آلاف المخطوطات؛ ولم أجد إشارةً واحدة لابن رشد عند كبار الأطباء اللاحقين عليه، ابتداءً من موفق الدين البغدادى وابن النفيس (القرن السابع الهجرى) حتى داود الأنطاكى والقوصونى (القرن الحادى عشر الهجرى).. بل إلى يوم الناس هذا!
    وابن رشد لم يزعم أنه طبيب عظيم، وإنما وجد معاصره ابن زهر يضع كتاباً فى المعالجات ومداواة الأمراض والأمور (الجزئية) عنوانه : التيسير.. فأراد هو أن يستكمله بالكلام فى (الكليات). وكل مَنْ درس تاريخ العلوم، يعرف أن الطب - وسائر العلوم - كان يتقدَّم عبر التاريخ الإنسانى، بالبحوث الجزئية وبالاكتشافات وبالمعالجات.. وليس بالكلام فى الكليات.
    وأخيراً، فابن رشد ليس عقلانياً هائلاً كما يزعمون.. فهو، كسائر فلاسفة الإسلام، يعتنى بالعقل. غير أن بعض هؤلاء الفلاسفة، ومنهم أستاذه ابن طفيل، تجاوزوا البحث العقلى وقرنوه بالذوق والإدراك الصوفى (فوق الحسى).. وهو ما لم يفعله ابن رشد. لكنهم كلهم، أهلُ علمٍ وفلسفةٍ وفضل، ولافضل لبعضهم على بعض بهذه العقلانية المزعومة لابن رشد.
    والرأى عندى، أن مبالغة معاصرينا فى أمر ابن رشد، إنما هى عدوى أصابتهم لما وجدوا الغرب يحتفى بابن رشد، نظراً لتأثيره فى الفكر الغربى.. فراح أهلونا، أو بعض أهلينا من الباحثين، يسايرون الغربيين فى اهتمامهم بابن رشد.. فتابعهم هؤلاء الباحثون العرب حذو النعل، حتى لو اقتضى ذلك منهم، إهدار السياق الحقيقى للفلسفة الإسلامية، وتضييع الرؤية الواضحة لتاريخنا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق